الشفرة الدبلوماسيّة

بعد شدّ وجذب إعلامي وسياسي حول تدخّل الجزائر في الأزمة التونسيّة تدخّل سفير الجزائر في تونس عبر بعض وسائل الإعلام ليفصح عمّا يلي:

1- نفى أن يكون ما تقدّمه الجزائر وساطة حيث قال: “هي ليست وساطة هي عناية واهتمام وحرص  على متابعة الأوضاع في تونس ولقاءات تعقد مع شخصيات سياسية، والوساطة لما يكون هناك برنامج أو خريطة طريق تتمّ مناقشتها أو تقريب وجهات النظر حولها، والجزائر لم تقدّم خارطة طريق للفرقاء حول ذلك”.

2- هناك اهتمام أمريكي وجزائري مشترك بحيث أنّ سفيري البلدين هما الوحيدين اللذين لم يأخذا إجازتيهما الصيفية وفضّلا البقاء في تونس لمتابعة الوضع: “كيف للأمريكان أن يهتمّوا بالوضع في تونس، وتبقى الجزائر بعيدة، لما لها من علاقات وطيدة مع الإخوة في تونس”.

3- ما يقوم به السفير الحالي هو بتوجيه من بوتفليقة: “أنا أضطلع بمهامي كسفير، وكلّ ما أقوم به يتمّ بتوجيهات من الرئيس بوتفليقة”.

4- في لقائه مع الفرقاء شدّد على أنّه قدّم “رأيه” ولكن ليس رأيه الخاص: “أعطيت رأيي في الأزمة الذي هو موقف الدولة الجزائرية المتمثّل في عدم التدخّل في الشؤون التونسية، وعلى التونسيين حلّ مشاكلهم، والجزائر مضطلعة ومهتمّة بما يدور في دول الجوار”.

5- رأي السفير كان “نصيحة” قدّمها للفرقاء بأنّه لا يحبّذ حلّ الحكومة والمجلس التأسيسي: “من باب النصيحة قلت لهم إنّي لا أحبّذ حلّ الحكومة والمجلس التأسيسي، فالراحل عبد الحميد مهري كان يقول شرعية ناقصة أفضل من لا شرعية”.

6- قدّمت الجزائر موقفها من الأزمة لمختلف الأطراف ولن تواصل تحرّكاتها مستقبلا: “حقيقة لا أحتاج إلى عقد جولة ثانية من اللقاءات، فما يجب أن أسمعه قد سمعته وما يجب أن أقوله قد قلته للإخوة في تونس، ونحن دائما مستعدّون لتقديم المساعدة وجاهزون لمدّ يد العون، لكن هذه ليست وساطة ولا أرضا للحوار ولا تدويلا: “أنا شخصيّا متفائل وإن شاء اللّه ستكون هناك توافقات وتجري انتخابات في جوّ سليم”.

7- تونس شريك استراتيجي بفعل عوامل التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والأمن: “وأريد أن أؤكّد بأنّ هناك أيضا تعاونا بين البلدين في مجالات شتّى بما فيها الأمنية والاقتصادية، خاصة وأنّ تونس تمرّ بأزمة اقتصادية … كما أنّ الجزائر قدّمت ورقة للتكامل الاقتصادي بين الولايات الحدودية، كما أنّ الاتفاق التجاري التفاضلي الذي تمّ الاتفاق عليه في 2008 تمّ تفعيله وكانت المصادقة عليه والملحقات وقوائم البضائع في 21 أوت الماضي، وسيدخل حيّز التنفيذ قريبا … والجزائر لا تنسى أبدا موقف تونس  خلال الثورة، كما لا ننسى موقف تونس خلال فترة التسعينات لمّا فرضت كلّ الدول التأشيرات على الجزائريين ما عدا تونس التي بقيت المنفذ الوحيد”.

8- رفض تصريحات الهاشمي الحامدي ومن يقف وراءها: “ما قاله الحامدي غير صحيح، التدخّل هو ما تقوم به الدول التي يعرفها هو .. نحن نهتمّ مع إخواننا التونسيين للعبور إلى برّ الأمان، وتأمين الحدود المشتركة ومحاربة الإرهاب بكلّ أشكاله .. نرجو من الإخوان أن لا يستغلّوا ما نقوم به، ونؤكّد لهم وللجميع أنّ الجزائر تسعى لأنّ تمرّ تونس إلى برّ الأمان”.

اللاّعب الإقليمي الكبير

لفكّ الشفرة الدبلوماسية لكلام السفير علينا الاستناد لبعض سمات النظام الجزائري حتّى نتمكّن من فهم حقيقة موقف هذا اللاعب الإقليمي من الأزمة التونسيّة والذي يعتبر – بالنسبة لأمريكا – الخبير الذي تستند إليه في الملفّ التونسي.

تشكّل المخزون البشري للسلطة الجزائرية في مدرسة الثورة وتحديّاتها العميقة والأليمة، وحتّى الجيل الثاني الذي تولّى بعض مقاليدها بعد الاستقلال تشرّب قيمها التي من أهمّها:

1- التعقيد، الغموض وروح الكتمان: فهم لا يثرثرون، لا يتبجّحون ولا ينشرون غسيلهم في الفضاءات الإعلامية. يدخلون أروقة السلطة ويخرجون في انضباط وتحفّظ. بالطبع تنشر مذكّرات هنا وهناك، خرجات إعلامية “منضبطة” لكن لا يمكنك فهم علاقاتهم وتوازناتهم. باختصار “كيف يصنع القرار؟

2- المرونة والتغيّر: لا تملك السلطة في الجزائر مركز ثقل، بل هي موزّعة بين أجنحة مختلفة مدنية وعسكرية، تلتقي وتفترق، تتحالف وتتعادى ضمن فضاء من المصالح والمطامح الشخصية، لكنّ المحافظة على طبيعة النظام واستمراريته جوهرها الرئيسي. ولذلك فالقول بأنّ المخابرات هي من تملك سلطة القرار أو الرئاسة كلام يغلب عليه طابع التخمين والافتراض في غياب المعلومات الصحيحة.

3- نزعة الاستعلاء والتفوّق: لا تقبل السلطة في الجزائر التدخّل الأجنبي في شؤونها مهما كان مصدره وإن أوحت فصول الصراع الداخلي بغير ذلك أحيانا، ولا تقبل أن يلعب أحد باستقرارها وأمنها، وأنّ حدود أمنها يتجاوز رقعتها الترابية، ولها في ذلك أوراق خارجية كثيرة تلعبها لأنّها ترى نفسها – بالنظر لإمكانياتها الجغرافية السياسية وضخامة مواردها الاقتصادية – لاعب إقليمي كبير لا يمكن لأيّة قوّة دولية تجاوزه في حلّ أزمات المنطقة.

هذا موقفنا
 
استنادا لما سبق يمكننا أن نخلص إلى ما يلي:

1- رؤية الجزائر للأزمة التونسية: عدم حلّ المجلس التأسيسي والحكومة والدفع قدما بالمسار الانتقالي نحو الانتخابات لتحقيق استقرار للمؤسّسات وللدولة عموما.

2- تونس شريك استراتيجي على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية، ولا يمكن للجزائر أن تسمح للذين عاثوا في مصر تحريضا وابتزازا أن تصل “دفاتر شيكاتهم” إلى تونس وجعلها عرضة للاهتزازات ممّا يعرّضها بدورها لعدم الاستقرار.

3- استقبال الرئيس بوتفليقة للشيخ راشد الغنوّشي والباجي قايد السبسي رسالة موجّهة للداخل التونسي والخارج بأنّ الخارطة السياسية لتونس يتجاذبها قطبان تصطف في نطاقهما بقيّة الأطراف الأخرى: حركة النهضة ونداء تونس. وبالتالي فالإسلاميون قوّة سياسية لا يمكن تجاوزها في أيّ استحقاقات مقبلة تدفعها إلى الصدارة، وما حدث في مصر لا يمكن استنساخه في تونس. أمّا التجمعيون، فلا يمكن الحديث عن عزلهم بإطلاق، وعودتهم للحياة السياسية أهمّ صمّامات الاستقرار السياسي في البلاد..

فرحات عبّاس
21 سبتمبر 2013

ملاحظة: أقوال السفير الجزائري بتونس السيّد عبدالقادر حجّار المذكورة سابقا تمّ الرجوع إليها كاملة من  خلال جريدتي “الشروق” و”الخبر” اليوميتين الصادرتين بتاريخ 16 سبتمبر 2013.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version