تبقى التربية والتعليم قضية مجتمع ومستقبل أمة !!
مصطفى محمد حابس: جنيف سويسرا
مع نهاية العام الدراسي وبداية موسم العطل، تتسابق الأحداث في التكريمات للفائزين في امتحاناتهم و تزدان القاعات والمساجد في أوروبا لدى جاليتنا المسلمة خصوصا بالأفراح والتشجيعات، كما تخصص بذات المناسبة هدايا قيمة وأحيانا رمزية لتكريم عباقرة العلم وأهل الفضل من معلمين ومرشدين وأئمة وعلماء، من جوائز متنوعة مادية ونقدية وحتى سياحية للبقاع المقدسة..
وهذا أمر معروف ومرغوب فيه خاصة في الدول التي تقدر العلم والثقافة والتضحيات والجهد بصفة عامة، وقد عَلَّمنا النبيُّ (ص) أنَّ الحَمدَ والشُّكرَ للهِ تعالى يكونُ في كلِّ شيءٍ، وعلى كلِّ حالٍ، ومِن لوازمِ شُكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يَشكُر الإنسانُ غيرَه إذا قَدَّم إليه معروفًا وفي هذا الحَديثِ يقولُ الرَّسولُ (ص): “لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُرُ النَّاسَ.”
تكريم أهل الفضل ظاهرة صحية حميدة وأمر طيب متوارث، لكنها ليست دائما “سمن على عسل”..
لا لشيء إلا لأن المثقفون والعلماء هم أساس تقدم المجتمعات ورفعة الأمم. إنهم حقا يحملون رسالة سامية في نشر الخير للغير بفنون المعرفة والعلوم والثقافة، ويساهمون في بناء الأجيال الصاعدة وتوجيهها نحو طرق الرشد والفلاح والصلاح..
وخلال هذا الأسبوع تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي صور وفيديوهات لتكريم الروائي الجزائري “رشيد بوجدرة”، وهو أمر عادي ومتوارث في كل دول العالم، أين يكرم أناس أحياء أو أموات من ميادين وتوجهات وتخصصات مختلفة علمية وثقافية ورياضية وفنية، الخ..
كما أن ظاهرة تكريم الأحياء في آخر أعمارهم، هي أيضا متداولة حتى في عالمنا العربي إذ أصبح يطغى عليها عموما الطابع السياسي وأحيانا الجهوي العرقي، وحتى في العالم الغربي التكريمات ليست “سمن على عسل”، بل فيها وعليها وقد يذهب الامر لشراء الضمائر، وما جائزة نوبل عن المبصرين ببعيد.
أما الأمر الذي استوقفني كما يكون قد استوقف غيري، العثرات بل السقطات التي وقع فيها الروائي رشيد بوجدرة صاحب (الحلزون العنيد) في حواره مع الاعلامي احميدة العياشي، وهو يصف مالك بن نبي صاحب (شروط النهضة) بــ “الرجعي”، مكررا تلك الكلمة مرات عديدة، وبالتالي أراد بوجدرة ” أن يجعلها قناعة في أذهان الناس، أن المسلم رجعي”، وهذا ما ترجمته بالفرنسية بعض وسائل التواصل المغرضة، ليصل عفنها لفرنسا!!
وبالتي باتت تصريحات بوجدرة، ليست عثرة لسان عابرة مرت مرور الكرام، والأغرب من كل ذلك أن محاوره وهو رجل علم وقلم، لم ينتبه لهذا الطيش في كلامه. ومصطلح “الرجعي” قديم جدا في قاموس ” التيار اليساري في العالم العربي”، وغاب عنا ولم نسمعه منذ عقود خلت، وها هو يعود للساحة لتلوكوه بعض الألسن !! ..
ردود أفعال عن رجل الحلزون العنيد، منهم مستغرب ومنهم متهكم مستهزئ !!
بعد هذه الزوبعة الإعلامية، حق لبعض الملاحظين والمدونين أن يقولوا كلمتهم في صاحب “الحلزون العنيد”، منهم مستغرب ومنهم متهكم مستهزئ الى ما وصل اليه مستوى الإعلام ومستوى بعض مثقفينا في عالمنا العربي.
وقد كتبت تعليقات على “خرجات” بوجدرة هذه، وأبدى عدد كبير من المهتمين بالساحة الثقافية من داخل الجزائر وحتى خارجها، بآراء متفاوتة، تصب جلها في الاستغراب والدهشة.
وقد ذهب أحدهم للقول “أن بوجدرة خرف و هرم”..
ومنهم من كتب منشورا مطولا، قال فيه خصوصا: “حين يصف الروائي رشيد بوجدرة المفكر مالك بن نبي بالرجعي، فالمسألة لا تمس ابن نبي بقدر ما تفضح خفة بوجدرة وهشاشة عدته المفاهيمية، فمالك بن نبي لم يكن واعظًا أخلاقيًا ولا مجرد ناقد للغرب، بل مفكر اشتبك مع بنى الانحطاط في عمقها النفسي والحضاري، وأعاد التفكير في شروط النهضة من خارج القوالب الجاهزة. لقد أسس جهازًا مفاهيميًا متماسكًا ينظر إلى الاستعمار لا كقوة خارجية فقط، بل كمنظومة داخلية تنخر في وعي المستعمر ذاته. أما بوجدرة، فظل متأرجحًا بين لغة فرنسية فقدت بريقها، ومواقف لا عمق فيها سوى الرغبة في الصخب. لم يبنِ مشروعًا معرفيًا، بل اكتفى بردود أفعال تفتقر إلى البوصلة الفكرية، مسكونًا بهاجس الهدم دون قدرة على التأسيس. الحقيقة أن المشكلة ليست في ابن نبي، بل في فوبيا اسمها ابن نبي، في تلك المسافة المؤلمة بين من يحمل همّ أمة، ومن لا يحمل سوى ضجيج الذات والعفن!!”.
كما تساءل آخر، قائلا: ” مَن ِمن حقه التكريم؟؟ ومَن ِمن حقه التبحيل؟؟ ومَن ِمن حقه الاصطفاف على رأس الأمة؟؟ معددا أسماء مفكرين وعلماء وكتاب يستحقون التكريم والتبجيل، كالدكتور عمار طالبي و الدكتور الطيب برغوث والدكتور بلغيث و الدكتور .. والقائمة طويلة..قائلا أن هؤلاء جامعيين بامتياز ومعلمون ومربون ومدرسون ومجددون ومنتجون للعلم والمعرفة… بكافة أشكالها الحية والمكتنزة والإلكترونية..”
أما رشيد بوجدرة هذا “المخلوق” لا يعرف له تكوين جامعي معروف ومحترم.. ولا يحسن الحديث العا..!! صاحب التهويمات والتخليطات وملء الصفحات بالفراغ والخيال والوهم.. والحلزون العنيد والأشعة السبعة.. فيما يسمونه ادب سردي!! ما لكم كيف تحكمون؟! إلى أين يسيرون بالجزائر!؟
الأحكام السلبية لا تليق بمستوى مثقف كبوجدرة
وكتب آخر من ليون بفرنسا: ” أن حكم بوجدرة على مالك بن نبي بهذه العنجهية، تعد أحكاما سلبية لا تليق بمستوى مثقف كبوجدرة لأنه يكرر شائعات مغرضة بالية موروثة مع بداية الاستقلال من أيام الصراع من أجل النفوذ في محيط الرئيس بن بلة (رحمه الله) حين ارتبك اليساريون من عودة مالك بن نبي من القاهرة. ورأى فيه اليسار منافسا في الصراع من أجل التأثير على توجهات بن بلة. وهذا الحكم المبني على مقاييس وأطماع سياسية جد ذاتية أقل انصافا من التقييم الناتج عن قراءة فكر وكتب مالك بن نبي بعيدا عن التصنيفات الايديولوجية مثل هذا رجعي وهذا تقدمي و…
وهذه المفاهيم تحتاج إلى تحديد وضبط مع المزيد من الدقة خاصة عندما يأتي بها ملحد يذكر دائما بالإلحاد ويساريا لا يزال متمسكا بــ “المادية التاريخية”. وسيراجع حتما بوجردة موقفه المتسرع عندما يطالع “الظاهرة القرآنية” أول كتاب لمالك بن نبي الذي يبدو أنه لم يسمع عنه بعد إلى اليوم.
واكتفى معلق رابع بنقل، الفقرة المعبرة التالية من كتاب “القضايا الكبرى”، لمالك بن نبي:
“يتعيّن علينا على أيَّة حال أن لا نضيع فائدة تجربتنا، طوال نصف القرن الماضي، وهي المتمثلة في إدراكنا أن الثقافة تمثل ظاهرة بيئة، قبل أن تكون ظاهرة مدرسة.
فقد علَّمتنا تجربتنا بالجزائر أن الثقافة لا تُسْتَورَدُ بنقلها من مكان إلى آخر، بل يجب خَلْقُها في المكان نفسه، لأن البيئة ليست إحدى لوحات الرسم التي نفكُّها من مسمار الجدار الذي عُلِّقت عليه، لكي ننقلها إلى منزلنا” !!
وبرمزية محبوكة بعناوين مؤلفات بن نبي، وتحت عنوان “عمى الأيديولوجيا”، كتب أستاذنا الدكتور بدران بن الحسن من جامعة قطر: “الحلزون العنيد” يتسلق جبل “شاهد القرن” دون أن يستوعب “الظاهرة القرآنية” رؤية، ولا يعي “شروط النهضة” أطروحة، ومتجاهلا “مشكلة الثقافة” في عمقها، بسبب غشاوة “المفهومية” اليسارية التي أصابها “العفن”. لذا أخشى أن يتحوّل إلى أداة من أدوات “الصراع الفكري” المستمر، فيزيدنا غرقا في “مشكلة الأفكار” التي نحاول الخروج منها، “من أجل التغيير” وتحقيق “دور المسلم ورسالته”!
نماذج تكريم جاليتنا لثلاث شخصيات في هذه الصائفة
في ذات السياق ونحن في آخر ندوة من الموسم الدراسي التكريمي على شبكة الزوم، حدثنا أحد الأساتذة الأفاضل من أوروبا قائلا “خسارة كانت لجاليتنا التكريمات السنوية، سُنة حميدة منذ عقود وتعثرت في المدة الأخيرة قبيل وباء كورونا، وها نحن نعود اليها هذه السنة لنكرم فيها بعض رموز التربية والتعليم ممن تعلمنا منهم قديما، أساتذة جامعات كانوا أو حتى مسؤولي مؤسسات تربوية، مدراء مدارس ومتوسطات وثانويات وعدد لنا بعضهم وذكر بعض مناقبهم من حزم وعزم و نشاط خدمة للشعب والوطن، رغم الصعوبات المادية أيامها في دول العالم الثالث.
وقد كرمت هذه الصائفة ثلاث شخصيات من شمال افريقيا، منهم مدير إحدى ثانوياتنا في الغرب الجزائري، الشيخ مختار هدام وهو من مجاهدي الثورة، رحمه الله، وهو من المقربين لمالك بن نبي وقد إقترحه بعض معارفه منهم كاتب هذه السطور، وقد نعود في فرصة قادمة لسرد قطوف من السير الذاتية لبعضهم، بحول الله.
لأن في مهنة التعليم، دور المعلم لا يقتصر على تقديم المعلومات فقط، بل يتجاوز ذلك إلى بناء الشخصية والتنمية الشاملة للطلاب. فهم يُشكلون حجر أساس الأجيال القادمة، ليكونوا قادة المستقبل وقوى فاعلة في المجتمع، وتكريمهم اليوم هو تكريم لرسالة التعليم التي يحملونها، ولجهودهم المخلصة في خدمة الأجيال. تقديرا لعطائهم وتفانيهم في عملهم.
ليس لأحد أن يدعي إرتهان أو احتكار مستقبل الأجيال بسياسة تجهيل وتغريب زبدة الوطن
في أوقات المحن لا يملك أحد ترف القعود عن العمل في صفوف الساعين إلى حماية البناء الوطني في عالمنا الإسلامي..
وضع الأمة الاسلامية خطير، والشعوب في محنة، وثالوث الجهل والفقر والمرض يقرع أسماعنا ليل نهار، وبالتالي في أوقات المحن كهذه لا يملك أحد ترف القعود عن العمل في صفوف الساعين إلى حماية البناء الوطني، أو يملك رخصة الشح بنفسه أو ماله أو جهده عن المساهمة في العمل على تحقيق نجدة الوطنية، والسعي- بعدها – إلى رفعة الوطن وتقدمه ونهضته.
وبالتالي، فليس لأحد أن يدعي إرتهان أو احتكار مستقبل الأجيال بسياسة تجهيل وتغريب زبدة الوطن. والمحتكر- في السلع التي يحتاجها الناس- خاطئ. وهو في العمل السياسي والتربوي الوطني مجرم آثم، لأن الأول يحرم عددا من الناس- قل أو كثر- حقهم في منع استعمال سلع بعينها، والثاني يحرم الوطن كله، حاضره ومستقبله، من جهد أبنائه وعطائهم، ومن جهادهم بالنفس والمال والعقل والقول والفعل في سبيله.
العالم والمثقف والمعلم المرشد يستحق كل منهم التقدير والاحترام
فالمعلم والمربي والمرشد يستحقون كل التقدير والاحترام في كل مناسبة. فهم ركائز المجتمع وأساس تقدمه، لأن المؤسسات والدول التي تُكرم المثقفين والعلماء هي مؤسسات تُحترم وتُقدر، لأنها تعرف قيمة العلم والمعرفة ودورها في بناء المجتمعات. إن تكريم المثقفين والعلماء هو استثمار في بناء مستقبل زاهر، وهو ضمان لاستمرار التقدم والتنمية.
فلنكرم المثقفين والعلماء العاملين، ولنُقدر جهودهم، ولنُعزز دورهم في مجتمعاتنا. فهُم الأمل في بناء مستقبل أفضل، وهم منارة تضيء دروبنا نحو التقدم والتنمية، بعيدا عن ظلمات الجهل والظالمين.. والله يقول الحق و هو يهدي السبيل.

أرسل رداً

Exit mobile version