في إطار التغيير المطلوب يبدو أن الجدال لا يزال مستمرا حول شكل الحكم أو النظام السياسي الأمثل لترسيخ الديمقراطية والعدالة واحترام وصيانة الحقوق والحريات. وفي هذا السياق يتم إبراز الكثير من النظريات المتعلقة بالسيادة وتداول الحكم و الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والتوزيع العادل للثروات والوظائف والمساواة أمام القانون وكل ما من شأنه تحقيق الازدهار والرفاهية وتكريس المبادئ والقيم الإنسانية العامة.

ومن المؤسف أنه غالبا ما يجري البحث عن الوسائل والنماذج في إطار تجارب وأنظمة تتعارض مع قيمنا التاريخية والحضارية ناهيك عن كونها غير صالحة حيث أثبتت فشلها وإخفاقها في كثير من الميادين.

إننا بهذا السلك صرنا نعمل لصالح غيرنا ونستورد ما لا يليق بنا إما من حيث عدم الجدوى وإما من حيث التعارض مع تعاليم ديننا الحنيف. ويبقى السؤال مطروحا  لما ذا نبحث لدى الآخرين عما هو موجود عندنا؟

لا شك أن الخطأ في استيعاب بعض المفاهيم يؤدي إلى الخطأ في التصورات والتأويلات: إذا أخذنا على سبيل المثال كلمة دين كما وردت في القرآن الكريم نجد معناها “منهاج أو نظام الحياة” أي منظومة القوانين والمبادئ والقيم والأعراف التي تنظم السلوك والعلاقات بين الأفراد والمجتمعات بالإضافة إلى الشعائر والطقوس الدينية. ولو اقتصرت كلمة “دين” على العبادات لما استغرق اكتمال الدين عشرات القرون كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة، 3)

إذا تدبرنا هذه الآية الكريمة، نستطيع التأكد من أن الدين ليس كما يفهمه عامة الناس وخاصة المجتمعات الغربية. إن مدلول هذه الآية يبين بوضوح أن الدين يشمل الشرائع والعبادات والأخلاق والمعاملات وإلا فإننا نستطيع القول أن الدين باعتباره منحصرا في الشعائر والطقوس لم يكن مكتملا في عهد إبراهيم وموسى وعيسى وكل الأنبياء الذين جاءوا قبل محمد )عليه وعليهم الصلاة والسلام(، مما يؤدي إلى خلاصة القول أن العبادات كانت — حاشا لله — ناقصة.

كذلك الأمر بالنسبة للآية 75 من سورة يوسف عليه السلام: “ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك” يعني: ما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك أو بموجب شريعة الملك أو قانون الملك. يتبين من هذه الآية أن كلمة دين لها دلالة أخرى غير التي تعارف الناس عليها.

بينما تعَوًد الغرب على اختزال مفهوم كلمة “دين” في علاقة العبد بربه أي في العبادات لا غير ولهذا عندما وقع فصل الدين عن السياسة لم تتأثر المسيحية بهذا الإجراء مثلما تأثر الإسلام بتلقًيه ضربة في الصميم أفضت إلى تهميشه سياسيا واقتصاديا وثقافيا وحتى اجتماعيا.

إذن يمكن القول أن الإسلام هو عبارة عن نتيجة مسار تاريخي مستوفٍ للشروط الموضوعية والإنسانية، من حيث الزمان والنضج البشري والكم ومن هنا يمكن أن نفهم جيدا قوله سبحانه عز وجل: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”.

حتى المسيح عليه السلام أشار إلى عدم اكتمال الدين أي نظام أو منهاج الحياة في عهده لمًا قال: “إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحملوا الآن. وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية.” (إنجيل يوحنا، 16:12).

طبعا يقصد بروح الحق محمدا رسول الله والقرآن الذي أُنزل عليه، كما قال الله سبحانه في موضع آخر: “وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا” (الشورى، 52).

يتضح مما سبق أن الدين بالمفهوم الغربي ليس إلا مكونا من مكونات النظام الشامل الكامل المحيط بجوانب الحياة كلها وما تحتويه من حقوق وواجبات بين الخلق بعضهم بعض وتجاه الخالق والمخلوقات من حيوان ونبات وجماد وغير ذلك مما سخره الله لخدمة العباد وسد حاجاتهم ومقتضيات حياتهم الدنيوية.

وأراد الله سبحانه عز وجل أن يكون الإسلام هو ذلك النظام المقرر في محكم التنزيل والمقبول من طرف المولى جل جلاله بقوله: “ورضيت لكم الإسلام دينا”.

وبالرغم من أنه لا مجال للاستدلال على ذلك طالما أن التاريخ خير شاهد على الطابع السياسي للإسلام وعلاقته بالحكم منذ دولة المدينة في القرن السابع الميلادي إلى سقوط الخلافة سنة 1924، تجدر الإشارة إلى شهادات بعض المفكرين الغربيين الذين لا علاقة لهم بالحركة الإسلامية :

يرى الفيلسوف والمفكر روجي ڤارودي، في الإسلام النظام الأمثل لسعادة الإنسانية، وذلك بعد أن درس الأنظمة الاجتماعية التي تتبناها الأمم، دراسة استغرقت عشرات السنين وألف عشرات الكتب في هذا المجال من بينها كتاب “وعود الإسلام”.

وتحت عنوان “الإسلام نظام كامل للحياة”، يقول المستشرق نيلسون مدير معهد دراسات الشرق بإنجلترا: “ليس الإسلام ديناً يحصر فعاليته في نطاق الحياة الفردية، بل هو نظام كامل للحياة البشرية في مختلف ميادينها، يرسم الطريق لكل جوانبها، سواء في ذلك حياة الفرد أو الجماعة،. ومن جانبيها المادي والروحي، ومن مجالاتها الاقتصادية والسياسية والتشريعية والثقافية والإقليمية والعالمية.”(1)

ما محمد أسد فيقول هو الآخر: “الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة (…) ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا، ولا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية. إن استعداد المجتمع للتعاون وفق مبادئ الإسلام لتحقيق غايته، سوف يظل استعداداً نظرياً ما لم تكن هناك خلافة مسؤولة عن تطبيق الشريعة الإسلامية ومنع الخروج عليها (…) ومثل هذه المهمة لابد لها من أن توسد إلى مرجع له من السلطة ما يتيح له الأمر والنهي” (2).

“إن الإسلام ليس دينا كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وإن ميزة الإسلام أنه نظرية كلية شاملة وأنه لم يجزئ الحياة بل نظر إليها نظرة كلية كما نظر إلى الإنسان كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل” (3).

أكتفي باستشهاد هؤلاء حيث لا يتسع المجال لذكر المئات من العلماء والمفكرين الذين يرون في الإسلام الحل الوحيد لأزمات و مشاكل الشعوب العربية والإسلامية.

لكن المشكل يكمن أساسا في جهل الإسلام من طرف النخب والمثقفين المنتمين إليه )اجتماعيا( والمثل يقول: من جهل شيئا عاداه.

هؤلاء ينظرون إلى الإسلام نظرة غربية، يريدون حصره في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية، ومنعه من التدخل في السياسة وغيرها من شؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كأن الإسلام وليد اليوم ولم تكن له أي تجربة في تسيير شؤون الدولة والأمة.

وآخرون يضربون الأمثلة ببعض الدول يُطبًق فيها الإسلام متًهمين إياهـ)ـا( بالاستبداد والتخلف والرجعية والهمجية في إقامة الحدود والخضوع لهيمنة أمريكا و ما أشبه ذلك. والحقيقة أن كثيرا من الانتقادات غير مؤسسة وغير منصفة وذلك لعدة أسباب أولها أن الإسلام بريء من تصرفات بعض الحكام، القائمين عليه أو الناطقين باسمه، ثم إن هذه الأنظمة لازالت في مرحلة التجارب لكونها حديثة العهد بالإسلام فمن الطبيعي ارتكاب بعض الأخطاء، والسبب الأهم هو أن الانتقادات المشار إليها ارتجالية وغير موضوعية حيث تقتصر على السلبيات إن صح التعبير و تقصي الجوانب الإيجابية، يعني تنكر أو تحجب كثيرا من المحاسن و الإنجازات.

ومهما يكن من أمر فإن لكل بلد نظرته وفهمه للإسلام، وبعبارة أدق تختلف الاجتهادات من مجتمع لآخر ومن بلد لآخر بل ومن مدرسة لأخرى حتى يأذن الله بوحدة الأمة تحت راية واحدة.

إنه ليس من العدالة بمكان ولا من الموضوعية أن نمقت شيئا دون أن نعرفه أو نحكم عليه قبل أن نجربه.

لقد جربنا كل الأنظمة ولم نجرب الإسلام. جربنا الاشتراكية من فجر الاستقلال إلي غاية 1980، يعني ما يقارب 18 سنة وجربنا الليبرالية أو الرأسمالية من 1980 إلى يومنا هذا ونحن في أواخر شهر نوفمبر 2009 أي تسعة وعشرون سنة. وكانت العلمانية هي أساس هذه الأنظمة.

ماذا جنينا من هذه الأنظمة وكيف كانت النتيجة؟ كانت النتيجة مآسي متتالية وأزمات متتابعة: فقر وجهل واستبداد وفساد وتخلف وبطالة وتمزيق وتبعية واستسلام والأخطر من كل ذلك التناحر والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد والبلد الواحد والقرية الواحدة بل والأسرة الواحدة.

تكاد العلمانية تفصل بين الروح والجسد كما فصلت بين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد وبين الدين والعلم وبين الدين والأخلاق وبين الدين والفن وفي نهاية المطاف بين العبد وربه ولا أبالغ إذا قلت بين المرء وقلبه. فما ذا بقي للإسلام؟ لا شيء! استحوذت العلمانية على كل مجالات الحياة، حياة الناس أفرادا ومجتمعات.

ولتشويه الإسلام تُروًج أكاذيب ومغالطات حول السلطة والسيادة ومفاهيم أخرى ينبغي الانتباه إليها: إن السلطة في الإسلام مستمدة من الشعب أو الأمة ولا علاقة لها بنظرية الحق الإلهي التي تعتبر الله هو مصدر السلطة وأن الملك أو الحاكم ظل الله أو وكيل الله في الأرض. هذه الفكرة أكل عليها الدهر وشرب والإسلام براء منها بل هو الذي أجهز عليها برد العبودية لله وحده، وجعل الحكام في خدمة الأمة تطيعهم ما أطاعوا الله و تعصيهم بل تثور عليهم إذا انحرفوا.

والسلطة تمارس باسم الأمة أو باسم الشعب ليس باسم الإله ولا باسم الحاكم وليس النظام الإسلامي ملكيا ولا إمبراطوريا ولا دكتاتوريا بل نظام شرعي يتسم بالشورى والبيعة والشرع فهو أشبه ما يكون بدولة القانون.

ليس من الممكن إطلاقا إصلاح البلاد ومعالجة الأوضاع الكارثية والمظالم المريعة التي تسبب فيها النظام الحاكم المغتصب إلا في إطار نظام إسلامي وبوسائله وأجهزته ومبادئه. ذلك أن الظلم لا يُزال بالظلم والفساد لا يُزال بالفساد ولا عدل و لا مساواة ولا حزم إلا في ظل النظام الإسلامي.

إن القيم العامة المتمثلة في العدالة والديمقراطية واحترام الحقوق والحريات الفردية والجماعية والمساواة كلها مصانة ومضمونة في إطار النظام الإسلامي. حيث أن الاستبداد ظلم والقمع ظلم والحرمان ظلم والفساد ظلم والمحسوبية ظلم والكيل بمكيالين ظلم واختلاس أموال الدولة ظلم وإهمال الشباب ظلم ودفعهم إلى المغامرة بحياتهم في الجبال والبحار ظلم وعدم التصدي للظلم سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي ظلم والإسلام في حد ذاته ثورة ضد الظلم.

إن النظام الإسلامي المقترح في الجزائر يقوم حسب رأيي وبكل تواضع على قاعدة “لا إكراه في الدين” بحيث لا يُجبر أحد على ممارسة الشعائر الدينية ولا على ارتداء لباس خاص كالحجاب وغيره إلا ما يستوجب فعله أو لباسه أو منعه استجابة واحتراما لمقتضيات الآداب والأخلاق في إطار النظام أو الأمن العمومي.

إن الإكراه في الدين يؤدي إلى النفاق ولهذا ألحً القران الكريم على عدم الإكراه في الدين، أذكر على سبيل المثال:

“إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء” (القصص، 56)
“ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء” (البقرة، 272)
“يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم” (المائدة، 104)
“فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر” (الغاشيةـ، 20—21)
“أنلزمكموها وأنتم لها كارهون” (هود، 28)

إنه من الصعب بل من غير الممكن استعادة القيم والحقوق والشرعية المفقودة والبناء الحضاري وصيانة مقاومات الهوية والخروج من الأزمة دون أجهزة وأدوات النظام الإسلامي، وأن مراعاة سنة التدرج أمر لا بد منه حسب رأيي وبكل تواضع وأن الاستعانة بالتجارب والكفاءات والمؤسسات التابعة للنظام الحالي أمر ضروري ولا يقصى إلا من أراد إقصاء نفسه ويجري التغيير بالحكمة وبالتي هي أحسن دون حقد ودون انتقام باستعمال القاعدة “عفا الله عما سلف” إلا في أمور لا يمكن تجاوزها أو تركها دون محاكمة أو يكون الضرر في تجاوزها أكثر من النفع في مقاضاتها.

قد يظن البعض أن الاقتراح مبالغ فيه وأنه من الممكن الخروج من الأزمة والنهوض بالجزائر بوسائل وإمكانيات أخرى غير التي ورد ذكرها في هذا المقترح المتواضع. ولتفادي الجدال العقيم لا أقول من المستحيل ولكن أقول من الصعب جدا وذلك لعدة أسباب، من بينها:

1— ليس من الممكن تغيير الوضع بنفس الأدوات ونفس الأفكار والإيديولوجيات. هناك مثل شعبي يقول: “ماء ما يطلًع ماء”، يعني الماء في جوف الأرض (الآبار( يطلع بالبنزين وليس بالماء. إذا جئت لتغيًر الأوضاع فلا بد أنك تأتي بوسائل ونظريات وقوانين وتتحرك في إطار نظام سياسي معيًن وهذا النظام لا يتعدى خيارا من الخيارين لا ثالث لهما: إما نظام اشتراكي أو ليبرالي!

أقول لماذا الآخرون الذين كانت لهم نفس المقاصد ونفس الهموم فشلوا ولم ينجحوا؟ قد يقال: لأنهم لم يُحسنوا التسيير ولم يكونوا مخلصين! والجواب كالآتي: إنّ النظام هو الذي جعلهم كذلك، أفقدهم الإخلاص ودفعهم إلى الفساد. إذن العلة تكمن أساسا في النظام.

2— النظام الإسلامي ليس فيه هذه العيوب ولهذا ارتضاه الله لعباده والله هو وحده الذي يعلم ما يضرهم وما ينفعهم كالطبيب، ولله المثل الأعلى، الذي يشخًص المرض ويصف الدواء. ثم لأن الإسلام يفي بحاجات ومطالب الروح والجسد معا وليس فقط الجسد وهذا التوازن يُزيل الاضطراب العقلي أو النفسي في الإنسان، والإسلام يربي في الضمير وازع الإيمان والخشية والرحمة وحب الخير ويزرع في القلوب ضوابط تمنعهم من ارتكاب الفواحش والمنكرات وهذه الضوابط بمثابة العنان أو الفرملة. وكما حث الناس على فعل الخيرات واجتناب المعاصي أخبرهم بأنهم مسؤولون ومحاسبون على أفعالهم وستكون النتيجة ثواب في الجنة أو عقاب في الجحيم وأمور كثيرة من هذا القبيل ليست موجودة في الأنظمة المادية.

نكتفي الآن بهذا القدر وقد تكون لنا جولة أخرى إن شاء الله.

أحمد سيمزراق
28 نوفمبر 2009

الإحالات:

1— http://www.11c11.com/vb/showthread.php?t=4183
2— محمد أسد مجلة الوعي، العدد 252، مع القرآن الكريم: إقامة الدين واجب الأمة كله.
3— أنور الجندي، الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، دار العلوم للطباعة القاهرة، 1982.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version