سنة 1983، تمّ انعقاد مؤتمر للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر حضرته حينها أهم فصائل العمل السياسي والنضالي من أجل القضيّة الفلسطينية. كان من بين الحاضرين في هذه الدورة شاعر المقاومة محمود درويش، الذي ألقى مقاطع من قصيدة “مديح الظل العالي” التي كانت لوحدها ديوانًا وذلك لطولها. أثناء تناوله الكلمة، في مقدّمته، ومباشرة قبل أن يبدأ الإلقاء لشِعره، قاطعه رئيس منظّمة التحرير ياسر عرفات وأوْرد عبارة جميلة وجامعة، لها أن تنطبق على ماهية كل ثورة مهما كان نوعها، قال فيها: «عظمة هذه الثورة أنها ليست ثورة بندقية.. فلو كانت بندقية فقط لكانت قاطعة طريق، ولكنها لفظ شاعر وريشة فنّان وقلم كاتب ومِبضَع جرّاح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائيّيها وزوجها».

تلك الفتاة وإبرتها ذكّرتني بفتاة أخرى كانت لها إبرة أيضًا، تخيط بها هي كذلك أقمصة مُجاهِديها وزوجها وأعلام وطنها المُحتلّ إبّان ثورة تحرير أرض الجزائر الحبيبة. كانت الفتاة جميلة حقًّا، لكن التاريخ لم يُرفق صورتها بصُورة جميلات الجزائر. ليس لأن اسمها لم يكن جميلة على غرارهن، لكن لأنّها كانت مثلها مثل الكثيرات غيرها اللّائي تجاهلهن التاريخ في لحظة كِبْر منه؛ فقط لأنّهن أطَعْن أوامر آبائهن بالمكوث في البيوت حمايةً لشرفهن من أنياب العدو المفترس الذي لا يعرف للشرف معنى. أطرقن.. ولم يُزاحمن بذلك الرجال على حمل السلاح في الجبال وسلك دروبها الوعرة، إنّما سلكن طريقًا أخرى كُنّ فيها الوطن الآمن لأولئك الأشاوس بعد المعارك والوقود المُذكّي لشجاعتهم قبلها والثّواء المُثبّت لأفئدتهم أثناءها، حملن على عاتقهن المواربة والتعمية عليهم إن العدو سأل عنهم وحفظ أعراضهم والعناية ببذورهم. كلّ منهن كانت تطبخ الأكل وتخبز الخبز وتبعث به إلى بطلها مُحمّلا برسائل حبٍّ وودٍّ هو وحده من يفك شفرتها، تشدّ بها رمقه الروحي بالإضافة إلى الجسدي.

هذه الفتاة بذكائها الفطري وبراءة الطفولة فيها طالما عرفت كيف تُراوغ وتُخادع جنود العدوّ خلال حملات التفتيش الوحشي لبيتها والبحث عن المجاهدين والسلاح وكل دليل يتّصل بالثورة، ولم يكن لهم أبدًا الحصول على مُرادهم. طالما عرفت كيف تُخبّـئ لُفافات القماش الكبيرة التي كانت تخيط منها ملابس لمن هم في الجبال ولم يُكشف أمرها يومًا. وبعد الاستقلال رفضت الاستفادة من امتيازات كانت مخصّصة للعائلة الثورية، إيمانًا منها أنّها سبّلت نفسها من أجل استقلال الوطن فقط ولا حاجة لها في المكسب المادي أو البطولي بعد ذلك، وإن ترجّاها الكثير من رفاق دربها بأنّ ذلك حقٌّ لها، إنّما أرجت ذاك الجزاء لجزاء أجزل منه وأعظم في يوم آخر. طالما تحسرّت إذ لم تُكتب لها الشهادة، واختارت أن يكون مقرّ سُكناها قريبًا من مقبرة للشهداء التي كانت من أحب الأماكن إلى قلبها. ويوم وافتها المنية، منذ بضع سنين، أكرمها الرحمن لصدقها بأن دُفنت كالشهداء تحت وقع التكبيرات وأنغام قسمًا. تكبيرات المشيّعين لجثمانها من أبنائها وذويها ومُحبّيها، والنشيد الوطني الذي كان صادرًا عن مؤسسة عسكرية قريبة من مكان دفنها، إذ كان الجنود وقتذاك يؤدّون التحية، وكانوا بذلك، وبدون علمهم، يُحيّون شهيدة من شهداء ثورة تحرير الوطن.. أغفلها الزمن.

فتاة الإبرة عندما أصبحت جدّة كانت تروي بكُلّ فخر واعتزاز ما عاشته أيام ثورة التحرير، التي كانت تمثّل جُلّ حكاياتها لحفيدتها، ولا تملّ تكرارها. كانت تسرد بطولات المناضلين وشرفهم ومدى تمسّكهم بقِيَم ثورتهم وأخلاقها وصرامتهم مع كلّ من يُخالف تعاليمها. من إحدى رواياتها أنّ المجاهدين في بلدتها قرّروا منع الأهالي من التدخين وتحويل الأموال التي تُصرف سُدى إلى الثورة التي هي في أمسّ الحاجة إليها، وأنّ كلّ من يُخالف هذا القرار يُعاقب بإحراق شفتيه. وصادف مرة أنّ أحد الشيوخ كان يُدخّن خلسة في بيته، ساعتها جاء ابنه المناضل من الجبل في زيارة قصيرة. عندما علم الشيخ بذلك قال هذا ابني ولن يُطبّق العقوبة في حقّي. صمت الابن وغافل أباه وأحرق شفتيه وقال: ثورتنا وقوانينها أهمّ من كلّ صلة قرابة!

الحفيدة قبل التحاقها بمقاعد الدراسة وتلقّيها لأولى دروس التاريخ، التي فاجأتها أولا أن سبب هذا الاحتلال الوحشي لوطنها كان حادثة مروحة! كانت قد عاشت مع جدّتها منذ نعومة أظافرها مآسي ومعاناة شعبها إبّان ثورته، وأدركت منها معاني الثورة وأخلاقها وقِيَمها وقيمة بطولات المناضلين ومدى إخلاصهم، وأكبرت نفوسَهم الكبيرة والشريفة التي قادت إلى تحرير الأرض. وأصبح كل ذلك بالنسبة لها التعريف الأوحد لأيّ ثورة مهما كان شكلها، وكلّ تصرّف يُخلّ بهذه الأعراف هو حيد بها عن مسارها. لكن.. ما غاب عن هذه الجدّة، وهي التي كانت من بسطاء الشعب غير المُتعلّمين الذين لا علم لهم بما يدور داخل كواليس النخبة الثورية أنّ بعض التجاوزات والنزاعات كانت قائمة في حناياها، والتي سببها غالبًا هو الأنـا، والظاهر أنّه الحال أيضا في الكثير غيرها من الثورات. لم تروِ الجدة تلك التفاصيل لعدم علمها بها، وبقيت ثورتها عذراء دائمًا في نظرهما. إلى أن فوجئت الحفيدة ثانية باكتشافها أنّ هذه الثورة قد اغتُصبت مع الأسف، واغتُصب الاستقلال بعدها ليبقى الإنسان أسيرًا دائما وليس أبدًا! منذ ذاك.. لم تستطع الحفيدة تقبّل هذه الحقائق التي كانت مُنافية لنظرتها الأفلاطونية للثروة وعابت بعض التصرّفات التي أنقصت، في نظرها هي، من قيمة نضال بعض الأبطال. إلى أن قامت ثورة السلم لتحرير الإنسان التي عادت بها إلى أيام شباب جدتها، ورأت من خلالها تكرارًا لبعض مُجريات الأمور وأدركت صعوبة المواقف، وحنّت في أحيان كثيرة لطينة الرجال تلك ورزانتهم، بالأخص الذين استشهدوا منهم من الرعيل الأوّل، عساهم أن يقودوا من جديد الثورة في جزئها الثاني وينقذوا شعبها و وطنها من براثن العابثين بزمام حكمه.

اليوم.. ثورة السلم لتحرير الإنسان قطعًا هي ليست ثورة بندقية، مما جعلها عظيمة على قول أبي عمّار. وما زادها عظمة هو بدايتها الجميلة والتزام ثوارها بمادئ ما خرجوا من أجله ذات فبراير. ومع امتداد الأمد وطوله على عكس ما كان مرجُوًا جرّاء مراوغات النظام وتلاعباته وقبضته الحديدية التي استخدمها لكبح لجام الثوار وأعوان خفائه لتشتيت شملهم، ظهرت بعض الانحرافات مِن بعض مَن قرّروا الانضمام إلى المركب سواء بنية النضال صِدقًا نُصرة للثورة أو فقط من أجل الظهور وصنع الألقاب وحجز الأماكن أو حتى الاقتيات منها كُلما طال الأمد.. أو تغيير اتجاه هذا المركب وإحداث ثقوب داخله وإغراقه.

الحفيدة من بسطاء الشعب وعامّتهم، مثلما كانت جدّتها يوم أمس، لا عِلم لها بكواليس النخبة الثورية وأسرارها. لكن ما تُوفّره وسائل اليوم سمح باشتمام رائحة عفن تصدر من مستنقع نضال افتراضي، قوامه التنابز بالألقاب والتراشق بأقبح الأوصاف، ضاع في ثناياه شرف الخصومة مع العدو وأقبح منه وأمَرّ ضياع شرف التعامل مع رفيق النضال وأخلاق الاختلاف معه. الكلّ في هذا المستنقع يدّعي الغيرة على ليلى والنضال من أجل تحريرها وصيانة شرفها ويُبرّر في سبيل ذلك جميع تجاوزاته. لكن ليلى تبكي حظّها اذ اختلط النابل ممن يرمون سهام الفتنة والفرقة بالحابل مِمن يمسكون لجام المناضلين بدل العدو.. وبقيت ليلى رهينة المحبسين، تُقِرّ القُبول فقط بذاك الماجد الشهم الذي يكون صادقًا ومخلصًا في تحريرها من قيود معتقليها مثلما حُرّرت يومًا ما حِمى بيتها!

في الغد.. حتما ستتحرّر ليلى، وستضُحي الحفيدة جدّة بدورها وتحكي لحفيدتها قصة ثورتها. ثورة.. لا حاجة للإبرة والمبضع والبندقية فيها، إنّما لتبقى عظيمة لا قاطعة طريق حاجتها إلى فِكرٍ سليم وخُلق قويم ولفظ رزين وقلم صريح. ثورة.. نغار عليها، وبودّنا أن تبقى كأم عيسى العذراء الولود ما طال الزمن.

حفيدة فتاة الإبرة بإمكانها محو بعض التفاصيل من حكاياتها لحفيدتها، وذلك كي لا تُنقص من قيمة ثورتها. لكنّ التاريخ سيكون أكثر جرأة منها ولن يتوانى عن كشف الأسرار كلها مثلما كان دائمًا. وهو الذي لا يتكبّر في هذه الحالة عن رصد تحركات فئة قرّرت التصدي للظلم وصنع الحدث، يُعلي مقامها أعلى عِليين إن هي تواضعت وأخلصت النية وأحسنت العمل، ويُدنيه أسفل سافلين إن هي أعلت الأنـا وتكبّرت وأخطأت. والأجيال حينها لن تتغاضى عن السقطات والهفوات، لأنها ستقول: أيا معشر مناضلي ثورة تحرير الإنسان، إن نحن تجاوزنا عن أخطاء مناضلي ثورة تحرير الأرض، فلن يكون ذلك بالنسبة لكم، لأنكم لم تعتبروا وقد كانت لكم العبرة فيمن سبق!

7 أبريل 2022

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version