تألمت كثيرا بل وحزنت كثيرا، وأنا أقرأ وأسمع وأشاهد أخبار اعتقال العالم الفلكي الكبير البروفيسور جمال ميموني، وغيره كثر من رموز نخبتنا الوطنية، والتساهل في تشويه سمعتهم، لا لشيء إلا لأن بعضهم عبر عن رأيه في شئون بلده، أو شارك في الهبة الوطنية الكبيرة التي يعيشها مجتمعنا منذ سنتين، في إطار سنة الله تعالى في شروط تجدد المجتمعات، وإنقاذها لنفسها من مطاحن ومهالك التخلف والضف والفساد، كما قال تعالى منبها إلى هذا القانون المحوري في حياة وموت المجتمعات: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)[الرعد : 11]. فسنن الله في حياة وموت المجتمعات لا مرد لها، عندما تتوفر شروطها وحين قدر الله فيها. وإن المجتمعات التي تهين نخبتها، ولا تعرف لها قيمتها، وتريدها أن تكون نخبة إمعية غثائية حثالية إنتهازية منافقة، تردد ما يقوله الحاكم أو صاحب السلطة والنفوذ عامة سياسيا كان أم ماديا أم عصبويا أم جهويا أم طبقيا.. أو ساكتة منعزلة مستقلة عن الشأن العام، ومتخلية عن مسئولياتها الاجتماعية، أو مجبرة على ذلك!

إن المجتمعات التي تفعل ذلك مع نخبها العلمائية الرسالية الوطنية المتوازنة، ولا تقيم لها وزنا، وتسمح لممثليها في أجهزتها التنفيذية أو الثقافية أو الإعلامية المختلفة، بكسر هيبة نخبتها، وقمعها، وتخوينها، وإجبارها على النفاق أو الانكماش أو الهجرة أو المغامرة.. مجتمعات متخلفة، ولا تفرز إلا أجهزة تنفيذية وثقافية وإعلامية وإدارية متخلفة مثلها، تقود نفسها وتقود المجتمع نحو المزيد من الفقر النخبوي، والخواء النفسي، والازدواجية الاجتماعية المهلكة.

 ومن قديم انتبه الحكماء وأهل الخبرة والبصيرة السننية إلى خطورة ضعف المجتمعات وإفرازها لنخب ضعيفة مثلها، فصاغوا هذه القاعدة الاجتماعية السياسية المهمة: ” كيفما تكونوا يولى عليكم “! لأن ذلك سيكون سببا محنة أخرى، وهي محنة تحول النخب المفرزة إلى غمة على المجتمع بعد أن تمسك بزمام أمره، وتستبد بكل أموره، ولذلك صاغ أهل الحكمة والخبرة والبصيرة القاعدة الأخرى وهي: ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن “، فالسلطان إذا كان مستبدا، ومنبتا عن معادلته الثقافية والاجتماعية والحضارية، ومصادما لسنن الله في خلقه، أصبح غمة وكابوسا ووبالا على المجتمع وعلى نفسه!

والمجتمعات إذا ما أصيبت في نخبتها الرسالية، فإنها تكون قد أصيبت في مقتلها الحقيقي، لأن هذه النخب الرسالية هي الثروة الاستراتيجية الحقيقية للمجتمع، التي لا قيمة لأية ثروة أخرى مادية أو استراتيجية أو معنوية بدونها. فكل الثروات الأخرى بشرية أو مادية أو معنوية أو استراتيجية.. تصبح بلا معنى في غياب أو ضعف أو تدجين وتهجين النخبة الرسالية الحقيقية للمجتمع.

وقد صدق أبو فراس الحمداني عندما نبه إلى هذه المعضلة القاتلة في حياة المجتمعات، وحذر من خطورة إضعاف نخبة المجتمع ومحاصرتها وعزلها وتجريدها من حقوقها، وحرمانها من شروط أداء دورها الاجتماعي بالرسالية والكفاءة والفعالية المطلوبة فقال، وهو يلوم بل ويحذر قومه من يوم يكتشفون فيه مدى حاجة المجتمع والدولة إلى النخبة، فلا يجدونها أصلا، أو يجدونها وقد تميع دورها، ولم تعد لها قيمة:

سيذكرني قومي إذا جد جدهم     وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

بل وقبله انتبه عنترة بن شداد إلى عمق هذه المعضلة، فنبه إلى أن ثقافة العبودية وأخلاق العبودية وأنظمة العبودية، وغدارة العبودية.. لا تصنع إنسانا حرا، ولا مثقفا حرا، ولا نخبة حرة، لأن العبودية لا تصنع إلا العبيد، كما أن الحرية لا تصنع إلا الأحرار! فقال لأبيه عندما طلب منه المبادرة إلى رد التحدي الجدي الذي واجهه مجتمعه.

يا أبي إن العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلاب والصر!  

فوعى أبوه الدرس جيدا تحت وطأة التحدي، واستوعب سنة الحرية والمسئولية في صناعة الإنسان الرسالي، فاطلق حريته، وحمله مسئوليته، فكان منه ما كان قوة وكفاءة غير عادية في رفع التحدي عن مجتمعه، وصناعة مكان لائق به في محيطه. وكذلك كل مجتمع يحرص على الحرية لمواطنيه، وتربية روح المسئولية لديهم، فإنه يذهب بعيدا في تحقيق نهضته الحضارية التي يستحقها.

فيا أيها المبتلون بإدارة المجتمع، والماسكون بمفاصله، والحريصون على مصلحته الحقيقية ومصالح أجياله، إصنعوا نخبا رسالية قوية مخلصة للوطن وموالية له وحده، إذا كنتم مخلصين لهذا الوطن ومحبين له، وترغبون في أن تخدموه وتحققوا نهضته الحضارية، وأمنه الحضاري، وإشعاعه الحضاري اللائق به في محيطه وفي العالم.

أيها المبتلون بالمسئولية الثقيلة على هذا المجتمع الكبير بأرضه وإنسانه وتاريخه وخبرته وتراثه ونفسيته وعبقريته ومكانه وطموحه وتحدياته.. إعرفوا قيمة نخبة مجتمعكم، واعتزوا بها، واسمعوا لها، واحترموها، واستفيدوا منها، ومكنوها من حقوقها وواجاباتها في إدارة المجتمع والدولة والنهوض بهما، وحماية مصالحهما، فإنها على ذلك قادرة، وبه جديرة، وتحملوها، وتحملوا منها، ولا تضيقوا بها، ولا تضيقوا عليها، واحذروا أشد الحذر من الإساءة إليها وإلى سمعتها، فإنها عيون المجتمع والدولة وقلبهما الذي بدونه تموت حضاريا وإنسانيا.

 بقلم الدكتور الطيب برغوث

تروندهايم (النرويج) في 4 شوال 1442 الموافق: 16ماي 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version