يُقال أنّ التاريخ يُفهم بالمقارنة، ولهذه المقولة أن تنطبق على الحاضر أيضًا. لذلك في بعض مجريات الأحداث حين تختلط علينا الأمور، ونبقى عاجزين عن فهم كُنهِها، ونظن ألّا سبيل إلى فكّ عقدها، ولا مناص للخروج من دوامتها.. نجد أنفسنا نبحث في أخبار من سبقنا علّنا نجد عندهم الخبر اليقين والجواب الكافي. والحقيقة أنه في بعض الأحيان يكفي الواحد منّا حني الرأس قليلًا، دون الحاجة إلى الغوص العميق في أسبار قصص الأولين، ليكون باستطاعتنا سبر أسرار الآخرين. فتزول عنا بعدها أعراض الدهشة والعجب وتلازمنا بواعث الأسى والوصب، الناجمة عن مرارة إنباء الكتب!

ومن أنباء الأولين أن بعض الخبيث من الفروع لا يكون بالضرورة نِتاج الخبيث من الأصول. فللأصل أن يكون طيبًا ابتداءً، ولكن إن خالطه بعض ما يفسد طيبه حالت طبيعته وخالفت أصلها لتصبح سمجة ملوثة. الأمثلة على ذلك كثيرة، وبما أن حديثنا عن المقارنة فسنختار منها ما حدث في السابق ويوافق حالنا اليوم. غالبًا في القضايا الوطنية العادلة أين تُنتهك حقوق الشعوب نجد قلةً من أفرادها ممن يستجيبون لنداء أقنوم المثال داخلهم، النابذ للظلم والاستبداد، الداعي إلى الذود عن المظلومين والتصدي للظالمين. فيبلون البلاء الحسن، ويُضَحُّون بالكثير من أجل نصرة قضاياهم العادلة، ويقطعون أشواطًا طويلة في مسار نضالهم. ليحدث بعد ذلك ما لم يكن في الحسبان(!) إذ تتحول القضية إلى حسابات، فتأخذهم العزة بأنفسهم، ولا يرون من رفيق درب سوى أتباعهم، ولا يُصوِّبون المخطئ منهم، ولهم أن يُنكِروا ويطمسوا أكِفَّاءهم. وما تلك إلَّا أعراض أسقام النفس التي تحجب عن العقل رزانته وحكمته، وتُنسيهم أن بعض الدروب مُهِمَّةٌ مساراتها أكثر من نهاياتها، ولها أن تُجبرهم على التنكر لبعض تعاليم ذلك الأقنوم، وتُفهمهم بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة.. وأيُّ وسيلة هاته التي تُخضِّب أوراق شجرة المجد بالاصفرار وهي الباسقة التي لا تبتغي من حُللٍ غير النضارة والاخضرار!؟

نفس الأسباب تؤدي دائمًا إلى نفس النتائج، هذا ما تنصّ عليه قوانين العلوم التجريبية، الأمر الذي لا يَصحُّ عكسه بالضرورة. أمَّا التاريخ فها هو ذا يحاول إفهامنا أنّ نفس النتائج هي بالضرورة تحصيل لنفس الأسباب. من خلال تأمُّل حال حراكنا أو ثورتنا، أو أيّا ما كانت التسمية، ومقارنة أحداث اليوم بتجارب الأمس نُصدّق روايات التاريخ، بالأخص المُستغربة والمُؤلمة منها ونفهمها أكثر، ونفهم في المقابل أنّ ما نعيشه في حاضرنا من انحراف وفُرقة وتحزُّب وتجاذب ونُكران وانتشار للأكاذيب وتبادل للتُّهم هو نِتاج حسابات شخصية وسياسية في إطار حدودها الضيقة المقيتة وليس تدافعا للأفكار وأُفقها الواسعة الوادِعة. فانتشرت الرداءة ومُخلّفاتها وغابت النّبالة ومثيلاتها، ليفرح النظام لحضور ما يُحِبُّ ويشجّعه ويفرح أكثر لغياب ما يمقت ويثبِّطه.

هي مقارنة قاسية حقًا! وما هذا القول بدافع التعنّت أو المثالية المفرطة. لكن يعزّ علينا رؤية حال الإرث من النضال الذي أنقذته فضيلة الأجداد الشُّرفاء وروح الشعب الطاهرة الشمّاء. لنجد أنفسنا قد تَـنَكَّرنا لثورتنا.. فتَنكَّرت لنا! ولكُلِّ من هاله الأمر ويسأل ما الحل وكيف العمل؟! نقول، نُـكران ثورتنا لنا لن يزول إلَّا بزوال نُـكراننا لها، فلنبدأ بأصل الداء ولنداوي أسقام أنفسنا التي أوهنتها الأنانية والكراهية والمحسوبية والغيرة والعُجب والغرور.. فتُنزع عن أبصارنا غشاوتُها ولا نُضيِّع طريقنا بعدها. ولنبقى دائما  مُتشبِّثين بالرجاء ولا ننسى أنَّنا مدينون بالاعتذار!

أيا أرواح آبائنا وأجدادنا المجيدة التي جعلت من وفائها لقيَمها العليا الشموع تنير بها طريقنا، لكنّ آجال الحياة أبت إلَّا أن تطفئها الواحدة تلو الأخرى، أو ربّما هي التي ملّت منّا ومن تصرّفاتنا الهوجاء واشتاقت لأخلّائها من العقلاء والحكماء، فترجّت تلك الآجال أن تُعجّل ولا تتأجّل، العفوَ منك والصفحَ نرجو إذ حال ظلامُ أنفسنا السقيمة بيننا وبين الاحتفاظ بقبسٍ من نورك داخل قلوبنا، فأظلمت طريقنا! ويا أيتها النفوس الشريفة الصامدة أمام أهواء النفس الضعيفة، أبيـــني ولا تتواري وأنيري طريقنا بنور صدقك ووفائك لمبادئك! ويا نفوسنا الحزينة رفقًا على حالك، إذ لا ليل بدون انجلاء ولا مخاض بدون ألم، ولا وليد يبقى حبيس القماط لصيق المِهاد، محاولاته المتكرّرة للوقوف تنتهي حتمًا باستقامة قدميه. ووليد مخاض الحرية لا يكتفي بالتأرجح بين التعثّر تارة والوقوف تارة أخرى، فاستقامة قدميه يليها تحليقه العالي في سماء الحرية!

فادية ربيع
24 نوفمبر 2022

3 تعليقات

  1. بشير بتاريخ

    يفهم التاريخ بالمقارنة , مهمة من ؟ و ما هي حدودها و ضوابطها ؟ من دون ذلك سنبقى جميعا في حالة انتظار .

  2. بشير بتاريخ

    لقد بات الجزائريون يعولون ،من دون منازع ، على مقولة:” ألقوا بها إلى الشارع يحتضنها” ، حتى في التعامل مع التاريخ ! و بالتالي ينتظرون نتائج عكس المقدمات و مخرجات بخلاف الأسباب ، فيكررون نفس الأخطاء . و على هذا الأساس نجد الغالبية – في حكم المغلوب – كمن ينتظر من الشعب أن ينوب عن النخبة في مهامها ، أو أن تحل الأيدي محل جهازنا العصبي فتؤدي دوره المنوط به!

  3. بشير بتاريخ

    ماذا إذا تأملنا في :
    “غير نفسك تغير التاريخ ”
    ” إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ، و لكن منطق العمل و الحركة ، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا “

Exit mobile version