لم يوقّع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الأمر الرئاسي رقم 11-01 المتضمّن رفع حالة الطوارئ إلا بعد أن سبقتها دعاية واسعة وإشارات قويّة بأنّ تنازلا عظيما سيقدم عليه النظام في الجزائر. تمّ ذلك في إطار الأجواء الصاخبة التي كانت تعيشها الثورة المصرية وتهزّ العالم بأكمله هزّا، فبدا للعيان وكأنّ السلطة “خائفة” وتريد أن تستبق تفاعلات الأوضاع الجديدة على أرضها من خلال تلبية أبرز “مطالب” المعارضة السياسية. لكنّ الاستجابة جاءت على شكل حزمة من الأوامر الرئاسية تشدّ بعضها بعضا للمحافظة على البنيان المرصوص لحالة الاستثناء.

 

فيما يلي قراءة تحليلية للأبعاد السياسية والقانونية لهذا “الحدث الجزائري”.

عندما تكون الخديعة إصلاحا

أمر رقم 11-01 مؤرّخ في 20 ربيع الأوّل 1432 الموافق 23 فيفري سنة 2011، يتضمّن رفع حالة الطوارئ.

تشكّل حالة الطوارئ ضغطا وثقلا على النظام الجزائري كشاهد على الإطار الذي قنّن لعملية انفلات الآلة الأمنية المتوحّشة وما ارتكبته من فظائع. عمليّة رفعها استدعتها تحوّلات الوضع الداخلي الذي كان في السابق ذريعة لفرضها، ويمكن إيجاز ذلك كالتالي:

1— تمّ فرز الحياة السياسية والإعلامية وتنظيمها وتدجينها وتطويعها وإقفالها بحيث لم تعد تشكّل برموزها وتنظيماتها ومنابرها هاجسا أو خطرا يذكر.

2— الوضع الأمني تعفّن واستعاد عافيته وفقا لإستراتيجية لم يعد خاف على كلّ متابع منظرّوها وآلياتها ومنفّذوها وأهدافها.

3— شهدت الحياة الاقتصادية نقلة قسريّة من التوجيه المركزي إلى الانفتاح الفوضوي، سمتها الرئيسية الاستيراد وتأمين شبكات توزيع على مختلف أرجاء الوطن. هذا “الحراك” الاقتصادي يسير بوتيرة منتظمة وفاعلة وآمنة ولم يتعرّض لعوائق أو منغّصات نظرا لخصوصية ومهابة القائمين عليه.

4— لا تملك الجزائر منظّمات فاعلة للمجتمع المدني، ولم تراكم رصيدا في ثقافة النّضال والمطالبة. فالعشرية الحمراء وما رافقها من قمع متوحّش وصمت للمجتمع الدولي جعل الجزائريين يواجهون مآسيهم في ألم وصمت. الحياة النقابيّة مصادرة من طرف المركزية النقابية – الجناح الاجتماعي للمخابرات – رغم محاولات الاختراق من طرف بعض النّقابات المستقلّة (التربية والصحة). أمّا المنظّمات الحقوقية فهي ضعيفة ومنقسمة ولا تملك إطارات شابّة وحيوية.

5— حالة الاستثناء استبطنها الجزائريون الذين عايشوا تلك الفترة وتحوّلت بفعل ممارسات الحرب القذرة إلى جزء من بنيتهم النفسية أثمرت مشاعر الخوف والإحباط والسلبية. رفع حالة الاستثناء قانونيا يبقى علاجا سطحيا لأنّ استعادة الثقة والأمل وكسر حاجز الخوف يحتاجان إلى عملية “تطهير ذاتي” وهذا ما أنجزته الثورات التونسية والمصرية والليبية.. ولن يستطيع تجاوزها إلا الجيل الذي لم يعايش تلك الفترة ولم يكتو بنارها ولا يحمل في داخله آثارها النفسية المدمّرة.

الأمر رقم 11-02 مؤرّخ في 20 ربيع الأوّل عام 1432 الموافق 23 فيفري سنة 2011، يتمّم الأمر رقم 66-155 المؤرّخ في 18 صفر عام 1386 الموافق 8 جوان سنة 1966 والمتضمّن قانون الإجراءات الجزائيّة .

يعالج هذا الأمر معضلة حالات الاختفاء القسري ومراكز الاعتقال السرّية حيث حوّلها (المادة 2) إلى إقامات محميّة معيّنة من طرف قاضي التحقيق ولا يجوز لأحد إفشاء مكان تواجدها.

“يتعرّض كلّ من يفشي أيّ معلومة تتعلّق بمكان تواجد الإقامة المحمية المعيّنة بموجب هذا التدبير للعقوبات المقرّرة لإفشاء سريّة التحقيق”. من قال أنّ حالة الطوارئ قد رفعت؟

 أمر رقم 11-03 مؤرّخ في 20 ربيع الأوّل عام 1432 الموافق 23 فيفري سنة2011، يعدّل ويتمّم القانون رقم 91-23 المؤرّخ في 29 جمادى الأوّل عام 1412 الموافق 6 ديسمبر سنة 1991 والمتعلّق بمساهمة الجيش الوطني الشعبي في مهام حماية الأمن العمومي خارج الحالات الاستثنائيّة.

يعدّ القانون رقم 91-23، الأساس التشريعي المسكوت عنه – le non dit – لحالة الاستثناء، حيث تتضمّن بعض مواده توسيعا لمهام الجيش الوطني الشعبي داخل الحياة المدنيّة كالتالي:

1— تفويض صلاحيات حفظ الأمن – بشكل مفتوح – إلى السلطات العسكرية (المادة 2).

2— تخضع وحدات الجيش الوطني الشعبي في انتشارها إلى سلطاتها السلمية وتكون تحت طائلة القوانين والتنظيمات الخاصة بالمؤسسة العسكرية (المادة 6).

3— تنجز وحدات الجيش الوطني الشعبي مهامها تحت مسؤولية السلطة المدنية ورقابتها (المادة 7) مع مراعاة أحكام المادة رقم 6!

التتميم الذي طال القانون رقم 91-23 تضمّن مادّة وحيدة (المادة 2) حيث تناولت ما يلي:

1— أضيفت إلى المهام الواردة في القانون رقم 91-23 مهمّة أخرى وهي مكافحة الإرهاب والتخريب ممّا يعني أنّ ملف الإرهاب – وهو ملف سياسي أصلا – باق في يد المؤسّسة العسكرية. وإذا عرفنا أنّ حالة الطوارئ التي فرضت كانت تعني تناوله أمنيا، فإنّ عدم انتقاله إلى السلطات المدنية استمرار لحالة الاستثناء ضمن إطار تشريعي مغاير.

2— إلى جانب مكافحة الإرهاب أضيف “التخريب”، وهو مصطلح غامض يمكن أن يؤول بطرق عدّة ويحمّل مضامين مختلفة ولعلّ أوضحها عندما تعجز قوى الأمن المدني على احتواء المظاهرات السلمية يقع الانتقال إلى إستراتيجية الاختراق والتخريب ممّا يتيح لوحدات الجيش الوطني الشعبي التدخّل والتصفية العنيفة – لكونه غير مدرّب و لا مهيّأ لمثل هذه المهام – بشكل قانوني ومنظّم.

مرسوم رئاسي رقم 11-90 مؤرّخ في 20 ربيع الأوّل عام 1432 الموافق 23 فيفري سنة 2011، يتعلّق باستخدام وتجنيد الجيش الوطني الشعبي في إطار مكافحة الإرهاب والتخريب.

يوكل هذا المرسوم قيادة وإدارة وتنسيق عمليات مكافحة الإرهاب والتخريب إلى رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي (المادة 2)، وذلك يعني جملة أمور منها:

1— ستبقى للمؤسسة العسكرية اليد الطولى في تحقيق الأمن في بعده السياسي المدني بينما تأتي السلطات المدنية في مرتبة ثانوية رغم أنّ هذه المهمة ضمن صلاحياتها الأساسية.

2— مواصلة الإمساك بملف الإرهاب من طرف المؤسسة العسكرية وبالتالي سيستمرّ التعامل معه أمنيّا وليس سياسيّا.

3— بقاء ملفّ الإرهاب مفتوحا ومعالجته بطريقة أمنية لا يمكنه أن يشكّل حافزا للعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية ولا لدولة القانون.

4— إذا كانت الوقائع على الأرض تبيّن أنّ الظاهرة الإرهابية قد تمّ عزلها كليّا عن الوسط الحضري والريفي وحصرها في جيوب جبلية بعيدة التأثير عن السير العادي للشؤون اليومية للمواطن، فسيكون التخريب الإرهاب السلمي (terrorisme pacifique) الذي لا يطال الأرواح بل المنشآت والمعدّات أي البناء المدني للدولة .

5— إذا كان الإرهاب معارضة مسلّحة وقع اختراقها وتوجيهها، فإنّ التخريب معارضة سلميّة سيقع اختراقها وتحريفها أيضا – كما أثبتت وقائع أحداث “الزيت والسكّر” –، وبالتالي فالإرهاب والتخريب وجهان لعملة واحدة: الاحتواء الاستخباراتي لأيّ عملية احتجاجية مهما كانت طبيعتها .

6— يعتبر المرسوم الرئاسي سالف الذكر الوريث الطبيعي والقانوني لحالة الطوارئ التي لم تعد تملك مبرّرات في الداخل وتثير الاستهجان في الخارج.

الغموض والخوف

تلقّى الجزائريون مبادرة رفع حالة الطوارئ بفتور ولامبالاة ولم يقع الاحتفاء بها إلا في الأوساط الإعلامية والسياسية الموالية، لأنّ الهموم اليومية أضخم وأعمق ممّا تحاول السلطة المناورة من خلاله. لكنّ اتّخاذ هذه المبادرة وفي هذا التوقيت بالذّات يحمل دلالات عديدة منها:

1— لقد فهمت السلطة الرسالة القادمة من الشرق – إمّا أن تغيِّروا أو تغيَّروا – فهمًا يستجيب لطبيعة مكوّناتها البنيوية ولا يمكنها أن تذهب إلى أبعد من ذلك، فالاستبداد كالاستعمار… تلميذ غبيّ.

2— “الباقة التشريعية” المقدّمة كتنازل، عمليّة إعادة “انتشار قانوني” تحسبّا لأيّ طارئ تفرضه تطوّرات الأوضاع المفعمة بالأزمات داخليّا والمعبّأة آمالا خارجيّا.

3— السلطة تناور وتتحصّن وتعيش على هاجس الخوف من المستقبل الغامض لأنّه حتّى الماضي القريب لا يزال أكثر غموضا: من كان يتصوّر أنّ بن علي – ستالين المغرب العربي – سيفرّ تحت جنح الظّلام ذليلا، ومن كان يتصوّر أنّ مبارك – صاحب الدكتوراه في العناد – سيتنحّى دون أن تكون له الشجاعة لإعلان ذلك على لسانه؟

فرحات عباس
12 مارس 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version