فوز زوران مامدني في الانتخابات التمهيدية عن الحزب الديموقراطي في مواجهة مرشحين من الوزن الثقيل كالعمدة الحالي إريك أدماس وعضو الكونغرس أندرو كومو المدعوم من اللوبي الصهيوني بمبلغ خيالي قدره 25 مليون دولار، وعقابا لمامدني، على مواقفه “غير المعهودة” لدى المرشحين لمثل هذه المناصب”، مثل تضامنه مع القضية الفلسطينية وتنديده بالإبادة في غزة ودعم حركة BDS(المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات) فضلا عن كونه مساندا للطبقة العاملة وعدم خضوعه أو خذه أموال من أصحاب الملايير وكبريات الشركات التي تتحكم في مصير البلاد، هذا الانتصار، خاصة في نيويورك التي تعتبر قلعة اللوبي الصهيوني ورمز أنصار ترامب والمال والأعمال، مؤشر على التحوّلات الكبرى والسريعة الحاصلة في امريكا وخاصة بين فئات الشباب. تحولات عميقة وواسعة النطاق لم تشهدها أمريكا منذ عقود من الزمن.
هذا التحوّل الذي يُخشى من سعة رقعته وعميق تأثيره في الانتخابات المقبلة، ليس في نيويورك فحسب بل في عدد كبير من ولايات أمريكا، ناتجٌ عن تحوّل في الاتجاه السائد على مر عقود، والمتميز بالتأييد المطلق، الشامل، واللا مشروط لإسرائيل من قبل الأجيال المتعاقبة، بناء على السردية المضللة، المفبركة من قبل غالبية كبريات المنابر الإعلامية وشركان صناعة الأفلام، التي ترسخ هذه السردية بشكل بيداغوجي، على غرار فيلم exodus الذي يُظهر المستوطنين القادمين من أصقاع أوروبا، في صورة الضحية العاملة الجادة الكادحة التي لا تبحث سوى عن ملاذ آمن، وتحوّل أراضي صحراوية قاحلة إلى بساتين وجنان وأودية، ومن ثم يستحقون دعم العالم دون شرط أو قيد وعدم جواز انتقاد أي شيء تفعله ولو كان إبادة في حق شعب سرقوا منه أرضه وقتلوا أبناء شعبه، وطردوا من تبقى في عملية تطهير عرقي ممنهج منذ 1948.
لم تكن هذه السردية ممكنة وبهذه الدرجة من النجاح لولا أساليب التضليل الإعلامي الخاضع تماما لنفوذ مجموعات الضغط مثل AIPAC وADL وعمليات الترهيب والضغط والابتزاز لفئات الشعب الأمريكي، مع التحريض على كل من يخرج عن النص المفروض من قبلها، إما بجرجرته الى المحاكم ثم الزج به الى السجن كعضو الكونغرس السابق جيم ترافكنت، أو تمويل حملات منافسين لمن يعتبرون غير داعمين لإسرائيل بما يكفي، مثل جمال بومان، وكيري بوش، فضلا عن شراء الغالبية العظمى من الساسة في الحزبين، حتى أصبح ممثلو الشعب الأمريكي في مختلف المجالس أقرب منهم لتمثيل دولة أجنبية، إسرائيل، منهم تمثيل مصالح المواطنين في أمريكا، أم ما أسماه طوماس ماسي، عنو الكونغرس الجمهوري الحالي AIPAC baby-sitters في إشارة إلى ألحاق بكل عضو في الغرفتين، عنصر من أيباك لتتبع كل ما يقوه ويفعله هذا العضو ومراقبته عن كتب.
هذا النفوذ من اللوبي الصهيوني نراه يكشر على أنيابه، من شد الهلع، والخشية من زعزعته وتقلب اتجاهه، ويتجسد ميدانيا، منذ طوفان لأقصى، في حملات الاعتقال والطرد التي تطال طلبة الجامعات المنددين بالإبادة، بل وامتدت حملات القمع والترهيب والتهديد لتشمل حتى مواطنين أمريكيين لمجرد ممارسة حقهم المشروع في التعبير، وإدانة جرائم دولة اجنبية (إسرائيل). لكن منذ طوفان الاقصى وتكشف حجم الجرائم المقترفة من قبل جيش الإبادة، لم يعد لا الخوف ولا التضليل، يثني المعترضين على هذا الدعم اللا أخلاقي لدولة تمارس الإبادة امام أعين الاس على مر 22 شهرا. انقلاب الصورة، أو بالأحرى تصحيحها، تم بفضل وسائل الإعلام البديلة، بحيث هول ما أصبح يراه الأمريكي، جعله عصي على الترهيب، ولم يعد هناك شيء يمكنه إسكات أصوات الضمير الحي، فبات واضحا ان فئات الشباب ترى في هواتفها المحصنة من الرقابة، جرائم الكيان، مما حوّل تعاطفها تضامنا مع الضحية الحقيقية. هذا التحول أدخل الفزع في نفوس ساسة الكيان، الذين يرون في احتمال فوز ممداني (في الجزلة الأخيرة في نوفمبر القادم)، بوابة جحيم بالنسبة لهم، لأنها قد تفتح الطريق لمسار أشمل، يتجه نحو انقلاب شامل لمشاعر التضامن من الكيان إلى الشعب الفلسطيني وقضيته.
يعلم ساسة الكيان أنه خلال السنوات الثلاث أو الأربع القادمة المنظورة، فإن الجيل Z(جيل الشباب المتصل أو الجيل الرقمي) سيكون قد بلغ سن الثامنة عشرة، وكل هؤلاء الشباب سيكونون قد شكلوا آراءهم السياسية على هذه الهجمة التي ترتكبها إسرائيل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وهذا لن يُنسى. ودخول فئات الشباب مسرح السياسة وحق الانتخابات ببلوغ سن ال18، يفسر الحملات الواسعة لتشويه هذه الحركات والجامعات ومحاولة ترهيبها، وتسخير كل الوسائل لوقف هذا التوّجه الجارف، لكن يبدو ان القطار انطلق ولن يتوّقف، وممداني ليس سوى القاطرة الأولى او القطرة، أول الغيث، التي ستقلب على الصهاينة هيمنتهم على امريكا وتُسَخر طاقاتها وشعبها ومواردها لأغراضها، وهو ما أثار سخط فئات عريضة من العشب الأمريكي، واستفزهم وهم يرون ساستهم يخوضون حروبا لا تعنيهم ويورطونهم فيها، بل يموّلونها من ضرائبهم لارتكاب ابادة بحق شعب اعزل لصالح دولة تستعمرهم في عقر دارهم، عبر جماعات ضغط مهيمنة تتصرف في حكامهم وكأنها الحاكمة الفعلية لبلدهم. تصويت أهل نيويورك على ممداني جاء لبعث رسالة تقول “أمريكا للأمريكيين”، وقد اتضح في مواجهة المرشحين أن المرشح ممداني هو الوحيد الذي أثبت أنه مرشح الشعب الأمريكي لعمدة نيويورك وأهلها، وليس مرشح ايباك لخدمة تل ابيب، وهو ما جعل اهل نيويورك يقلبون الطاولة على هذه الفئة من الطفيليات الانتخابية على شاكل كومو وأدمس.

أرسل رداً

Exit mobile version