العالم العربي اليوم ليس هو عالم قبل الإسلام وليس هو عالم الأيام الأولى لهجرة خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ، وليس هو عالم أيام بني أمية ولا بني العباس ،ولا هو عالم ما بعد سقوط الدولة العثمانية ، إنه عالم عربي فيه من ماضيه الكثير وفيه من عالم اليوم ما هو كثير،عالمنا العربي اليوم يرى صورته في ماضيه وفي حاضره إنسانا جديدا يبحث له عن صورة يقوم بها و تقوم به في عالم اليوم الذي لم تتضح بعد صورته بعد قرن على تلك الصورة التي حدد ملامحها اللاعبون تحت مظلة سايكس بيكو، حيث اللاعبون أنفسهم اليوم لا يسمحون بمكان لغيرهم في تحديد صورة إنسان اليوم، خصوصا حين يعلن الفاتيكان عن رغبته في توحيد الأديان وجعلها تراثية،وحين ينفرد ساسة الغرب في تحديد مفهوم الإرهاب وأدواته، وحين يعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن شعوبا مثل شعوب عالمنا محدودة التفكير، ويراها بعض أكاديميي الغرب تابعة لا معنى لها سوى ما يحدده لها الغرب في حركتها و سكونها، وهو لا يراها بعضهم قادرة على التفكير أصلا، ويصفها بأنها لا تصلح إلا للتلفيق والتقليد ولا تصلح إلا أن تكون أرض تجارب يتحقق من خلالها الغرب من فعالية ممارساته وفضاعة أنانيته ، والغرب أيضا لا يريد لعالمنا العربي أن يقرأ ماضيه في عصر ابن خلدون وفي عصوره الذهبية التي يشهد عليها حاضر الغرب، كما لا يريد منه أن تقرأ مدارسنا وجامعاتنا أعمال العلامة ” أبو الوفا ” في علم الفلك خصوصا ما تعلق بــ ” اللا متساوية الثانية ”  ، والتأمل في علاقة قوانين التاريخ بأوجه نشاط المجتمعات عند ابن خلدون ، وهو لا يريد له أن يقرأ تاريخه الحافل بكل ما هو جميل وكل ما هو إنساني تجسدت فيه جمالية الروح وجمالية الرضى وجمالية التفكير ، جمالية لا كجمالية الغرب التي هي جمالية جذبية كثيرا ما تستثني الآخرين من عالم الجمال ، بل وتعمل جاهدة على تشويه جماليتهم ، الغرب الذي لم يلجم هلعه وجزعه ومنعه الذي أتى على جمالية العالم فقبحها في أمريكا وآسيا وإفريقيا وعاب عليها إنسانيتها باسم إنسانية أوروبا ، حتى أن فيلسوفنا ابن نبي أخبرنا بذلك مبكرا قبل أكثر من خمسين سنة في وقت اشتدت فيه معاناة الشعوب المستعمرة ، أخذ وقتها يتحسس وجهة عالم فقد وجهته ، فعبر عن ذلك بصورة حدد من خلالها نزعة المستعمر في عالمه وموقف المستعمر في سجنه ، حيث قال :” فكيف يتأتى للعالم الإسلامي أن يبحث عن إلهام فلسفته الإنسانية فيما وراء تقاليده العريقة ..؟ إن حديثنا عن إنسانية أوربا لا يكون إلا حديثا عن نزعة إنسانية ” جذبية ” دون إشعاع ، وفي هذه الحالة نراها تعني ” إنسانية أوربية ” في الداخل ، و”إنسانية استعمارية ” في الخارج ، وهذه الأخيرة قائمة على أقبح المعادلات السياسية وأشنعها : ”فالإنسان” في عرفها مضروبا في ” المعامل” الاستعماري يساوي مستعمرا . ” (1) . أيا ما كان فإن المسألة تتصل بهلع الغرب وجزعه ومنعه الناتج عن عدم رضاه الذي لازمه طويلا ، وأيا ما كان فإن إشعاع النزعة الإنسانية الغربية يبقى محدودا بحدود ونزعة الرأسمالية الاستعمارية بكل تجلياتها ، وأيا ما كان فإن عالمنا العربي بكل تفاصيله يبقى في مرمى جشع وهلع الغرب المتمادي في لا إنسانيته والغرب اليوم كما كان بالأمس لا يريد لعالمنا العربي في مدارسه وجامعاته أن يقرأ ” مفهوم الثقافة ” عند مالك بن نبي ، وهو بذلك يريدنا أن نقرأ تاريخنا في تاريخه ، وإبداعنا في إبداعه ، وحضارتنا في حضارته ، وقانوننا في قانونه ، وأعرافنا في أعرافه ،وصورتنا في صورته ، هذا الذي يريده الغرب لعالمنا العربي ، فالعربي في تصور الغرب مضروبا في ” معامل ” التبعية يساوي مغلوبا على أمره مسحوقا في إنسانيته.

أما عالمنا العربي اليوم في نظر بعض ساسته فهو عالم جد متميز ” عالم جذبي ” لا يتسع لكل العرب ولا لكل ساسة العرب ، وهو بذلك صار عالما لم يتسع لأبنائه المهجرين الذين وسعتهم تركيا واستقبلتهم على حياء ألمانيا وسخرت من قدومهم فرنسا ، عالم عربي دون إشعاع وفوق ذلك فالغرب يريده عالما دون حياة ، أي وجهة لعالمنا هذا في ظروف الفتنة التي عصفت بشامه وعراقه ويمنه ، وأي صورة سيكون عليها بعد حين ؟ المصيبة إذا كنا نرى عالمنا هذا كما رآه بنو أمية يوم تشوهت صورة عالمهم في صورتهم ، فلم يشفع لهم ملكهم ولا جبروتهم ، فهل اعتبرنا من الذي كان بالأمس القريب بين الغرب وبين الرئيس صدام ، حينما رأى صدام حسين صورته في غير  صورة عراقه وفي غير صورة شعبه وفي غير صورة أمته ، رآها فقط في عرشه دون أن يرى جزأها المشوه الذي رسمه له عدوه الذي غزا أرضه واستباح عرضه فلم ينفعه عرشه ولم ينفعه جبروته . أي وجهة لعالمنا العربي ونحن نسترجع موقف فيلسوفنا ابن نبي وهو يكتب أوراقه وينظر في صورة أمته من خلال صورة مأساة شعبه ، وينظر في صورة ابن باديس يخاطب فرنسا الاستعمارية : ” والله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا الله ما قلتها ” ، ويرى صورته في صورة بن مهيدي الذي خاطب جلاده : ” أتلقنني الشهادة وأنا أموت من أجلها ” لقد نظر مالك إلى عالمه العربي في عالم أمته الكبير ، رآه بمثابة الجسد الواحد ، لا يقوم ولا يستقيم بواحد أو ببعض أعضائه فقط ، وابن نبي أينما قدر نهضة أمته فلم يكن يهمه سوى سلامة عالمه العربي في عالمه الإسلامي وسلامة عالمه الإسلامي بعالمه العربي لأن أي كلام عن النهضة بعيدا عن هذا التلاحم والتناغم هو مجرد كلام . إن مركز الثقل في عالمنا الإسلامي من وجهة نظر مالك أو من نظر وجهات أخر ، سواء كان في آسيا أو في غيرها ، فالذي كان يهم مالك هو جسد الأمة الواحدة الموحدة التي استوعبت أقواما وأعرافا وعادات وتقاليد وألسنا لم تكن لتتعارض مع مهمة الجسد الواحد الموحد الذي لم يكن ليجتمع في صورة الجسد الواحد ما لم تتمكن منه وتتمثل فيه عقيدة التوحيد.

أي وجهة لعالمنا العربي اليوم في مواجهة رؤية الغرب له ، الغرب المتباهي برأسماليته ، ورؤية بعض ساسة عالمنا العربي المتباهين بعروشهم الذين لا هم لهم سوى هم الهم وسوء الظن وقلة الأمل وشدة الجزع.

أي وجهة لعالمنا العربي ؟ الطريق لا يقف عند سؤالنا عن وجهتنا ، إنه لطريق طويل لا يقف عند عرش سلطان أو عند سلطان فقد عرشه ، أو عند حالة كحالة انقسامنا ، الطريق طويل وهو مع ذلك جد قصير لا ندري ولا نعرف مجاهيله ، وجهة عالمنا العربي نراها في وجوه ساستنا ، في إقبالهم وإدبارهم ، في سكونهم وفي حركتهم ، في سرهم وفي علانيتهم ، نراها في شعوبنا فهي جد مثقلة ومنهكة غير يائسة تتطلع إلى شعاع من نور ، فلنتخلى عن سيء أنانيتنا وقبحنا ونتحلى بثوب الرضى فهو رأس مالنا ونلبس لباس الصائم وهو صائم والمصلي وهو قائم وحلة المنيب التائب ، عندها فقط تتغير صورتنا في عالمنا وصورة عالمنا في صورتنا ، حينها نرى قيمة عروشنا في قيمة شعوبنا وقيمة شعوبنا في قيمتنا وقيمتنا في قيمة رضانا حينها فقط يمكننا تحديد وجهة عالمنا العربي في وجهة عالمنا الإسلامي ووجهة عالمنا الإسلامي بوجهة عالمنا العربي جسد واحدا موحدا معافى قويا سليما غانما ، حينها فقط يحترمنا الآخر ويقدر قيمتنا وحينها فقط تتحدد قيمة عروشنا وحينها فقط نسترجع ذوقنا وحسنا وجماليتنا بين العالمين موحدين في أغلى وأبهى صورة.

هذا ملمح مدخل لرؤية ضمن سؤال وجهة العالم العربي.

بشير جاب الخير
10 جوان 2016

إحالة  (1) : مالك بن نبي ، وجهة العالم الإسلامي ، دار الفكر بيروت ، ص 18.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version