محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا  

ها هو يغادرنا شهرُ القرآن شهر رمضانَ الكريم هذا العام، وأمتنا تواجهُ من الأخطار والتحدّيات، ما يستهدفُ أبناءَها في عقيدتهم ومقدّساتهم وأرضهم وثرَواتهم، بعد انتصارات شعوبها على وباء كورونا ووباء غلاء المعيشة، ووباء الاسلاموفوبيا، وتصدي شعب فلسطين للمستكبر الصهيوني، هذه الانتصارات تحتاج إلى تضحيات و بذل وجهد أكبر وجلد وصبر كصبرهم في رمضان..   

وإذا كان رمضان هذا الشهرُ الكريم، يمرُّ على كثيرٍ من الناس وهم عنه غافلون، فإن حَمَلَةَ رسالةِ الإسلام في الغرب، يُدركون فضلَ شهر رمضان، ودورَه في حياة الأمة، فيهيّئون أنفسَهم لاستقباله كما يليقُ به، ليكونَ لهم مَوسِمَ خيرٍ وعطاء، وفرصةً للتقويم والارتقاء، ومُنطَلَقاً للنهوض والبناء، وزاداً يستعينون به على وعثاء السفر ومشقة الطريق في بلاد المهجر، فهو بحق مناسبةً لتجديد العهد مع الله، نعم هو بحق مناسبةً لتجديد العهد مع الله ورسوله.. فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه وقد حضرَ “أتاكم رمضانُ شهرُ بركة، يَغشاكم الله فيه، فيُنزِلُ الرحمةَ، ويَحُطّ الخطايا، ويستجيبُ فيه الدعاء، ينظرُ الله تعالى إلى تنافُسِكم فيه، ويُباهي بكم ملائكتَه، فأرُوا الله من أنفسِكم خيراً، فإنّ الشقيّ من حُرِمَ فيه رحمةَ الله عز وجل“. بالتكبير و التهليل، ومراعاة الاحتياطات الصحية اللزمة، استقبل المسلمون في جل دول أوروبا هذا اليوم ، يوم العيد ، “يوم الجائزة”، إذ ركز جل خطباء المراكز الإسلامية السويسرية على طرح الأسئلة المهمة التالية:   

  • ماذا أعطانا رمضان فيعصر كورونا؟ ما هي المكاسب التي جنيناها من رمضان؟ ما هي النقلة النوعية التي استفدنا منها؟ في عباداتنا (صلاتنا، قيامنا ، صومنا ..) ، في سلوكنا ، في صحتنا، في معاملاتنا؟  
  • كيف نحافظ على هذه المكاسب كلها ؟ و بماذا نحافظ على هذه المكاسب ؟؟ نحافظ عليها بالشكر، الشكر لله على توفيقه و امتنانه، مصداقا لقوله تعالى:  

    ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ ، وكما ورد في صحيح ابن خزيمة وغيره حديث طويل فيه: “أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى فيه سبعين فريضة فيما سواه“.  

    عملا بضرورة التباعد الصحي المطلوب، حدد عدد المصلين في المسجد الواحد بخمسين مصليا في الفوج الواحد، مستعملين الكمامات الوقاية، و قد تعددت الخطب القصيرة في مدة أقصاها 20 دقيقة في المسجد الواحد وفق أفواج متوالية.. 

    قد أبدع الخطباء بالتنويه للمصلين أن رمضانَ مدرسةٌ متعدّدةُ الفصول، متنوعةُ الدروس، عظيمةُ الفوائد، ولكلّ فردٍ حظُّه من هذا الخير العميم، بمقدارِ استعداده واجتهاده وتوفيقِ الله عزّ وجلّ إيّاه، قصد اغتنامَ أوقاتَه، والتعرّضَ لنفَحاتِه، واستدراك ما فات، وبالتالي يتجدّدَ في قلوب المؤمنين معانيَ الإيمانِ بالله تعالى، والإخلاص له، والإنابة إليه، ويتقرّبون إليه بالتوبة والاستغفار، والإقلاع عن الذنوب، وحُسنِ أداء العبادات، داعينه تضرّعاً وخُفيَة، ومبتهلين إليه خوفاً وطمعا، تالين لكتابَ الله متدبّرين، بقلوبٍ خاشعةٍ، وعيونٍ دامعة، سائلين اللهَ الجنة، ومستعيذين من النار، مستشعرين فضلَ الله علينا وعلى الناس جميعا.. مذكّرين أنّ رمضانَ شهرُ الصبر، والصبرُ ثوابه الجنة، وهو نصفُ الإيمان، وأن قيامَ جاليتنا في الخارج بمسئولية الدعوة، أمانةٌ عظيمة، أمانة الأنبياء عليهم السلام، مطمئنّين إلى وعد الله: ﴿وعَدَ الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، لَيستخلفنّهم في الأرضِ كما استخلفَ الذين من قبلهم، ولَيمكّننّ لهم دينَهمُ الذي ارتضى لهم، ولَيبدّلنّهم من بعدِ خوفهم أمناً.. ﴾ ، هذا وعد حق من الله العلي العليم، مبتهلين بقولهم:”اللهم لا أمن إلا أمنك، ولا شفاء الا شفاؤك ولا ملجأ منك إلى إليك.. أنت رجاؤنا و منقذنا، فإن لم ترحمنا لنكنن من الخاسرين.. فلا تجعلنا من الخاسرين في يوم عيدنا هذا يا أرحم الراحمين”.  
      
    أما خطباء مساجد أخرى في شرق فرنسا، فقد ركزوا على رسالة المغترب في بلاد المهجر وإكراهاتها، مستأنسين بقول الرسول  (ص) ” بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا، فطوبى للغرباء” ، حيث أصدح أحد الخطباء مبتهلا بقوله للمصلين .”.. طوبى لكم أيها الغرباء عبر العصور والأجيال.. طوبى لكم في غربتكم هذه .. طوبى لكم في هجرتكم هذه .. طوبى لكم في ديار الغرب و أنتم متمسكون بسنة نبيكم و دين ربكم .. طوبى لكم يا أحباب رسول الله (صلى الله عليه و سلم) .. ” و أردف مناشدا المصلين، قائلا :”أيها المسلمون ، أيها الإخوة والأخوات، اليوم يوم عيد، يوم الشكر والحمد والتكبير، فالله أكبر كبيرا، شعار المسلمين في كل وقت وعلى كل حال، فالحمد لله والشكر لله في السراء وفي الضراء! في الشدة و في الرخاء! الحمد لله والله أكبر حين البأس وحين السقم! الحمد لله في كل حال وعلى كل حال! ، لا لشيْ إلا لأن يوم العيد أشبه بيوم الوعيد، أشبه بيوم القيامة، مصداقا لقوله تعالى  : ﴿ وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ < عبس >، فأما المستبشرون الفرحون، فأولئك الذين أتم الله عليهم نعمة الصيام والقيام، فهم في هذا اليوم يفرحون وحق لهم أن يفرحوا. وأما الوجوه التي عليها غبرة، ترهقها قترة، فوجوه أولئك الذين لم يقدروا نعمة الله، و لم يمتثلوا لأمر الله في الصيام والقيام، فيا ويلهم ثم يا ويلهم “فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ * وَلَٰكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ * أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ.” <القيامة 31-35>… “أيها المسلمون، هذا يوم عيد ليس يوم انفلات ولا انطلاق شهوات، كما هو الحال عند بعض الملل والنحل، التي نعيش اليوم بين ظهرانيهم في ديار غرب مضيافة، عيدهم عيد شهوات، عيد إباحية وسكر وملذات.. أما عيدنا فهو عيد عبادة يبدأ بالله أكبر الله أكبر، ويختتم بالصلاة والسلام على النبي الأكرم”.  
    أما خطيب ثالث فركز على ضرورة الاستمرار في الطاعات و منها الاستمرار في الصيام، كصيام الست من شوال قائلا:”عباد الله .. لئن كنا ودعنا موسماً عظيماً من مواسم الطاعة والعبادة ، فإن الله تعالى شرع لنا من النوافل والقربات ما تهنأ به نفوسنا، وتقر به عيوننا، ويزيد في أجورنا وقربنا من ربنا. كصيام الست من شوال، وقيام الليل وصلاة الوتر، والمداومة على السنن الرواتب قبل الصلاة وبعدها، وقراءة القرآن الكريم، والمحافظة على الأوراد والأذكار، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر.
    فصيام الست من شوال سنّة مستحبّة، وفضله أنه يكمّل أجر صيام سنة كاملة ، والحكمة من صيام الست: أنها كالصلوات النوافل مع الفرائض، فهي ترقع ما شاب الصيام من نقص أو تقصير أو ذنب، كما أن في صيامها شكراً لله على توفيقه لصيام رمضان، وزيادةً في الخير، ودليلاً على حب الله وطاعته، وعلامةً على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم:”ثواب الحسنة الحسنة بعدها”.  
    والمبادرة أفضل؛ لما فيها من استباق الخيرات وعدم الوقوع في التسويف وعوارض الحياة، قال تعالى: 
    ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ 
    لأن الفرح بالله تعالى وبطاعته مقام عظيم لا يخلص إليه إلا الموفقون من عباد الله تعالى، ممن أراد الله جل وعلا سعادتهم في الدنيا والآخرة فالفرح الحقيقي هو بتوفيق الله وفضله على عباده اتمام مواسم العبادة واكمال صيام شهر رمضان واستقبال الفرحة بعيد الفطر المبارك وإتمام احد اركان هذا الدين فيسعد المؤمن بفرحة تمام هذه الشعيرة العظيمة التي اختصها الله بالفضل والاجر العظيم فقال جل وعلا ”الا الصوم فإنه لي وانا اجزي به” 

    فينبغي لكل موفق لطاعة الله أن يفرح ويسعد بتيسير الله له وتوفيقه على القيام بالطاعة وإتمامها ويسال الله القبول والاستمرار على هذا التوفيق والامتنان 
    وأختتمت صلاة العيد بهذا الدعاء الجميل:  
    ” يا رب .. يا رب في يوم عيدك هذا علمنا أن نحب إخواننا كما نحب أنفسنا، وعلمنا أن نحاسب أنفسنا كما نحاسب الناس،  
     يا رب .. يا رب في يوم عيدك هذا علمنا أن التسامح هو أكبر مراتب القوة، وأن الانتقام هو أول مظاهر الضعف..  
     يا رب .. يا رب في يوم عيدك هذا لا تجعلنا نصاب بالغرور إذا نجحنا ولا باليأس إذا أخفقنا، بل ذكرنا دائما أن الإخفاق هو التجربة التي تسبق النجاح..  
    يا رب، إلهنا .. إذا أعطيتنا نجاحا فلا تأخذ تواضعنا، وإذا أعطيتنا تواضعا فلا تأخذ اعتزازنا بكرامتنا، وإذا أسأنا يا رب إلى الناس، فامنحنا شجاعة الاعتذار، و إذا أساء إلينا الناس فامنحنا شجاعة العفو..والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.  

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version