لم يكن الذين تمرّدوا من أهل المشرق والمغرب متّفقين على حجم ولا على طريقة التغيير السياسي. فهذا يدعو إلى الاكتفاء بإصلاح الصّروح المؤسساتية وذاك يصرّ على جعل عاليها سافلها.

بل ازدياد عفونة الأوضاع الظالمة في قرننا هذا جعل الناس لا يريدون في معظم بلاد المسلمين إلا اجتثاثها كاملة، وقد استيقنوا عبث الاستنجاد بأطباء الأمراض الجلدية في مواجهة السرطان الباطني!

ولكنّ الثوّار الجذريّين ـ منذ أكثر من عشرة قرون ـ استغنوا بامتـشاق السيف، وقد زهدوا في دواء قرآنيّ أنجع وأقل تكلفة.

ولا تسأل هنا عن موقف المؤْثرينَ السَّلامة وهم، في موقف ثانٍ، متأرجحون بين إرجاء سياسي وجبريّة مؤسساتية!

فما أجملك مقصدا نبيلا يا “اتقاء الفتنة”، لولا أنّ طيّبين غفلوا بك عن التغيير النفسي أو أنّ ضِعافا استحسنوك أمام رتابة حالات عتوّ باطل هنا وهناك!

*

ولم يكن الموقف الأوّل دائم الانطلاق من نصّ شرعي.

فما أكثر ما كانت الثورات الدمويّة في تاريخ الأمّة المسلمة امتدادا لغضبة سياسية أو لاحتقان اجتماعي.

واشهدي بذلك يا انتفاضة زنج على عبّاسيين!

ولو تريّث ثائرون قديما وحديثا لعلموا أنّ هناك حلا وسطا بين الركون إلى الظالمين وبين خـُرُوج مسلح ـ فيه تحارُبُ مسلمين، لا يعرف أحدهم فِيمَ قـَتل ولا فِيمَ قـُتل!

إنه “الخروج السياسي” على أهل الحكم عندما لا يرعون شرعية ولا مشروعية!

*

ولو شئنا لأعدنا تسميته “دخولا سياسيا” ـ مثلما ذكر ذلك أحدنا في قناة لندنيّة عام 2007، قبل أن تشاهد الدنيا آخر فراعنة مصر فارّا من أحد قصوره وقد همّ المتظاهرون باقتحامه بغية إلقاء القبض عليه!

لا شك أنّ الأمّة عرفت أشباه علماء كتموا شهادة سياسية وقد خافوا فتح قبر أو سئموا معيشة فقر!

ولكنّ العلماء المتقدمين الفضلاء لم يمتنعوا عن إيلاء أمر الخروج السياسي أهمية كبيرة بسبب نقصان همّة عند بعضهم، بقدر ما كان في الأمر غض الطرف عَن باطل سياسي عوّضه شيوع تديّن فردي وزخم حضاري أفضى إلى امتلاك ناصية القيادة العالمية!

أما خلال القرون القليلة الماضية، فضمور إيمانيّ وقصور عمرانيّ واحتلال نصرانيّ!

إلى أن جاء “الاستقلال” مشوّها أو مسروقا!

*

بل شعوب أوروبا كانت غافلة عن بلسم ما في القرآن المجيد من تغيير نفسي، رغم ما نقله إلينا عمرو بن العاص من قلة صبرها على ظلم حكامها.

ولكنـّها اهتدت إليه أخيرا بطريقة غير مباشرة…

ألمْ يرَ الناس كيف فعلت السُّنن الربانية بإمبراطورية الاتحاد السوفياتي المقبور، فلمْ تكن آلاف صواريخه النووية ولا ملايين جنوده لتحميه من حكم التاريخ.

ومن كان يصدّق المنشق الروسي، صاحب “أرخبيل الغولاغ”، وهو يتكلم عن معادلة رمزية غير متكافئة، فيها العِجل الأعزل يصارع شجرة بلوطٍ صلبة اجتـُثت من فوق الأرض بعد 1991؟

إنـّه “الحامض السياسي”!

***

نعم. هو “الأسِـيد السياسي” الذي به أزالت العناية الإلهية الحكيمة العروشَ المدجّجة بالسلاح ـ من دول المعسكر الاشتراكي إلى الجمهوريات الآسيوية المستقلة عن موسكو إلى دول أمريكا الجنوبية.

وبقيت على بؤسها العام بلدان ذلك الهيكل الذي سمته بريطانيا “الجامعة العربية”.

فلم تكد شعوبنا تغادر عهد “الاستعمار” المظلم حتى انقضت عليها سنوات “الاستِخْمار” الظالمة حيث الحُرّ مُستـَبـْعد والوغـْد محمود!

ثم جاء البوعزيزي التونسي فقطعت مدينة سيدي بوزيد قول كل خطيب.

لقد تألقت أوّل ثورة سلمية بداية 2011 وهي تربك ركائز النظام الظالم وتكسب درعه، ففرّ رئيسه بطائرة الشعب يطلب النجاة وقد ضاقت عليه المجالات الجوية بما رحبت، لولا أنْ أذِن له بالهبوط أمير سعودي كان له زميلا في “مجلس وزراء الداخلية العرب” خلال الثمَانينـَات!

ذلك أنّ قصْر قرطاج لم تُُسقطه ـ مع توابعه ـ بندقيّة ولا قنبلة.

فالحرب الأهلية الرعناء تطيل عمر النظام الظالم وقد استفاد منها أكثر من مستبدّ!

وتتابعت الثورات الشعبية السلمية تشجّع السابقةُ منها اللاحقةَ، حتى إذا جاء دور مصر، راحت الكنانة تبدي لشقائقها أحَدَ تطبيقات الحامض الذي أذاب مُلك صَديق رابين وباراك.

فقد كانت “الخلطة” في قاهرة 2011 عبارة عن صاروخ ذي أربعة طوابق.

*

بدأها شباب الفيسبوك، وزاد في وهجها الميداني طيف المعارضة المتنوع، ثم تلقـّفها الشعب في ميدان التحرير وأمثاله داخل المدن ـ وكأنـه كان وقتها يصغِي إلى نصيحة ابن مهيدي ـ قبل أن تـُشَلّ يد القوات المسلحة وأصابعها على الزناد، فلا يرى الناس لها حراكا إلا وهي تمتدّ في محبّة إلى الأهالي، وتدير ظهرها للذي سخّرها لجبروته عهدا طويلا، تسَاوَت في سواده الأيّامُ والليَالي!

فعذرا يا محبّي أبي فراس، إذ في هذا المقام، لا شيء أحسن من حَانٍ على… حَانٍ!

***

لا يزال مفعول الحامض السياسي متفوّقا على غيره في إنهاء حكم تعدّد الرويبضة ببلاد المسلمين.

أليس كذلك يا بلاد اليَمن وقد عجّت البيوت فيك بالسلاح وأنت تتخلصين من حاكمك النرجسي الظالم دون إطلاق العنان للبنادق الشعبية؟

ولا يخدعنّك ما رآه الناس عام 2011 بليبيا ولا بما تشاهده اليوم بسوريا.

فأهل الشام لم يحملوا السلاح عندما راحوا يتظاهرون سلميا.

ولكن النظام الطائفي الحاقد هو الذي راح يقتل المسالمين، فاهتزّت النفس اللوّامة لدى أفراد الجيش الرسمي.

وهم العسكر الغيَارى الذين أبوا الاستئساد على عزّل درْعَا أو حمص وعيونهم دمْعَى تنظر إلى الجولان المحتل الكئيب، فأسّسوا من الجيش جيشا سموه حرّا! كأنما أخرِجَ حيّ من ميّت!

وما الباقي إلا إرجاف علويّ بعثي وتذرّع شيعي.

إنّ الحرب في الشام ليست نزالا بين فئة من الشعب اختلفت مع نظام ظالم.

و لكنـّها صراع يخوضه شعب ـ متراحم بتنوعه وتعدّده ـ يريد تحطيم السجن الكبير الذي وضعه فيه آل “الأسد”!

*

وليبيا نفسها بدأت ثورتها بالاحتجاج عبر الشوارع قبل أن يبادرها “الزعيم” بالزحف على بنغازي.

فهل رأى الناس غير أشباه نيرون يحرقون أهاليهم؟

إنهم أغلبية الأهالي الذين راحوا يحمون فلذات أكبادهم ونساءَهم وأشياخهم أمام عتوّ تلك المليشيات المحلية المدعومة بالمرتزقة!

ووجَد الثائرون في هؤلاء الأجانب مبرّرا إضافيا فقالوا ما لنا لا نستعين بالغرباء على الغرباء، فكانت حكاية الحلف الأطلنطي التي لا يهضمها بسهولة كل جزائري أبيّ!

وما يدريك، لعلّ قائلا منهم يقول إنّ القوات الغربية لم تستنجد بها بلاد عمر المختار بقدر ما طـُلب منها تخليص شعبها من إبادة “زنڤة زنڤة”،عزَم عليها الابن التـّليد وذريّته المدلـّـلة وقد رعاهم في طرابلس الإفرنج والنصارى تسليحا وحفظ ودائع بترو دولارات، بعد أن جعلوا لهم البلد مَحلب خامات ومَجلب مصنـّعات!

***

إنّ الشيوعيّين هم الذين أمْلوا على القارات الخمس أنّ العنف هو قـَابلة التاريخ.

وهم الذين قتـّلوا نحو ثمانين مليون آدمي عبر العالم، دون أن يذكروا تشي غيفارا بسوء، بينما يصبّون جام غضبهم على الإسلاميين المسلحين المناوئين لأمريكا ذاتها!

*

كم ضيّعت الحركات المسلحة المصرية من سنوات أرواحاً وخوفا وأرزاقا، فلم تقدر على هز شعرة في رأس طاغية مصر الذي تسبّب في العنف الأوّل عتوُ نظامه وقد مدّده بعد أن ورثه عن سابقيْه؟

ولكن كم لبث الشعب المصري هائجا كالبحر، صامدا كالطود قبل أن يستلّ الصنم؟ ثمانية عشر يوما!

فاعتبروا يا من لم تعرفوا كيف تردّون الحيف الواقع عليكم وقد أصبحت “المراجعات” في أوساطكم غير ذات بال، إلا بالنسبة إِلىَ المستقبل الذي منعكم من “التدريس” بشأنه موتُ فتى تونسيّ كان سببا في إسقاط أربعة رؤساء “عرب” ونصف!

و نصف؟ لأنّ النصف الثاني يكاد يتهاوى في دمشق لولا الدعم الكبير الذي يجود به قاتل الشيشان وقاهر مسلمي الصين ومرشد طهران ـ إلى جانب تدخّل حزب الضاحية الشيعية متدثـّرا بحماية السيّدة زينب وقد اختبأ عندما داست خيول أمريكا ضريح الإمام عليّ!

أم نسي أنه يدّعي صدّ مجيء واشنطن إلى الشام وقد رحّب صامتا بقدومها إلى العراق سنة 2003!

أم تـُحبّون “الضيف” اليانكي التوسّعي عندما يأتي به إلى بغداد أحبابكم الشيعة ـ حاشا باقر الصدر ـ ولا تـُبغضونه إلا وهو يهدّد الحلفاء من نصَيْريي السلطة في الشام ـ بعد أن كانوا تحت إمرة الجنرال الأمريكي شوارسكوف في مأساة حرب الكويت؟

أم إنَّ العمالة لها طعم خاص عندما يمارسها رئيس الوزراء المالكي “المقاوم” بالأمس إلى جانب بوش وهو يُضرب بالنعال، “الممانع” اليوم في مدينة القصير بالنصال!

***

لقد بيّن أحدنا ذات ليلة من شتاء 2003 أنّ أساليب التغيير الجذري خمسة: الانتخاب والحِراب والانقلاب والإضراب والتحابّ.

ولا شك أنّ المفاضلة واضحة اليوم بين طريقتي الحِراب والإضراب الذي

يكاد يتماهى مع الحامض السياسي.

فهل يستطيع أولاد الجزائر غدا أن يُنجوها ربّانيا عبر تغيير نهائي وديع مطمْئِن، تحل من خلاله “الثقافة المدنية” ـ كما يردد الأنجلوسكسون أو “المؤسسات النفسية”، كما يقول بعض الجزائريين ـ محلّ اكتمال الحامض السياسي؟

إنه الصّبح الجديد المرتقب الذي لا يضيع فيه حق اعتبرَه الكتاب العزيز، ولا تُغفل فيه رحمة أمضتها السيرة العطرة!

“و ما ذلك على الله بعزيز”…

أحمد بن محمد
25 جوان 2013

المصدر: يومية الشروق الجزائرية

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version