تحدّث وزير داخلية الجزائر السيد نور الدين يزيد زرهوني يوم الأربعاء 25 نوفمبر 2009 لقناة التلفزيون الوطنية من مدينة البندقية الإيطالية عن أشغال ندوة وزراء داخلية دول غرب المتوسط. وسررت برؤيته يحاول بصعوبة الحديث باللغة العربية التي لا يجيدها وهذا أمر يستحق التنويه مقارنة بتصرف رئيسه غير اللائق الذي يتقن اللغة العربية ومع ذلك يفضل في كثير من الأحيان مخاطبة شعبه بلغة المستعمر، بل ويستعمل الفرنسية حتى في زياراته الرسمية لبلدان أجنبية كاليابان مستعينا بمترجم إلى اللغة المحلية.

ما لفت سمعي في حديث زرهوني هو إشارته المكررة لعبارة “الهاوية الوطنية” والمقصود طبعا هو مفهوم “الهوية الوطنية”، الموضوع الذي جعل منه نيكولا ساركوزي وإيريك بيسون (Eric Besson) حديث الساعة في فرنسا وموضوع نقاش وطني، فليس غريبا أن يتسرب الأمر إلى الجزائر التي أضحت سلطاتها رائدة في تقليد الفرنسي تقليدا أعمى في جميع المناحي الإدارية والقانونية والاقتصادية، مختزلة جميع تجارب العالم فيما يروج في باريس.

الخطأ الشائع في العالم العربي هو نطق لفظ الهوية بفتح الهاء، فالأصح أن تُضم، لكن سي زرهوني أوّل من زاد الهاء مدّا فأصبحت الهُوية الوطنية عنده هاوية وطنية. قد يقول أحدهم إنّ المحتمل ألا يكون هذا خطأ لغويا بل زلة لسان تنمّ عن واقع (lapsus révélateur) فنظام الاستبداد والفساد الذي يمثّله يزيد زرهوني منذ قرابة نصف قرن يكاد أن يقضي على مقومات الهُوية الوطنية وتكاد سياساته اللامسؤولة، بل الإجرامية، أن تقود البلاد إلى شفير الهاوية الوطنية.

أكد زرهوني في حديثه على أنّ “مكافحة الإرهاب لا يمكن أن تختزل في الحلول الأمنية بل يجب أن تشمل معالجة الحاضنة الإيديولوجية لهذه الظاهرة”. الحاضنة أو الرحم الأيديولوجي للإرهاب، أي كما أصرّ الوزير على توضيحه باللغة الفرنسية للحفاظ على دقة العبارة “la matrice idéologique du terrorisme”. وقد يكون الوزير مستاءً لكون وسائل الإعلام الوطنية بما فيها وكالة الأنباء الجزائرية ترجمت “matrice” بلفظ “نواة” وهي ترجمة مجانبة للدقة. والحديث عن الحاضنة الإيديولوجية للإرهاب ليس أمرا جديدا، فمنذ أكثر من عقدين كتب الباحث الفرنسي جون إيف ڤيران (Jean-Yves Guérin) يصف الكاتب ألبير كامو (Albert Camus) قائلا: “منذ تلك الحقبة (أي منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي حين انسحب من الحزب الشيوعي)، مافتئ الكاتب يجرّم بصراحة الماركسية كونها الحاضنة الإيديولوجية للإرهاب ويطالب الاشتراكيين الفرنسيين باختيار طوباوية (utopie) مغايرة أكثر تواضعا وأقل تدميرا” (1).

يبدو أنّ النظام الجزائري اقتنع بأنّ المقاربة الأمنية البحتة لفض النزاع الجزائري لا تفيد، والمؤسف أن يقضي عشرية حمراء استعمل فيها أبشع أنواع القمع وأدوات الحرب الشاملة على الشعب راح ضحيتها ما يقارب ربع مليون جزائري ليصل إلى هذه النتيجة، غير أنه يكون قد وصل إلى استنتاج ناقص إن كان يعتقد حقا أن للعنف في الجزائر حاضنة أيديولوجية. فالجزائر تعاني من عنف ظاهر للعيان ومن عنف هيكلي خفي. والحاضن الأساسي له سياسي في الأصل. إنه استبداد النظام القائم الأصم لأصوات الحكمة، وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة العقيمة التي نجم عنها لدى المواطن الإحساس بضنك العيش وانسداد الأفق وانعدام الأمل وتفشي الإحباط واستفحال “الحڤرة” وشدة الهوان، والتي تفسر شيوع الانتفاضات في شتى ربوع الوطن، والتي رمت بجموع من مواطنينا وخاصة شبابنا في حضن المخدرات والعنف الاجتماعي والانتحار و”الحرڤة”.

تعرّض الوزير في حديثه لمسألة الهجرة “غير القانونية” وأكد أنّ “الحكومة الجزائرية أكدت دائما أنها تتحمل مسؤوليتها إزاء مواطنيها الموجودين في وضعية غير قانونية”، كما أشار إلى ضرورة معالجة القضية في ظل احترام الكرامة الإنسانية. والواقع  يفند قوله. فالحكومة الجزائرية لا تتعامل مع ظاهرة الهجرة “غير القانونية” إلى أوروبا وظاهرة “الحرڤة” على وجه الخصوص إلا بتجريم الشباب “الحراڤ” ولا تأبه حتى باسترجاع جثامين ضحايا “الحرڤة” التي لفظها البحر المتوسط، وحفظ كرامتهم ودفنهم في أرض الوطن. أما الكرامة الإنسانية التي يشير إليها زرهوني فهي سلعة نادرة في جزائر اليوم، وهذا أصلا سبب تفشي ظاهرة الهجرة “غير القانونية”.

نُشيد باستنكار الوزير لأنّ “في بعض الدول من الضفة المقابلة للمتوسط يتم التفكير فقط في التطرف الإسلاموي، غير أن هناك بعض الإيديولوجيات المتطرفة والمتعصبة التي تنهل أصولها من المسيحية واليهودية”، وبتذكيره لنظرائه في ندوة البندقية بأنّ “الأندلس الإسلامية كانت مثلا يقتدى به في التسامح الديني”، وأنّ “بلدنا الذي كوّن سانت أوغسطين واحتضن كبير الأحبار الذي دفن في تلمسان ليس لديه أية عقدة بهذا الخصوص”. لكن حبذا لو يدلي زرهوني بخطاب مشابه داخل الجزائر من أجل إرساء جو من التسامح والرحمة بين أبناء الوطن الواحد مبني على مبادئ الحرية والكرامة والمساواة والعدالة والسلم للجميع.

عباس عروة
29 نوفمبر 2009

(1) « Dès cette époque, l’écrivain incrimine sans ambages le marxisme comme matrice idéologique du terrorisme et appelle les socialistes français à “choisir une autre utopie, plus modeste et moins ruineuse. » Jean-Yves Guérin, « Camus face au terrorisme », Fragmentos, Vol. 2, No 1, 1987.
المصدر: www.rachad.org

تعليق واحد

  1. غير معروف بتاريخ

    “ولـد الـجـادارمـي”
    مـا هـذا يـا بُـنَـيٌ عـباس ؟ أتـأبـه لـمـا بـقـولـه أو مـا لا يـقولـه شخص مـثـل الـزرهـونـي وزيـر الـداخلـية ، وهـو الـمـديـن إلـى الأبـد، لنـظـيره الـسـابـق، نـيـكـولا سـاركـوزي الـذي مـا فـتئ يـتردد لـزيـارتـه، طـوال الأسـابـيـع، عـلـى الـعـيـادة الـباريـسـية الـتـي أُجْـريـت لـه فـيـهـا عـمـلـيـة زرع الـكـلـى ؟ وكـيـف تـريـد مـن رجـل طالـمـا تـحـمٌـل مـن عـبـئ كـونـه “ولـد الجادارمـي” كـمـا كـان يُـعـايرونه بـعـض رُفقـائـه….كـيـف تـريـد مـن الـرجـل أن لا يـقـلـد مـمـارسـات سـاسـتـه فـي الـصـغـيرة والـكـبـيرة……لا سـيٌـمــا الـكـبـائـر مـنـهـا ؟

Exit mobile version