“ثورة الياسمين” لم تأت قبل أوانها بيوم ولم تتأخر عنه ساعة حين اكتملت أسبابها.

ومن المؤكد أن النظام التونسي كان أفضل من أنظمة عربية كثيرة على أكثر من صعيد ومن المؤكد أيضا أنه لم يكن أسوأها على مستوى حرية التعبير وحقوق الإنسان. ولا أعتقد أن محاولة زين العابدين الاحتفاظ بالملك مدى الحياة كان بدعة عربية منكرة من عندياته.

وإذا كانت الشعوب العربية تتقدم بخطوات متفاوتة البطء فإن الأحكام العربية تتأخر بخطوات متفاوتة السرعة.

لكن لا بطء تقدم الشعوب العربية ولا سرعة تأخر أنظمتها ولا حتى عكسهما كان كافيا لتغيير تاريخ لم يكن أي منهما لاعبا فاعلا في أي وجه من أوجهه.

كل الأحكام العربية أحكام بالوكالة أو بسوء حظ موكل، وأكثر فتكا أحيانا من أي عمالة.

يقول المتكلمون إن أصعب ما في الحياة هو شرح البديهيات، فما كانت أي كلمات يمكن أن تعبر عن حالة السمكة العربية الفاسدة من ذيلها لأن قادتنا لم يكونوا يوما رأسا، فكنا لا بد أن نمشي إلى الوراء بلا عيون من دون أن نعرف متى ولا كيف نصطدم بحتفنا المحتوم؟

وقديما قال المهلب أبو صفرة “من مصائب الدنيا أن الرأي لمن يملك لا لمن يرى”.

العالم اليوم في أزمة حقيقية والعالم بالمفهوم الاقتصادي، تقال للولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان أما أوروبا فمجموعة فقيرة متخلفة تكنولوجيا، معرقلة للنمو بسبب تفكيرها الاستعماري الذي دمر كل الدول الضعيفة التي تعيش في فلكها بدل أن يحولها إلى أسواق استهلاكية أو مصادر للثروات الطبيعية. والقنبلة النووية أصبحت اليوم عبئا لا امتيازا وخطرا محليا لا وسيلة ردع. والمركز الأوروبي للأبحاث لم يستطع حتى الآن أن ينتج إلا جزءا ضئيلا من الغرام من المادة المضادة.

لقد وصف أحد الخبراء الروس مخلفات عملية 11 سبتمبر بـ”نتيجة الحرب الكونية”. وأصبح الآن من المؤكد أن  الكارثة الحقيقية التي نتجت عن الحادي عشر سبتمبر هي فقدان حوالي 3000 خبير اقتصادي لم تستطع الولايات المتحدة تعويضهم بأي شيء ولم يستطع الاقتصاد الأمريكي الوقوف على رجليه بعدهم بغير وسائل الدعاية الضخمة ذات التكلفة الإضافية. ولم تستطع حرب العراق وأفغانستان أن تعوض الفاتورة ولم تستطع تبريرها.

ومنذ 11 سبتمبر لم يظهر أي طبق طائر في الولايات المتحدة الأمريكية ولم يبتلع برمودا أي سفينة ولم تحدث فيها أي معجزة أخرى، مما يعني بكل تأكيد أن زمن اللعب قد ولى؟

وتنبني البراغماتية الأمريكية على معادلة حسابية شديدة التواضع تستمد عظمتها من الوضوح والبساطة: “لا توجد أي حقيقة وإنما هناك طرق أفضل من أخرى”.

لم تكن الديمقراطية يوما عند أمريكا حقيقة ولا طريقة أفضل لكن لا تنتظر أمريكا أن تتبناها كطريقة أفضل إلا أن تكون كذلك كما هو الحال اليوم:

ـ أين ستتجه إفريقيا والعالم العربي إذا تحررت من التبعية السياسية وأصبح من حقها أن تختار ؟
ـ أين ستتجه إفريقيا والعالم العربي إذا أصبحت أسواقا استهلاكية تنعم بقدر من الرخاء؟
ـ أين ستتجه إفريقيا والعالم العربي إذا أصبحت أسواقا منتجة تبحث عن أسواق أفضل؟

كل الأجوبة على هذه الأسئلة تصب في صالح أمريكا والديمقراطية هي الطريقة الأفضل لبلوغ هذا الهدف.

ويخطئ جدا من يعتقد أن أطنانا من أخطر الأسرار الأمريكية يمكن أن يتم السطو عليها من موقع بسيط يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحبس حوزته الافتراضية في زمن لم يكن!

لكن “ويكيليكس” لم يكن بلا مقدمات لو تذكرنا قليلا : “منذ نصف قرن ونحن نعمل من أجل الاستقرار على حساب الديمقراطية وها نحن اليوم بلا استقرا ولا ديمقراطية” هكذا قالت مسؤولة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليسا رايس.

إذا كان من بيننا من يستطيع أن يفهم أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تخطئ مدة خمسين عاما فكيف لا يكون من بيننا من يمكن أن يصدق أن تصيب يوما واحدا؟

لقد كان للولايات المتحدة ذراع طويل في ما حدث في تونس، لم يكن من مصلحتها إظهاره حتى لا تنفلت كل هذه الشعوب المقهورة التي لا تنتظر أكثر من إشارة، من قيودها بمثل هذا الغضب التونسي الصعب الإدارة. وأعتقد أيضا أن أمريكا التي تقدمت بالفيزياء والرياضيات والصرامة الإدارية والدقة في التخطيط، لم تكن تحمل شعار “الفوضى الخلاقة” إلا لتبرير بعض أخطائها المسيئة لمكانتها العلمية.

هناك الآن رؤية أمريكية جديدة، يمكن للعرب إذا فهموها جيدا أن يحتلوا فيها مكانة إسرائيل إذا استطاعوا أن يفهموا حقيقة أمريكا الوحيدة : “ليس لأمريكا أعداء ولا أصدقاء وإنما لها مصالح”  لكن فهم هذه الحقيقة لا يتم من دون فهم أن أمريكا أكبر إمبراطورية في العالم، لا يمكن أن تطرح حقائقها فوق الطاولة ولا يمكن أن تتعامل إستراتيجيا مع العرب ولا غيرهم إلا على المدى الطويل وهو أمر لا يمكن إلا مع أنظمة تمثل شعوبها.

فمن ذا يستطيع اليوم (حتى لو كان تاجرا بسيطا) أن يعقد خطة بعيدة المدى مع جهة غير حرة في مناخ دكتاتوري لا يحكمه قانون ولا يتمتع بأقل قدر من الاستقرار؟

إن هذه الأحكام الظلامية هي التي تجعل العالم العربي يعيش خارج الزمن وقد كانت أمريكا تدعم استقرارها لتستنزف خيرات البلدان العربية وعليها الآن، قبل أن ينفد المخزون العربي الذي أوشك على نهايته أن تلعب دور المنقذ حتى لا تصبح عدوا (على الأقل) للغضب العربي الآتي حتما من جهة  وعليها من أخرى أن تحول العالم العربي إلى سوق استهلاكية ضخمة لمنتوجاتها الهائلة بعدما أخرجت أوروبا العجوز من المنافسة. وعليها من جهة ثالثة وهذا ما يغفله الكثيرون أن تسعى إلى تقوية القدرة الشرائية للإنسان العربي لأن ما يحول الصين إلى منافس خطير لأمريكا هو رخص بضاعتها الرديئة وضعف القوة الشرائية في هذه البلدان.

ـ بالديمقراطية، ستخرج أوروبا العجوز من حلبة المنافسة لأنها دول استعمارية متخلفة كانت تعيش على اقتصاد الحرب واستثمار تخلف الدول الضعيفة عن طريق التشدق بالمثل الديمقراطية وقتلها بالانقلابات العسكرية ومحاربة مناخها بمشاغلة هذه الكيانات بالحروب البينية والأهلية والصراعات العرقية والطائفية.

ـ وبتقوية الدخل الفردي، ستخرج الصين من المنافسة ببديهية لا مراء فيها.

ـ وحين يحتدم الصراع بين أمريكا واليابان ستنهار الأخيرة التي أصبح معدل ساعات العمل فيها 18 ساعة في اليوم وهو خط أحمر سينهار الياباني إذا حاول تجاوزه وليس لديه ما يراهن عليه غيره.

وفوق هذا وذاك، يعتنق الإنسان في أمريكا ديانة سماوية، تعطي آفاقه الفكرية أبعادا لا متناهية تخوله قيادة العالم عكس اليابان (و الصين طبعا) التي تحتاج إلى تحولات جذرية وعدة أجيال من الممارسة لتقنع الإنسان في إفريقيا بقدرتها على القيادة الفكرية.

ما حدث إذن في تونس كانت له أسبابه الموضوعية شبه الحتمية داخليا وخارجيا. وسيكشف التاريخ حتما أن أمريكا  وضعت لزين العابدين خطوطا حمراء لحدود قبولها لردة فعله، كانت كافية ليفهم أن الاستسلام هو الحل الأوحد وأكبر دليل على ذلك هو هروبه قبل انهيار نظامه الذي حاول صفه الثاني تدارك الوضع بإجراءات عبثية لم تدرك أن الأوان قد فات.

و قد أصبح حسني مبارك الآن قصة من الماضي وهذا ما ستؤكده الأسابيع القادمة والجزء الأول من رسالة تحذير أمريكا للنظام المصري هي الرمي بالبرادعي المكلف بترتيب الأوضاع الأمنية والسياسية بعد انهيار النظام والتحذير من الوقوف في طريقه بأي شكل من الأشكال والجزء الثاني سيكون بعد تسجيل عدد من الضحايا في الشارع تهمس الولايات المتحدة في أذن مبارك بعده “لم يعد بإمكاننا السكوت.. أنت مطلوب للعدالة” ليكون هو من يفاوض على السماح له بالخروج تماما مثل زين العابدين.

وعبقرية هذه الطريقة (إدانة الرئيس من دون نظامه) هي أنها تسمح بانتقال السلطة من الرئيس إلى الصف الثاني ومن الصف الثاني إلى المعارضة أي انهيار النظام من دون انهيار البلد ومن ثم انتخابات نزيهة وشفافة يتسيد فيها نظام ديمقراطي ضعيف لا يمكن أن يحتمي إلا بالنزاهة والشفافية والقدرة على العطاء. وستؤمن أمريكا حتما مكانا لهروب كل رئيس عربي وستعيدهم واحدا واحدا  إلى بلدانهم بمذكرات توقيف دولية لمحاكمتهم وإعادة أموالهم الضخمة من أوروبا وآسيا إلى بلدانهم (الديمقراطية) المتجهة إلى إبرام الاتفاقيات الإستراتيجية مع أمريكا (الصديقة).

وستفقد هنا إسرائيل أمريكا لتكون دولة استعمارية تعيش خارج الزمن، على شقاء الآخرين مثل أوروبا العجوز أو تقبل بأن تكون دولة ديمقراطية متحضرة مثل العالم العربي وإفريقيا، تستجيب لحل سلمي مع (أشقائها) العرب في عالم متحضر لا تسوده غطرسة أوروبا ولا سذاجة آسيا. وسيخسر في هذا التحول الكبير من لا يفهم أن لا حاجة لأمريكا في أي صديق وإنما حاجتها في مصالح كبيرة. ولا أعتقد أن العرب سيفشلون في هذا الفهم الفقهي جدا، لا سيما أن أمريكا ـ في ما نلاحظ مما يحدث على الأرض ـ ركزت على ثلاث عوامل لا أعتقد أن تكرارها يدعم فرضية الصدفة : التواطؤ الأمريكي، عداء البلد لمحطة الجزيرة، قوة الحركة الإسلامية فيه. ولا أعتقد أن الحركة الإسلامية (الأكثر عداء لأمريكا عربيا) ستكون عاجزة عن التعامل مع الزمن بمثل هذا العربون. ومن خلال العوامل الثلاثة يمكننا اليوم رسم خارطة انهيار الأنظمة العربية بوضوح مع نموذجية الاختيار وقابلية الانهيار المرتبطة أكثر بظروف البلد الاقتصادية ومستوى الوعي ومنطق الخطة وأولوياتها: مصر، اليمن، المغرب، السودان، موريتانيا، الجزائر، الأردن، الكويت والأمارات العربية المتحدة كمرحلة أولى، ستملي نتائجها منطقا آخر للترتيبات يشمل القارة الإفريقية وعددا آخر من دول العالم (حتى غير المستهدفة).

وربما يكون انقلاب موريتانيا الذي فرضته فرنسا بأقل درجات اللباقة السياسية تماما مثل اشتعال البوعزيزي (في البساطة والتعقيد)  هو ما جعل أمريكا التي وقفت ضده بكل ثقلها، تفكر بجد في تغيير العالم. وكنت دائما أقول أن صغر عقول الأجيال الأخيرة من الرؤساء الأوروبيين أصبح مهددا للأمن والاستقرار العالميين. فلو كانت فرنسا وقفت ضد حرب أمريكا على العراق لكانت الآن بحجم الصين وكانت أمريكا بحجم اليابان، لكن هل كان عقل الرئيس الفرنسي يسمح له بحساب عملية معقدة بحجم نتائج حرب كونية؟ أوروبا اليوم لا تحكمها أجهزة مفصولة عن السلطة يعود لها القرار في كل شيء مثل أمريكا، فكما أوهمت بريطانيا العالم قرابة نصف قرن بامتلاك القنبلة النووية، توهمنا الآن أوروبا أنها دول عظيمة تجاوزت أهم مراحل النمو ولا أستغرب كثيرا أن تجتاحها أعاصير التغيير العربية في نهاية المطاف.

سيدي علي بلعمش
7 فبراير 2011

تعليقان

  1. غير معروف بتاريخ

    تعليق
    مقال رائع ، رائع
    و إذا صحت هذه القراءة الشديدة الموضوعية ، سيكون هذا تحولا عظيما في تاريخ البشرية .
    أعترف أنها قراءة جريئة لكنها معقولة و متماسكة المنطق.
    هذا أمر عجيب

    • غير معروف بتاريخ

      revolution Arabe
      مقال رائع وعميق جدا، ومن لا يحسن قراءة المستقبل يبقى في ذيل الركب الحضاري، وكتب بأسلوب مبسط، يسهل قرائته، أما من لديه خلفية الكافية لقراءة الديناميكية العالمية لميزان القوة فيجد فيه تحليل عميق للصراع المستمربين مختلف القوى العالمية للهيمنة أو بلأحري أقتطاع نصيب الأسد من الثروة العالمية،
      والمنطقة العربية، كانت و ما زالت منطقة صراع، و لكن مستقبل الصراع سيكون أكثر حدة علي الثروات الإفريقية، وستكون له وبشكل أكيد تداعيات سياسية،
      أما الخريطة السياسية فسيعاد ترتيبها في العالم العربي وفي إفريقيا حسب المعايير سالفة الذكر، تونس، مصر، تقسيم السودان، أزمة كوت ديفوار، وسيطال هذا التغيير السنغال، فالخريطة السياسية بدأت تتحرك من السودان و ستكون لها تداعيات علي كافة الدول الإفريقية، و العالم ليس جامدا، بل العكس هو في تحرك مستمر، فلم يطوي وهو كائن حي تدب فيه الحياة، تتجدد خلاياه، و تمت أخري،

Exit mobile version