من بين مُخلَّفات الاستعمار وسياساته البائسة التي لا يزال الشعب الجزائري يعاني تبعاتها إلى اليوم هي أزمة اللغة. من جهة تفشّي الخوف من هيمنة اللغة العربية الدخيلة على الأمازيغية لغة أهل المنطقة الأصيلة، ومن جهة أخرى التوجس من لغة المستعمر ومساعيه الحثيثة من أجل المحافظة عليها والزيادة من انتشارها في ظلال إمبراطورية هَرِمة أفَلتْ أمجادُها.

فيما يخص الأولى، فالأمازيغ وهم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية، بمعنى الأحرار. الذين أثبتوا على مرّ الزمن صحة هذا الاسم، إذ كانوا بالمرصاد لكل عادٍ على حِماهم بِنِية سلب أرضهم وحريتهم. ولا غرابة إذ أطلق عليهم الرومان اسم البربر، بمعنى المتوحّشين، إبّان غزوهم لأرضهم. وكأنّهم، يعني الرومان، كانوا ينتظرون من هؤلاء الصناديد الأحرار أن يستقبلوا الغزاة العداة بالتهليل والتِرحاب بدل السجال والحِراب! وبالمثل كان الحال مع الفرنسيين، الذين تغنّوا أيضا بحجّة تحضير هذا الشعب.

لكن حال الأمازيغ مع العرب الذين يرى فيهم البعض احتلالًا، فالواقع يعطينا إجابةً أبلغَ من التاريخ الذي يقول أنّ أغلب الأمازيغ أقبلوا على رسالة العرب التوحيدية وتزاوجوا معهم وتوالدوا، وبنوا معا حضارةً على جزءٍ من القارّة الأوربية لا زالت آثارها شاهدة عليها. واليوم، الكثير من الجزائريين اختلطت في عروقهم الدماء الأمازيغية التي تغوص بهم في عمق الأرض عراقةً بالدماء العربية التي تزيدهم أصالةً، فلم يزدهم هذا إلا فخرًا بأمازيغيتهم وعزةً بعروبتهم. وما هذه المحاولات لزعزعة استقرار ووحدة المجتمع الجزائري قديمًا وحديثًا إلّا أوهامٌ وأضغاث أحلام.

أما فيما يخصّ الثانية، فلا يغفل على كل جزائري حرّ، أمازيغيٍ كان أم عربيٍ أم كليهما، أنّ فرنسا لازالت متشبّثة بحُلمها الفرنكفوني في الجزائر، الذي يساعدها على تحقيقه أعوانها من أبناء الوطن مع الأسف، وذلك على حساب ثقافتهم الأم؛ بالأخص حركتها في إنشاء هذه المدارس الخاصة والمعاهد التي يبقى الهدف الأهمّ منها دائمًا غرس نواة جديدة تكون خليفة لسابقيها، تُنقص من شدّة إحساس الأبناء بالانتماء إلى أرضهم الجزائر وتزيدهم تمجيدًا لفرنسا. الأمر الذي أدّى، إضافةً إلى الإرث الإجرامي، إلى حساسية مفرطة من طرف البعض من كل ما هو فرنسي، ومهاجمته كيفما كانت السبل سواءً لأسباب نزيهة صادقة أو ديماغوجية خادعة.

لكن العقل يستوجب علينا أن نتريّث هنا قليلًا ونفرّق بين ما هو تاريخي إجرامي، وما تلاه من سياسة مُتَّبعة للحفاظ على هيمنة النفوذ الفرنسي في الجزائر ولو بعد مغادرة الفرنسيين، وما هو ثقافة فرنسية مُتبقّية تمثّل آثار أزيد من قرن من الاحتلال. أمّا السجلّ الإجرامي وتبعاته فهو ذاكرة حيّة لا تُنسى أبدًا، والسياسة التي تَـلته يرفضها كلّ حرّ غيور على وطنه. وأمّا الثقافة، فالتعامل معها يستدعي استحضار الحكمة التي تقول أن التصالح مع الذات والتاريخ أوجب. لأنّ إنكار الثقافة، على الأقلّ في القرن الذي يلي الاحتلال، يعني إنكار جزء من أبناء الوطنِ الوطنيّين الذين لم يكن لهم خيار في اكتساب هذه الثقافة، ولسان أغلب الشهداء والأبطال التاريخيين الناطقين بالفرنسية أبلغ دليل، لتكون الحقيقة التي يجب علينا تقبّلها شئنا أم أبَينا. لكن هذا المكسب لن يرقى أبدا ليكون غنيمة حرب، لأنّ ما فقده الشعب الجزائري قُرابة القرنين جرّاء الاحتلال والتبعيّة الّتي أعقبته جعلاه خارج الحضارة منسيا، ولن يكون له من مكسب سوى استعادة سيادته المطلقة.  

تجاوز هذه العقبة يحتاج إلى عقلاء، بالأخصّ المثقفين منهم، يدركون هذا الأمر جيّدًا وينبذون التعصب، فلا يزيدون بُعدَ الهوّة بين مُختلِفي الثقافة وهم أبناء الوطن الواحد، ولا طائل من تفضيل لغة عن الأخرى لأنّ لكلّ لغة خصائصها وجماليتها وشاعريّتها ولحظات ريادتها. ويحتاج هذا الأمر كذلك إلى الحكمة من نظام الحكم الذي له اليد الطُولى في معالجة هذا الأمر بين مختلف الأجيال. ولنا في تونس الشقيقة مثال يدلّ على حسن النية في التعامل مع هذه الوضعية، والذي يبدو جليًا من خلال المناهج التعليمية.

لكن ما تعيشه الجزائر جرّاء سوء تعامل النظام مع هذا الأمر وسياسته التي تثبت جهله بأنّ الحكمة شرط أساسي للحكم لم يزد الأزمة إلا تأزّما. والدليل على ذلك هذه القرارات الارتجالية الاعتباطية التي لا تستند إلى أيّة دراسة أو رؤية أو حكمة، إنما فقط النفخ في الذّات الفارغة أساسًا، والتي في كل مرّة تجرّ البلاد إلى القعر أكثر فأكثر بدءًا من سياسة التعريب الفجائية وما جرّته من شرخٍ وشبه عداءٍ في طبقة المثقّفين، وما ترتّب عنها من الهوية اللغوية المفقودة في الأجيال التي تلتها. هذه السياسة التي ولّدت عربيةً عرجاءَ وفرنسيةً عوجاءَ، ولا ندري كيف سيكون حال الإنجليزية مُستقبلًا، التي ورد قرار إدراجها في الطور الابتدائي فجأةً أيضًا دون إعداد العُدّة لها (1). لتوضع أجيال أخرى في مهبّ الريح، ونجزم في كل مرّة أنّ هذا النظام أهبلٌ وهو سليل النظام الأهوج وسياستِه الرعناء التي ورّثت سياسةً حمقاءَ، فلا ندري بعدها إلى أيّ حدّ سيصل به الهبل والحمق، الذي لو كان ابن الجوزي حيًّا اليوم لأضاف أخباره إلى أخبار الحمقى والمُغفّلين في باب ذكر المغفلين من الأمراء والولاة، أو لأفرد لهم كتابًا خاصًا بهم!

فادية ربيع
26 أوت 2022

(1) نؤكد أن تعدد اللغات وإتقانها يبقى من الأشياء الجميلة التي يمكن لمجتمع تحصيلها، وبالأخص إتقان لغة العلم السائدة اليوم، لكن اعتراضنا يبقى قائمًا على كيفية التعامل مع مثل هذه القضايا الشائكة ومعالجتها لبناء المجتمع والنهوض به إلى الأحسن.

5 تعليقات

  1. بشير بتاريخ

    المعطى الأساسي هو النفخ في الذات الفارغة و هو محط تركيز الطبقة المهيمنة على القرار الفرنسي اليوم ، مثلما كانت بالأمس . و الثابت في كل الممارسات المنبثقة عن سلطة النفخ في الذات الفارغة هي ردود أفعال يغلب عليها الارتجال و التخبط و المكر و الخداع و نوع من الجنون و الهستيريا، سواء تعلق الأمر بملف الثقافة أو الاقتصاد أو الدفاع ! و المؤكد أن أن تناول ملف تدريس اللغة الانجليزية يدخل ضمن سياسة الهروب إلى الأمام و لن يزيد المشهد التربوي التعليمي سوى هشاشة و غموضا و تفككا. و الضحية هو المجتمع دائما .
    الطريق السليم هو تركيز الجهود لاستعادة الشرعية وفق منظور سنتي شامل و متوازن يستهدف تحقيق الأمن الحضاري الشامل .

  2. بشير بتاريخ

    أزمة اللغة ! لا يمكن التعامل معها بمعزل عن باقي الأزمات ، بل ينبغي التعامل معها ضمن منظور الأمن الحضاري ، بالدرجة الأولى في شقه النفسي و الاجتماعي ، و يحتاج هذا إلى عمل متقدم من قبل النخبة ، لأن المجتمع اليوم في أمس الحاجة إلى مرجعية أو إن شئت فقل مبادرات متفردة و حاسمة في مستوى التحديات القائمة ، المجتمع في حاجة إلى إسترجاع قدر من الثقة و قدر من الطمأنينة .

  3. بشير بتاريخ

    نواجه اليوم ، كما بالأمس ، أزمة فكر في التعامل مع الأزمات ، و بالتالي نحن أمام أزمة فكر أزمة .
    اليوم ، أكثر مما سبق ، تعاني النخبة ، بغض النظر عن قناعاتها و اهتماماتها و أهدافها ، إشكالية مشتركة ، بمثابة العامل المشترك الذي يميزها ، و هو بعدها عن تلك القواعد الصلبة للمجتمع من حيث الحضور و التأثير ، ناهيك عن عمليات البناء الجادة التي يحتاجها فعلا صرح الأمن الحضاري .

  4. بشير بتاريخ

    فاقد الشيء لا يعطيه ، و كل إناء بما فيه ينضح !
    من فشل في تحقيق أمنه الداخلي ، على مستوى أسرته ، مع أبنائه بالدرجة الأولى ، لا يمكن أن يقدم شيئا لمجتمعه و لن يكفيه مجرد التنظير و التعاطي مع النصوص الجاهزة ، فذلك بمثابة المريض الذي يعول على المهدئات و فقط ! يمكن التدرج بطبيعة الحال من النفس إلى الأسرة ، إلى مختلف الدوائر الأخرى ، الأقرب فالأقرب، مرورا بالمجتمع ، و صولا إلى الأمة .

  5. بشير بتاريخ

    هل تحتاج الجزائر اليوم إلى ابن باديس ؟! بلى ، تحتاج إلى كل جزائري يقدر مسار ابن باديس و حكمة ابن باديس و جهود ابن باديس و تضحيات ابن باديس و زهد ابن باديس ! ليس هذا حكرا على شخص بعينه أو جهة بعينها ! و هذه هي عين الحكمة . ما يقال عن ابن باديس يقال عن الإبراهيمي و عن بن مهيدي و عبان و بن بولعيد و عميروش و … ! العامل المشترك الذي يجمع هؤلاء الأحياء في القلب و في الذاكرة هو كرامة و حرية الإنسان الجزائري ، و الكرامة و الحرية لكل إنسان ! و الميزة التي تجمع هؤلاء هي نظافة اليدين ، نزهاء! و النزاهة تقاس بمدى حرص المرء على دم الجزائريين و أمنهم ، و ليست حرمة المال العام سوى جزءا من ذلك كله .

Exit mobile version