لئن تعذبّت دول في شرق أو في غرب في ظل هيمنة الصنم الاشتراكي/الشيوعي الذي هوى، فذلك من تراثها الفلسفي. ولئن شقيت بلدان في شمال أو في جنوب، تحت وطأة الغول الرأسمالي، الذي يُشبع ولا يعدل، فمردّه إلى نتاجها الفكري. وكيف للمجموعتين أن تسعدا بنور الإسلام وهما تجهلانه أو لا تعرفانه إلا مشوّها بفعل أراجيف استشراق وإعلام، أو سوءِ تطبيق عندنا وقلة التزام! وزاد في بلائهما أنهما ضاعَفتا استغناءهما عن الوحي الربّاني عبر تلك اللائكية/العلمانية التي ألـّهت العقل وسلمته قيادة شؤون الحياة كلها. ولكن الله الكريم أغناكِ، يا شعوب أمّتنا، بإسلامك الواصب الذي لا يأتي عليه البـِلى. فما لكِ تتكففِين من الأغراب مناهج حياة مأخوذة من الثرَى وأنتِ بهذا الثراء؟

وانظروا إلى الجزائر المؤسساتية وقد ضيّعت ثلاثين سنة من عمر شعبها في اشتراكية “كابسياس” وأسواق الفلاح التعيسة قبل أن تُدخَل منذ نحو عشرين عاما في نفق رأسمالية أهدرت بغباءٍ ما نجا من ودائع العملة الصعبة ـ لدى “الامبريالية” ـ في واردات منتفخة مجنونة تسببت في تصحّرٍ شبه صناعي!

وما دهاكِ، أيتها “النخب” الحاكمة ـ منذ الاستقلال المغشوش ـ وأنتِ تظلين على ضلالكِ “الايديولوجي” /المنهاجي، عابثة بالجماهير بين اشتراكية باطلة نظريا، كاذبة تطبيقيا، وبين ليبرالية طغى عليها توحّشها؟

أم تريدين أن يمضي في حقكِ قوله تعالى:”بئس للظالمين بدَلا”؟

***

أجلْ! لم يبق للأمّة اليوم سوى الإسلام ليأخذ بيدها، فتصلح دنياها لتهنأ فيها وهي تستعدّ لذلك الامتحان المصيري العسير غدا…

وقال أهل الخير: الإسلام هو الحَلّ.

وصدَقوا.

وكيف لا يصْدقون ودين ربّ العالمين لا يزال يعلو على أفكار القرون وراء القرون.

*

فرحَ اللائكيون/العلمانيون بموقفهم مع بعض الطيّبين وهم ـ طعناً في دولة الإسلام ـ يدعون إلى مفهوم “المواطنة” تحت راية المساواة.

وماذا عليهم لو أنهم قرأوا صحيفة المدينة المنوّرة، أيّام النبوة الكريمة، ليعلموا أنها كانت تزخر بتسامح عضويّ لم ترتقِ إليه ديمقراطيتهم الأمّ عند الإغريق الذين كانوا يُخرجون النسوة والعبيد من دائرة الحُكم!

*

“…وإنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين…”!

فأين تجد بشريّا مثل هذا الكرم، خارج تلك الصحيفة المعطاء؟

ودع عنك ما ادعاه تعصّبا في أمّته رينان الفرنسي أو مانتشيني الإيطالي!

“…أمّة مع المؤمنين”؟

فأين منها تلك “المواطنة” التي يريدون التباهي بها علينا؟

ولو شئنا لرددناها عليهم بما هو خير: إنها “المُؤامَمة”!

المؤاممة التي تُبنى على الأمّة ببُعدها الآدمي المسقيّ بالتضامن، بعيدا عن المواطنة المرتكزة على التساكن!

وما أحلاهما وهما مرتبطتان في وجدان المرء معا!

ألمْ يشاهد الناس في ملعب فرنسا الباريسي منذ أكثر من عشر سنوات، كيف حنّ أبناءُ المغتربين المتجنّسُون إلى”أمّهم” الرؤوم، وهم يشوّشون على “المرْسياز”، نشيد تلك الأمّ المصطنعة وسَط الرّوم!

فهلاّ اقتدى بهم عُبّاد باريس الرّسمية الذين لا يرون في الجزائر إلا “بقرة اليتامى” ـ أجباناً وألبانا؟

وليس بربريّا قحّا من جبُن ففرَّ إلى فرنسا المؤسساتية سنواتٍ يطلب منها رغيف السّؤْل وبطاقة لجوء الذل!

*

آه! النسوة اللاتي ظلمَهنّ الإغريق قديما، ولم يحصلن على حق الانتخاب في الغرب إلا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً من نزول سورة الممتحنة التي تتكلم عَلى المؤمنات اللواتي يبايعن النبيّ ـ صلى الله تعالى عليه وسلم.

ءآلإسلام متقدم بألف وثلاثمائة سنة؟

اسمع التاريخ الذي لا يُكذب: المرأة الأمريكية نالت فرصة التصويت ابتداء من 1919، والفرنسية عام 1944/1946، والسويسرية على المستوى الفيدرالي سنة 1971 !

وهل أتاكم خبر ليشتنشتاين ـ قرب النمسا ـ والمرأة لا تزال فيها محرومة من الاقتراب من صناديق الاقتراع المحلِيّ!

*

أيّها المفتونون بالغرب، هل وصلكم حديث مونتسكيو الفرنسي عن الخلوة الفاتنة، كأنما كان يقرأ من سورة يوسف؟

“اترك امرأة ورجلاً منفرديٍن، يَكُن الافتتان قويّا، وتصبح المقاومة منعدمةً ويظلّ الانقضاضُ وشيكا”!

وصدق الله العظيم: “ولقد هَمّت به وهمّ بها…”.

وإن تعجب فعجب حُسن تلقي عدد من حضور سانت ايجيديو 1 مثل هذه المقارنة، بل أحد الوجوه التاريخية الحاضرة بقوة هناك لم يكد يُخفِي ابتهاجه بها…

*

هو الإسلام رحمة من الله ربّ العالمين!

فما لبعض الغافلين يقتربون من المفسدين الذين يحاولون إبعاد المسلمين عن منهاج كله روْح وريْحان؟

كم استغرب الناس حديث أشباه رحماء عن عقوبة الإعدام في الإسلام وهم يتظاهرون بالعطف على ابن آدم القاتل عطفا لا يرتقي إليه بزعمهم الحُبّ الربّاني!

لا جرَم أنهم يشتبكون مع سائق في مفترق طرق أو يهدّدون موكّلا لم يُكمل دفع “أتعاب” ـ كما يقولون!

وقالوا عقوبة الإعدام غير مجدية والقتل ماضٍ في الناس بلا هوادة!

فهل نلغي إذن عقوبة السجن والقتلة يكادون يضحكون مِنها، بينما اللصوص الصغار، في اضطرار أو تقليدا للكبار، في اعتياد وازدياد؟

ثم كم سنة سجنا تقترحون بديلا؟ عشرين؟ عشْرا؟

فمن أحسن من الله حُكما وشرْعه العادل الرحيم يعرض على الجاني “صفر يوم” سجنا إذا عفا وليّ القتيل بمساعي أهل الصلاح والإصلاح ـ خاصة عندما تعيش الأمة سياسيا في ظلال القرآن حيث تتقلص دائرة الاعتداءات إن لم تجفّ!

أتخشون عقوبة الإعدام؟ فاستلموا إذن…”إعدام العقوبة”: لا “مُؤبّد” ولا خمسة أعوام، والعائلتان في وئام!

Abolir la peine de mort ?

Mieux : la mort de la peine !

*

ألمْ يَأنِ لعشرات السجون أن تغلق بفعل إعْمَال القصاص الردعي أو التسامحي في البتر والجروح، فيرجع الخاطئون إلى أسَرهم وتكفّ مؤسسات الحرمان من الحرية عن إنجاب محترفي الانحراف؟

إنّ القصاص المقترن بالإحسان أفضل مما يتمتع به الانجليز منذ القرن السابع عشر تحت مسمّى “امتلِك بَدنك”

Habeas corpus

نحو خمسين ألف سجين؟ ما لهم قابعون في تلك المجّمعات يكلفون أمّتهم الملايير وقد كانوا أحقَّ بعمل بهناء!

فما لك أيها الاستقلال المنقوص “تجود” على الناس بعشرات مؤسسات “إعادة التربية”!

فمَن يربِّي مَن؟

ولو كانت السياسة سياسة شرعية لتمّ تغيير سجن سركاجي العاصمي إلى مستشفى وطنيّ، فلا يُبقى منه إلا على ما يذكّر الأجيال بصرير سلاسل المحتلّ الذي جعل التعذيب يتماهَى مع الوَأد، أو بـِصلصلة مِشنقة ارتقى بها زبانه إلى جنّات الخلد!

***

هذا غيض من فيض خيرات الإسلام ـ بمنجميْه الكريمين ـ “ألماس” القرآن و”ذهب” السُنة!

وهو الدّين لم تضِق خيراته المباشرة ببركاته غير المباشرة.

فآيات الأحكام الخمسمائة التي تحدّث عنها أبو حامد الغزالي لا تشتمل على الآيات الإخبارية الزاخرة بالإضاءات السياسية الكامنة وهي لا تطلب سوى التنقيب فيها.

وما ظلّ الوحي متقدّما على العصر إلا وهو يُبقي على الثابت يخدمه المتغيّر!

إنه المنهاج الربّاني الذي يسبق العصر رغم مرور أربعة عشر قرنا عليه، كما تقدُم المِرآة الأمامية سائقَ السيارة وهي تعكس له ما تركه من مناظر جميلة وراءه!

فالنظر في الأحكام من حيث الثبات والتغيّر يُصنفها إلى ثلاثة أنواع.

نوع أوّل مفصّل بشكل نهائي دائم، ما دامت الموضوعات المعالجة ثابتة، فالدواء الأنجع لا يتغير مع المرض المتجدد عبر العصور، وهو صنف من الأحكام يَنصبّ على أحد المجالات الخمسة: الإيمان والشعائر والأسرة والأخلاق والحدود.

ونوع ثانٍ فيه تفويض بتفصيل مُجمله، كما هي حال الشورى ـ اختياراً انتخابيا وتداولاً وتنفيذا!

وليس صدفة أن يرد في القرآن تعبير “بالمعروف” ما لا يقلّ عن اثنتين وثلاثين مرّة ـ منها نحو اثنتين وعشرين بمعناه التفويضي الموجّه مثل قوله تعالى: “وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتّقين” أو “ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف”…

ونوع ثالث سكت عنه الشرع تفويضا عامّا كي تبقى الدنيا رحبة والألباب فيها تقوم بدور المناوَلة تحت إمْرة الوحي! فقد أرشدنا الصّحابة إلى ما وعوه من الهدي النبوي: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”!

واسعدي عندئذ يا بشريّة بقانون مرور أو نظام أساسي داخل شركة، أو لوائح تسيير بمدرسة أو كليّة…

وفي هذين النوعين الأخيرين ينطلق الاجتهاد من الأشخاص ـ تنظيراً ـ ومن التنظيمات ـ برامجَ ـ ومن الأجهزة الرّسمية ـ سيَاساتٍ شرعيّة.

عندئذ تخرس ألسِنة افتراء أو جهل ويطمئن غير المسلمين وتكتمل صورة دولة الإسلام كأن الناس ينظرون إليها!

*

لو أخذنا لباس التقوى الوارد في قرآننا مثلا، لقـُلنا إنّ ذلك النوع الأوّل من الأحكام في دولة الإسلام يشبه الثياب الممنوحة لنا ربانيا مفصّلة، بينما يقترب شكل النوع الثاني منها من القماش الموهوب كي نخِيطه بأيدينا، مع منحنا الحرية، في النوع الثالث، كي ننتج أليافا اصطناعية نتدَثر بها.

ومن هنا يمكن القول ـ ونحن نجمع هذه الأصناف الثلاثة ـ إنّ الحلّ من الإسلام!

“الحلّ من الإسلام”: بدءا من السراج المضيء والقمر المنير ـ سُنة تتبع كتابا ـ وانتهاء بـ”النجوم المسخرات” ـ ألبابا!

*

“الإسلام هو المصدر الأساسيّ للتشريع”: عبارة إيمان لولا أنها تحتاج إلى تدقيق.

“أساسيّ”، بمقياس كميّة النصوص مثلا؟ ولكن النصوص البشريّة التقنية تُعدّ بعشرات الألوف المتزايدة سنويّا أو شهريّا!

ولو أننا قلنا: “الوحي الجليل ـ كتابا وسُنة ـ هو المصدر الأوّل والمرجع الأعلى لنصوص الدولة” لكان خيرا وأدَقّ.

حتى إذا تنازل القوم لم يرغبوا عن عبارة مثل: “تُستمدّ نصوص الدولة الرسمية من الإسلام أو لا تخالفه” ـ مع الترحّم على ابن عقيل.

وبعد ذلك، لن يرضى الناس بتلك الجملة الفضفاضة المفخّخة: “الإسلام دين الدولة”!

ولن يقنع مسلم بتلك اليمين الدستورية المتحايلة التي تنصّ على مجردّ “احترام الإسلام” ـ لا على إمضائه العموميّ في حياة الأمّة!

*

فلنحذر جميعا أن يفتنـنا ضِعاف المناعة الحضارية فننساق وراءهم في دروب الاستلاب تاركين وراء ظهورنا سُبل السلام.

فكيف نحلم بدولة الإسلام ثم ندعو إلى “دولة القانون” أو”برنامج الرئيس”؟

آه! كم طالت سنوات قال فيها بعض أصحاب الخير الدعوي إنّ “الدّبابة تحمي الديمقراطية”، قبل أن يكتشف القوم اليوم مساوئ الانقلاب على رئيس منتخب!

أم إِنّهم يجدون الآن المشاركة مِلحا أجاجا بعد أن حرّرهم ـ أو فتح شهيتهم ـ ذلك المظلوم التونسي بجسده النحيف تأكله النيران!

فمن منا لا يخطئ، ولكن ما أروع دعاة خير يصدقون مع الله تعالى ومع النفس فتصدّقهم الجماهير!

أحمد بن محمد
23 جويلية 2013

المصدر: يومية الشروق الجزائرية

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version