لم تكتفِ الرحمة الربانية بجعل الناس شعوبا وقبائل. فقد رعتْها عبر تنظيمها في كيانات سياسية لم يضع يده على حقيقة أصلها مُنظـّر عقدٍ اجتماعي ولا فيلسوف تاريخ.

ذلك أنّ الدولة الجنينية كانت منذ فجر التاريخ منحة إلهية تفضّ شتى الخلافات، فلا يطغى قويّ ولا يُسحق ضعيف.

ولكن ما أكثر ما بدّلت شياطين الإنس تلك الهبة السماوية جحيماً أرضيّا ـ تماما كما يسيء إلى العنب الطيّب صانع خمر فيمسخه سَكَرا!

وتلك هي قصة البشر مع الطغيان السياسي الذي يتحالف ـ في شمال وفي جنوب ـ مع الترف الاقتصادي: “مِن فرعون إنه كان عالياً من المسرفين”.

فرعون الذي ذكر اسمه في القرآن قريبا من اسم قارون…

وهو الاقتران النكد الذي يميّز أحيانا الأنظمة السياسية في دول”المركز”، كما يشين أنظمة الحكم المتخلفة في”المحيط”.

وهل أتى جنون السلطة أو سكرة الكرسي إلا مما لصق بهما من “صلاحيات” تضمن الاستعلاء على الخلق، و”امتيازات” توفـّر الاستحواذ على الرزق؟

صلاحيات قد تصل إلى الإحياء والإماتة ـ مثلما تبجّح بذلك النمرود أمام سيّدنا إبراهيم ـ عليه السلام.

وامتيازات تجعل الثوريّ المزعوم رأسمالياً والجمهوريّ الكاذب ملِكاً والعاهل شبه إله كاذب!

ألم تر إلى ملِيك وشبه ملِك كيف يُمَسّكان بالعريْش الزائل رغم الانحناء والدّاء والأعوام!

*

لم يُقضَ على هذه التوأمة المُطغية، على امتداد التاريخ البشري، إلا عن طريق أدوات العناية الإلهية، مثل نبيّ يخلفه طالوت أو خاتم الرّسل ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبعه صدّيق أو خليفة راشد…

وأمام افتقاد الغرب النور السماوي الحقيقي، راحت أوروبا تتلمس طريقها نحو استعادة الدولة البشرية الأولى كما أرادتها حكمة ربّنا القيّوم ـ تحمي وتخدم، لا تهْمِل وتظلم!

فسمّوها ـ مترجمة ـ “دولة القانون”.

ولو ابتغوا الدقة العلمية والانعتاق السياسي لقالوا: “دولة الحق”.

وفي العالم الثالث خاصة، ما أكثر ما تمأسسَ القهر بالقانون نفسه.

أفنسِي الناس أن جنوب إفريقيا العنصرية كانَ بها “وزارة الأمن و…القانون”؟

*

لا يزال أمام عيني المرء ذلك المشهد المليء بالاحترام في سانت ايجيديو الثانية، جانفي 1995، وبعض الإسلاميّين مشتبك بأدب مع أحد الحاضرين حول العلاقة بين الحق والقانون، قبل أن تتفق الأطراف الثمانية رسميّا على ضرورة ربط النص البرلماني بالشرعية…

فما أجمل المشروعية ـ عملاً ـ وهي تزدان بالشرعية ـ أصلا!

لقد جاء في العلم النبويّ ما يُنسيك ما قرأ الناس في هذا المجال لدى الإغريق:”…إلا من أخذها”الإمارة” بحَقها ـ وأدّى الذي عليه فيها”…

ولو شئنا لقلنا إنها “دولة القانون الحق” ـ ويرحم الله تعالى صاحب “القوانين الفقهيّة”!

*

اشهدي يا بلدان عالم رتّبوك ثالثا: كم من انقلاب حَكم بعده أهله بـ”القانون”؟

وكم من حُكم شعبيّ وليدٍ أرسِل أنصاره، بأمر تشريعي، إلى السجون؟

وكم عشرية طالت سنوات الطوارئ بناء على قانون أمضاه خُمُس رئيس مستجلب؟

وكم من دستور شعبيّ عطـّله بيان عسكري يعِد المناوئين بالمنون؟

وكم من فيلا ـ أو قصر ـ منحوها لصوصا بدراهم معدودة عبر قانون التنازل عن أملاك الدولة ـ تحت غطاء كذبة تمليك الفقراء تلك الشقق البائسة؟

بل محروقات الصحراء بيعت برضا “البرلمان” قبل أن يوقف العملية شكليا الجهاز نفسه وقد كان أعضاؤه في الموقفيْن مثل النُسَيّات المستضعفات اللاتي لا تعرف الواحدة منهنّ كيف ترضِي زوجاً يهدّدها يومياً بالطلاق!

فمَن يحرّر مَن؟ أأشباه الرجال أم النسوان؟!

*

ليست القوانين البشرية سواء.

فمنها ما لا ينافس الشرع الجليل، بل يخدمه.

أليس كذلك يا منفذي قانون مرور مثلا أو قانون بريد؟

ولكن لا مرحبا بقانُون نافسَ السُنة والكتاب ـ برواية حفص أو قالـُون!

إيه، يا قانون كذا أو كذا، لم يخطئ من غضب فنَطقك “كانون”، وأنت تجعل الحياة الفردية فُرْنا اكتوى به خلق كثيرون!

*

كم انزعج المرء وهو يسمع في مصر قبل أشهر بعض إخوتنا يدعون إلى تطبيق القانون!

ءآلقانون الذي وضعه نظام قادَه البكباشي، بطل 1967، وخطيب الكنيست في 1977 وبائع تل أبيب الغازَ بسعر “التراب”؟

بل إخوان لهم بتونس الياسمين، راحوا في تناغم ينادون إلى ضرورة احترام قوانين سطرَها ذلك “الجنرال” الهارب ليلاَ، مع “سيّدة قرطاج” التي كان لديها مجرّد مولىَ!

*

إنّ دولة القانون هي الوجه الآخر لتلك “الدولة المدنيّة” التي تترّسَ بحيادها الظاهر خصوم المشروع الإسلامي في مصر منذ أكثر من عقدين.

وهي تسمية تجمع خطـأ دلالياً وتمويها “قتاليا”.

فهل سمعتم اليوم إسلاميّا واحدا يدعو إلى حُكم عسكريّ؟ فرجاء، لا تذكُرُوا الحبل في بيت المشنوق!

وهل غاب عن حُذاق العمل السياسي الإسلامي، أيها المنفّرون من نور حِراء في الحكم، أنكم تستترون خلف صفةًٍ ـ ناعمة ـ كي تبيعوا الأمّة ـ تدليسا ـ مشروع دولتكم المستغنية عن الوحي الكريم؟

ثم قولوا لنا مَن عَلمكم ـ في أوروبا أو في أمريكا ـ هذا “الاختراع” السياسي؟

*

تلك الدولة اللائكية/العلمانية المستترة التي يبشّر بها السّيسي المصري وخدَمه، فيهرع إليها الحفاة العراة المتطاولون في البنيان ـ حاشا ذريّات الصحابة الطيبة ـ ليقدّموا لها ملايير الدولارات ـ رغم ادّعائهم إمضاء أحكام الشريعة الغرّاء وخدمة الحرمين الشريفين!

يا علماء، من ينسى صالحاتكم في مجالات أخرى لولا أنْ أسكتكم الرّيال أو الخوف عنْ أداء الشهادة الآثم كاتمها: إنّ الأمّة لا تطمع أن يخرج منكم قطب أو كشك، ولكن هلاّ كففتم عن المشاهدين دموعا متلفزة وهي تملأ مآقي بعضكم، بكاءً على مصر الحزينة أو تباكيا؟

وإن سلقتم بألسِنةٍ حداد غافلا عن أخطار التدخين، فحاولوا بذل جهد المقلّ فتذكّروا جنرالات مصر أنكم ملأتم أسماع الناس في مسجد وفي كلية بعدم جواز الخروج على الحاكم ولو كان ظالما!

فما بالكم بعسكر يطردون من الحكم رئيساً منتخبا وفي الهندسة عالِما؟

***

لم يدعُ الإسلاميون يوما إلى دولة تكون السلطة فيها مقدّسة أو عصماء.

وهما صفتان لا نجدهما إلا أيّام النبوّة المباركة.

تلك الحقبة المضيئة التي عرفت “الدولة الإسلامية” المتفرّدة ـ توْفيقاً وتوْقيفا!

ذلك أنّ ما جاء بعدها، كان صوَرا من “الدولة المسلمة” التي تألق فيها ابتداء سادتنا الخلفاء الراشدون ـ في غير عصمة ولا تقديس.

وتغمّد الله تعالى برحمته من بيّن للناس أنّ مقولة “السلطان ظل الله في الأرض” لا تخلو من نكارة أو ضعف.

*

لأجل ذلك لا يغفل المسلم عن قوله تعالى: “وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقوم الناسُ بالقسط”.

فأمر القسط مناط بالناس، لا سيما في غياب الرّسل الكرام ـ عليهم السلام ـ أو عند اكتفائهم بالتوجيه السياسي.

وهكذا تكون الدولة في الإسلام “نــاسِّــيّـة” ـ على 180 درجة من الدولة الثيوقراطية اللاهوتية، الغربيّة المَنشإ، الكَنسيّة الممارسة.

بل هي دولة مسلمة ناسّيّة، لاَ ملائكية ولاَ لائكية!

وكيف لا يفطن الإسلاميون لأهمية التداول وهم يفهمون من القرآن العظيم أنّ الخلود في الحكم اقتراح شيطانيّ: “قَال يا آدم هل أدُلك على شجرة الخلد ومُلكٍ لا يبلىَ”…

*

“دولة الحق” الناسّيّة: تلك هي الثمرة الأولى التي تجنيها الأمّة بعد كل تغيير سلميّ يقوده الأمناء والعلماء ويؤمِّنه الحكماء والرّحماء.

“دولة الحق” التي تقترب ـ في المقاصد ـ من دولة الإسلام.

“دولة الحق” التي تتفوّق عليها ـ في القواعد ـ خيرُ دولة عرفها الأنام.

“دولة الحق” التي ترُوم على الخصوص النماءَ بالعدل وفي الحريّة.

“دولة الحق” التي سمّاها لبنانيّ متسامح “دولة الإنسان” فدعاها جزائريّ “دولة الفطرة”.

“دولة الحق” التي تكاد تتماهىَ مع “دولة الألباب”.L’ETAT DE RAISON

“دولة الحق” التي يلتقي عليها الفرقاء المختلفون وفاقا، فلا تطغى فيها أكثرية رحيمة، ولا تتصاغر بها أقلية فتحقد أو تكيد!

“دولة الحق” التي تُعتبَر ضرورة بيداغوجية تنتفع بها التيارات المتباينة وهي تتدرّب على التساكن الفكري والتعايش السياسي.

“دولة الحق” التي تتقاسم فيها الاتجاهات “الايديولوجية” /المنهاجية أعباء الحُكم الصعب في مثل هذا العهد الانتقالي التي تكبر فيه شهية الشعب المطلبيّة!

إنها مرحلة لا يستغني عنها الإسلاميون وهي تمهّد ـ انتخابيا ـ لدولتهم الجميلة المنتظرة، ذلك أن الخير العميم لا يتأتى من خضراء الدّمَن! وجَازى الله المحدّثين خيرا…

بعد ذلك ـ إن شاء الله ثم رضيَ الشعب ـ تأتي “دولة الحق المبين”.

***

أوَننتظر قبول الجماهير حتى تقام دولة الإسلام؟

اقرأ إن شئتَ قول الحق:”رضي الله عنهم ورضوا عنه”!

فالدواء النفيس يكون مفعوله أنجع والمتداوي به يحرص عليه!

بل حرص المتداوي هذا قد يبطله نفورٌ من “الأطباء”!

ولا تعجب إن التصقت الأمّة حبّا بالمشروع الإسلامي وهي تفرّ من بعض حَمَلته ـ هنا أو هناك!

***

“دولة الحق” و”دولة الحق المبين”: ما الفرق العمليّ بينهما؟

دولة الحق تبحث عن التنمية في شكل عمارة أرض أو مدنيّة جافة، ودولة الحق المبين تسعى ـ فوق ذلك ـ لتحقيق الاستخلاف أو الحضارة المتوازنة.

دولة الحق توَفر الحرية ودولة الحق المبين تضيف إليها نسائم الرحمة والتكريم.

وانظرْ إلى القانون المدني الفرنسي كيف كان يربط المطلقة بعشرة أشهر عدّة! حتى إذا تغيّر الوضع، عام 2004، راح يبتليها بمتوسّط أحد عشر شهرا إجراءات طلاق!

ثم ما هذا التمييز الذي أصاب الأسرة الغربيّة ـ رغم التحسينات الأخيرة ـ والمرأة تحمل اسم زوجها في غير تناظر!

On dit Danielle Mitterrand, mais pas François Gouze.

وصدق الله: “ادعوهم لآبائهم”.

دولة الحق تريد العدل ودولة الحق المبين تبتغي القسط بالقسطاس الذي يتجاوز أصناف الإنصاف التي تحدّث عنها مثلا أرسطو.

لما اشتدّت غلواء اقتصاد السوق في الغرب، راح مفكروه، لا سيما الألمان في بداية القرن العشرين، يقترحون اقتصاد السوق الاجتماعي بديلا عنه.

ولو دروا لاتبعوا الاقتصاد الرباني المتسم بما يمكن تسميته اقتصاد السوق الإنساني!

“Econhomie” de marché

“وفي أموالهم حق للسائل والمحروم”…

*

الديمقراطية أصغرُ من الإسلام ـ ولو أنّ بعضهم جعلها صنما!

إنه أكبر منها إذ ينطلق من سموّ الحكم الرباني ولا يهمل قرارات الشعب في المسكوت عنه من غير نسيان.

فهل أخطأ من قال إنّ الإسلام “فوق ديمقراطي”؟

L’Islam est-il ultra-démocratique ?

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا…

أحمد بن محمد
16 جويلية 2013

المصدر: يومية الشروق الجزائرية

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version