ليس من الحكمة ولا المنطق الحكم وتجريم الوسيلة لذاتها، بل يكون الحكم على طريقة استعمالها، ومثلما لا يمكن تنزيه منصة فيسبوك (وسائر وسائط التواصل الاجتماعي)، لِما يعتريها من شوائب وتجاوزات وفساد، فلا يمكن بالمقابل شيطنتها واعتبارها مفسدة مطلقة وجب مقاطعتها، فلا يوجد خير مطلق أو شر مطلق، والفيسبوك، كأي وسيلة أخرى، يكون جيدا إن أحسِن استعماله ومُفسدا إن فسد استعماله، على غرار كل الوسائل، فحتى المال، فهو نِعم المال في الأيدي الصالحة، وبئسه في اليد المفسدة، أو السكين، قد بقتل بريئا أو يُسَخر في عملية جراحية تنقذ حياة إنسان.
يُلاحَظ منذ انطلاقة منصات التواصل الاجتماعي، من فيسبوك وتويتر ويوتوب وتلغرام وانستاغرام وأخيرها، تيك توك، ارتفاع الأصوات المنددة بها، مُتَهِمة إياها بنشر الفساد والفتن والكذب والافتراء وما إلى ذلك من مفاسد جمة، بل هناك من يطالب بوقفها، لتفادي شرها. بالفعل لا يمكن لعاقل أن ينفي أن جزء مما يقال عنها، صحيح، لكن، قبل الحكم عليها، فلا بد من التدقيق فيها والنظر في الموضوع بتأني وموازنة بين ما تقدمه هذه الوسائل من خدمات مفيدة وما تسببه من مفسده. وحتى قبل التطرق إلى هذه النقطة، من الجدير أيضا التمييز بين المنتقدين؛ هناك صنفين أساسيين، صنف ينطلق من مشاعر صادقة، يرعبه حجم الكذب والافتراء بل والتشنيع والتطاحن عبر هذه الوسائل، فأصبح يعتبر ضرها أكبر من نفعها، مثلهما مثل حكم الخمر، وصنف ثاني، يشيطنها مباشرة أو بطرق ملتوية، عبر أدوات تابعة له، لغاية غير خافية في نفسه المتجبرة، التي لا تقبل الخروج عن الطاعة والتغريد خارج أقفاصه.
إذا كان موقف الصنف الأول أخلاقي، مُتفهم ومقبول، حتى وإن تطلب الأمر التنبيه إلى الجانب الذي قد أغفله هذا الصف أو انتقص من قيمته، أي ما تقدمه هذه الوسائل من فرص للتوعية والتزويد بالإخبار المستقلة من مصادر متنوعة، وتوفير إمكانية التعبير، لفئات عريضة من المواطنين، ممن لا حق لهم في التعبير عن رأيهم في أجهزة بلدهم المُصَادَرة، فإن الصنف الثاني، دافعه مختلف وغير معلن، يبغي كتم كل صوت، خارج عن سيطرة دوائر العصابات المتحكمة في الدول الشمولية، ولا يريد لأي رواية او تقييم وقراءة أو رأي أو تحليل، يُنشَر خارج سيطرته وأدواته ووسائله، لذا يرى في هذه الوسائل، خطرا عليه وعلى استدامة تحكمه في الشعب، فَوَجب القضاء عليه، وبما أنه لا يمكنه تعطيله كلية عبر أدواته القمعية (وهو يحاول باقتناء تقنيات وتجهيزات بملاين الدولارات لهذا الغرض)، فيلجأ إلى خطاب الشيطنة والتجريم وزرع الشكوك حول هذه الوسيلة (“الصهيونية” وفق رواياه)، للحد من مفعولها وتنفير المواطنين منها. وهل هي مجرد صدفة أن جل معتقلي الحراك، جريمتهم الأساسية والخطيرة… منشورات على …الفيسبوك؟
ففي البلدان الدكتاتورية التي تحتكر كافة وسائل الدولة لتسخرها في استدامة حكمها، وتمنع المواطنين من التعبير عن رأيهم في هذه الوسائل، تشكل الفيسبوك أو غيره من وسال التواصل الاجتماعي، البديل الوحيد المتاح، لأنه يوفر الفرصة للمسحوقين، والمهمشين والمضطهدين، في التعبير عن رأيهم، وآلامهم وما يتعرضون له من ظلم وتعسف، ويبقى الفيسبوك وغيره، فضاء له ما له وعليه ما عليه، وللمواطن في نهاية المطاف الحق والخيار بين الغث والسمين، وفق سنن الكون (البقاء للأصلح)، وليس من الصدفة، أن تكون الأنظمة الدكتاتورية هي المُتصدرة لقائمة المحاربين لهذه الوسائط والمضطهدة لأصحابه، مع تشويه سمعتهم ورميهم بكل النعوت، إلى حد إلصاق تهمة الإرهاب بهم.
إن ما يميز هذا الفضاء من “شراسة” الخطاب، هو نتيجة طبيعية للقمع والتعسف الذي يتجرعه المواطن في حياته، بعد حرمانه “بالقانون”، من التعبير عن نفسه في فضاءات أخرى، وسد في وجهه كافة وسائل بلده، بحيث لم يجد سوى هذا الفضاء، ليفرغ شحنة غضبه الذي يتجاوز أحيانا الحدود المقبولة، وهذا شأن التعلم الديمقراطي في الدول التي دمرها التصحر السياسي، وشمولية الحكم. علينا أن تندرك أن التعلم يتم بالتجربة والخطأ (trial and error)، وهو مسار طويل وشاق يتطلب طول النفس والمتابعة والتسديد، إلى أن تُجْبر الكسور وتهدأ النفوس ويتعلم المرء من أخطائه، لذا، بدل “تجريم” الوسيلة، فمن الحكمة الاستفادة منها وترشيدها والصبر على تقويمها، كما هو الحال في كل مجالات التعلم، الذي لا يتم دون سقوط ونهوض، وهل كان الطفل يستطيع المشي لو أبقيناه في حضن أمه، مخافة عليه من السقوط والكسر، أو مثلما يقول المثل “ما يتفرَسْ حتى يتهرَسْ” (لن يصر فارسا قبل أن يسقط عدة مرات وقد تكسر بعض عظمه).
ومثال فقط على دور هذه الوسائل، هل كُنا لولاها نعرف حجم الدمار ومئات حالات الاعتقال والتعذيب والتعنيف، بفضل الشهادات الحية التي أدلى بها أصحابها، عبر منشورات أو تسجيلات على اليوتوب وغيرها؟ وهل كان المواطن سيطلع على وجهات نظر مختلفة لكل الأحداث التي تجري، مثلما كانت من قبل “تسقينا” به وسائل “الدولة” ليل نهار بالرواية الرسمية المحنطة، حتى جاءت هذه الوسائل البديلة لتفكك هذه الروايات وتكشف زيفها وتسقط عنها ورقة التوت التي تسترب بها عقودا من الزمن، وهل كان بإمكان المواطن أن ينقل وجهة نظره بل وآلامه أو آلام إخوانه، إلى مئات الألاف من المواطنين، بواسطة هاتف نقال واتصال انترنت؟ وهل كانت وسائل الدولة ستنشر شهادات درنوني ووليد نقاش والطفل شطوان والحرائر المعتقلات؟ ألم تتحرج العصابة أيما حرج، حتى كادت تفقد صوابها، عندما لجأت إلى دحدحة الرهينة محمد بن حليمة، عندما نشر شهادته، قبل اعتقاله، يؤكد فيها بأنه سيُعذب، وأن كل ما سيعترف به هو مجرد إكراه تحت التعذيب، لينسف مصداقية شهادته المتلفزة، في إخراجها البائس، وهي التي ألفت فبركة مسلسلاتها التلفزيونية طيلة عشرية دامية خلف ستار الصمت والموت، في وقتِ لم يتاح للمتهمين أو لذويهم، الحديث عما تعرضوا له وحقيقة تلك لتهمة التي أكرهوا على لاعتراف بها.
إن ما يفزع الأنظمة الدكتاتورية، أن هذا الإعلام البديل كسر احتكارها للأخبار والمعلومات وفضح دعايتها، وحتى إن انتشر في هذه الوسائل بعض الغوغاء والذباب، فمن شأن الممارسة على المدى البعيد أن تنقي الفضاء لأن المواطن، في نهاية المطاف سيفرق بين الغث والسمين، ليندثر الغث تلقائيا بعدما يفقد الزبائن، فالشيء نفسه حدث مع الانفتاح السياسي بعد أكتوبر 88 وسن دستور فبراير 89، عندما فرّخت السلطة الحاكمة زوبعة من الحُزيبات، صُنعت في مخابر المخابرات أو تحت رعايتها، لإحداث فوضى في الساحة، وشرذمة النسيج السياسي، ظنا منها أن ذلك سيحفظ لها اليد العليا على الجميع، لتقوض نفوذ الأحزاب المتجذرة وصاحبة العمق الشعبي، فماذا كانت النتيجة؟ تلاشت معظم تلك الفطريات، في أول امتحان ميداني، عندما عبر الشعب بحرية، والأمر كذلك، عند تفريخ عناوين الصحف بالعشرات، التي أنشئت لمزيد من التشرذم، وتم الغذق عليها من خزينة الدولة (مثلما تفعل وزارة الاتصال اليوم بشراء المواقع والصفحات) عبر شيكان النقيب “فوزي” L’ANEP، فكل تلك العناوين اندثرت ولم يبق إلا العدد التي قررت هذه الوكالة إبقائها بتمويل من الخزينة وليس بمبيعاتها الهزيلة.
وحتى الفضائيات “المستقلة” التي عمّت البلاد، في خرق للقانون الجزائري نفسه، لم يُسمح لها بالإنشاء والممارسة إلا بعد إنشاء محطتي العصر والمغاربية، الخارجتين عن سيطرة وتحكم العصابة الحاكمة، فلم تجد السلطة بدا من إطلاق هذه الدكاكين، لنقل الخطاب والرواية والدعاية التي لم يعد يسمعها المواطن من شاشة اليتيمة.
تتباكى اليوم هذه السلطة وتتحسر على سوء الأخلاق والتشنيع ونشر الفيك نيوز عبر هذه الوسائط، وكأن ما تبثه هي، هو الحقيقة المطلقة وليس دعاية وافتراء بل وفتن حالكة، ولنا أن نسأل، إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تنشر الفيك نيوز Fake News، ألا يصح لنا أن نسمي النظام برمته، أنه يفبر الفيك نيوز على مستوى صناعي، بل وأن “الدولة” نفسها لا تعدو كونها Fake and failed State،(دولة زائفة وفاشلة)، فهذه الوسائل البديلة على لأقل تسمح للجميع بنقل صوته، فهل سمحت وسائل الدولة يوما لمن يعارضها أو يكشف زيفها، أو على لأقل لمن يعبر عن رأي مخالف لها، بأن يُسمِع صوته عبر وسائل بلده؟
فيسبوك، سمٌ أم عسلٌ؟ لا ذا ولا ذاك، مجرد ملعقة قد تحمل هذا و/او ذاك.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version