لقد اعتدنا مع كل بداية صيف وارتفاع حرارة الطقس و حلول موسم العطل ونهاية السنة الدراسية تركز وسائل الإعلام  عموما على الجانب الترفيهي مهما كانت أحوال القوم.. !! أما هذه السنة فالمشهد الجزائري متغير في هذه الصائفة بامتياز، فهناك أخبارا ترفيهية عامة تغطي على أخبار مهمة، و هناك  أحداث تجرف أحداثا أخرى، في تسارع مهول، لا يدري الإنسان ماذا يقول وعلى ماذا يعلق، و أين يتوقف؟؟ فأحداث الفريق الوطني لكرة القدم في كأس أفريقيا التي تدور رحاها هذه الأيام في أرض الكنانة غطت على مكاسب الحراك، بل جعلت الكرة تدحرج معها كل ما تعيشه الجزائر في الأشهر الأخيرة من حراك او هبة أو ثورة شعبية كما يحلو لبعضهم تسميتها، ثورة ضد الفساد والمفسدين، فغطت هذا الأسبوع على حدث مهم كذلك تمنينا لو أنه أخذ حظه من الاهتمام، وهو رحيل المجاهد الدبلوماسي الجزائري الطاهر قايد، رحمه الله.

 أما الطريقة التي نقل بها خبر وفاته و تداولته الصحافة الجزائرية في أسطر معدودة على استحياء، فقد ذكرني بالطريقة التي عالجت ولازالت تعالج بها وكالة الأنباء الجزائرية، موت العديد من رموز العطاء والخير في الجزائر، فتنشر بضعة أسطر في زاوية مهجورة من صفحات الإعلانات العامة لا يكاد يراها إلا من  أوتي صبر أيوب، “يفلي” صفحات الجرائد كلمة كلمة و جملة جملة وسطرا سطرا!

هذه الشخصية الوطنية الكبيرة التي رحلت هذا الأسبوع في صمت صاحبها مجاهد كبير رحل في صمت دون اكتراث، حتى من الجرائد التي كانت تقتات من قلمه ؟؟ وهو مجاهد الثورة و المدرس المعلم و الكاتب المترجم والدبلوماسي النبه..  نعم رحل في صمت، وقد وافاه الأجل المحتوم يوم الثلاثاء 9 جويلية، عن عمر  ناهز التسعين سنة،  ووري التراب يوم الأربعاء بمقبرة بن عمر بالقبة في العاصمة الجزائرية، رحمه الله.

أقول هذا الكلام، وأنا لم التق به ألا مرات معدودات في بداية التسعينات ونهاية الثمانينات، ولم تسمح الظروف حتى بلقائه في أوروبا لما يأتي لتنشيط ندوات للجالية مع بعض المحاضرين، لكني مطلع على جل ما كتبه بالفرنسية عموما ولله الحمد.. إذ يعتبر المرحوم رجل تاريخي بالنسبة لأبناء جيلي و من أكبر منا، فهو من أعمدة النضال الثوري بقلمه وسلاحه منذ بداية الثورة المباركة، وهو من مؤسسي الاتحاد العام للعمال الجزائريين في سنة 1956 مع الكوكبة الطيبة الأولى، منهم شقيقه المؤرخ مولود قايد، والشهيد عيسات إيدير، والشهيد عبان رمضان و الرئيس بن يوسف بن خدة، وغيرهم كثير، انضم مبكرا إلى حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، والتحق بجبهة التحرير إبان الثورة المسلحة المباركة، وسجن ست سنوات ولم يفرج عنه ألا بعد الاستقلال عام 1962.

الطاهر قايد  أو المجاهد سي عبد المومن كما يسمى إبان الثورة، من مواليد عام  1929 سجن من طرف المحتل الغاصب مدة ست سنوات كاملة ولم يفرج عنه حتى عام الاستقلال أي منذ ماي 1956، وهو الشقيق الأصغر للمؤرخ مولود قايد (1916-1980) وهو أيضا شقيق الشهيدة مليكة قايد ( 1933- 1959) المعروفة بنضالها الثوري وماتت حاملة للسلاح ضد المغتصب الفرنسي والتي سميت عليها بعد الاستقلال شوارع في مدن جزائرية عديدة و مؤسسات تربوية وثقافية.

المناضل الطاهر قايد او (سي عبد المومن) نشأ في أسرة مسلمة أمازيغية محافظة من قرية “تيمنقاش” بدائرة قنزات بولاية سطيف في الشرق الجزائري وشب على مواجهة الظلم و الظالمين منذ نعومة أظفاره و اختار مناصرة الكفاح المسلح من اجل استقلال الجزائر. وبدأ تعليمه في الكتاتيب و المدارس  الفرنسية- الإسلامية في كل من قسنطينة و العاصمة، (Ecoles franco- musulmane)

 ثم عمل مدرسًا في بلدية تغنيف بولاية معسكر بالغرب الجزائري، ثم رحل للعاصمة قبيل اعتقاله عام 1956. وفور الاستقلال عام 1962 عاد للتعليم و العمل النقابي مدة سنة، إذ أنتدب مدرسا للغة العربية، فشغل منصب أستاذ بثانوية حسيبة بن بوعلي بالجزائر العاصمة، وفي الوقت نفسه، كان يشغل منصب الأمين العام لاتحاد المعلمين، والسكرتير الوطني للاتحاد العام للعمال الجزائريين، مكلف بالتوجيه.. 

وفي عام 1963، اختار العمل الدبلوماسي وأصبح سفيرا للجزائر في العديد من البلدان الأفريقية، كما شغل مناصب مدير الإعلام والثقافة بوزارة الإعلام والثقافة ومدير الشؤون القانونية والقنصلية بوزارة الخارجية. إلى أن تقاعد مبكرا عن العمل الدبلوماسي ولم يقعد عن  الجهاد بقلمه والكتابة والنشر  بل خاض أيضا غمار العمل السياسي في عهد التعددية منذ عام 1989، و كان أحد الأعضاء المؤسسين لحركة حزب الأمة بقيادة الرئيس بن يوسف بن خدة وعضوية بعض أقرانهما أمثال المرحوم عبد الرحمن كيوان والمرحوم زهير إحدادن وحسين لحول وغيرهم، رحمهم الله جميعا.

ولما نفذ الانقلاب المشؤوم على اختيار الشعب في بداية التسعينات وجمد العمل السياسي و الجمعوي،  وسُجن من سُجن وشُرد من شرد وقُتل من قتل ..   حل حينها حزب الأمة  الذي كان هو أحد منظريه – كباقي الأحزاب الوسطية الوطنية – ، فتفرغ للعمل الفكري وللكتابة والترجمة  فألف ما يربو عن الثلاثين كتابا باللغتين العربية و الفرنسية نشر بعضها في فرنسا و بعضها الأخر في الجزائر، كما  نشر كما هائلا من المقالات و الدراسات الإسلامية في العديد من الصحف والمجلات المحلية والدولية باللغتين.. كما كان الأستاذ الطاهر قايد متنقلا للمحاضرات في الداخل و الخارج، في المؤسسات الثقافية و التربوية للتعريف بكتبه و منتوجاته الفكرية بالفرنسية خاصة، منها كتابه “معجم الإسلام المفصل”، وكتاب “الدين والسياسة في الإسلام” و كتاب “التفكير في الفكر الإسلامي”  وغيرها..

وتعتبر ترجمات ومؤلفات الطاهر قايد  واحدة من أعمدة  ثقافة الدين الوسط للدارسين في الغرب ومعتنقي الإسلام الجدد، إذ وصفه بعض الباحثين بقوله، أنه  من ألمع الكتاب العرب مزدوجي اللغة في العالم الإسلامي، بأصالة بحوثه وجدتها، وعمق دراساتها”، مما جعل أحد الكتاب بمناسبة ندوة تكريمية نظمها له “المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر” بتاريخ 29 ماي 2011، وتحت عنوان : “بصمات رجل بارع“، كتب يقول عن المرحوم، أن الطاهر قايد: “كاتب ومترجم وناشط في القضايا الوطنية، وأستاذ مدرّس محاضر، ونقابي مجاهد، و ..”، جازما بقوله ” بل هناك، العديد من القبعات الناصعة ترصع رأس هذا رجل لمفرده؟؟” .. متعجبا بقوله “لا شك أن التواضع هو أحد أهم صفات السفير المجاهد الطاهر قايد”. وقال آخر :” إن السفير المؤمن الورع الطاهر قايد،  لم يكن يوما واحدا من أولئك الذين يركضون وراء الكراسي ومراتب الشرف. بل ظل طول مسيرته النضالية يفضل الظل على النور،  وانزواء السرية على مجد الظهور، فعلا إنه من  فئة الأبطال الشجعان الذين يفتخر بهم ليس فقط شعب الجزائر بل الشعوب  التي ناضلت من أجل التحرر”.. !! لِما لا و قد كان سببا في توجيه وإرشاد زعماء من العالم الثالث بسياسته الوسطية الواقعية الرشيدة، وهو يقوم بمهمته الدبلوماسية كسفير بلده في الدول الإفريقية، و قد أرشد و نصح رجالات كثر أمثال رموز الثورات الشعبية المعاصرة، أمثال “مالكولم إكس” القائد الأمريكي المسلم والمناضل من أجل القومية السوداء. و”التشي جيفارا”، الطبيب المناضل وزعيم حرب العصابات والقائد العسكري .

إذ اعترف “مالكولم  إكس” بعد لقاء سري بينه وبين السفير الطاهر قايد، في السفارة الجزائرية بغانا، خلال مؤتمره الصحفي في نيويورك عام 1964 ، مشيدا بمُلهمه العظيم، مبديًا إعجابه بنصيحة حكيمة أسداها له” سفير الجزائر الطاهر قايد في غانا، إذ قال “إن الطاهر قايد، هو الذي جعلني أغير رأيي في أبعاد الصراع الأمريكي بين بيض و سود.. ناصحا  إياي بتكوين حزب سياسي متشبعا بالمقومات الإسلامية، ينصف السود و البيض على حد سواء”، وليس على حساب العنصرية العرقية السائدة في الذهنية الأمريكية في ذلك الوقت. ولما ألتق به في ندوة دول العالم العربي في القاهرة ، قال ملكوم إكس للسفير الطاهر قايد، معترفا بفضل هذا الاخير: “لقد اتبعت نصيحتك / توجيهك

« I’ve followed your advice = J’ai suivi votre conseil ».

كما عمل من جهة أخرى بنصائح السفير الطاهر قايد ، الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي، الذي كان يتبختر و يزهو بقوله ” أنا الملك” ، فأرشده السفير الحكيم بعدم استعمال بعض هذه العبر تواضعا كمسلم، فانصاع له البطل العملاق وعمل بنصائحه الإسلامية الإنسانية.

نفس الشيء وقع للسفير الطاهر قايد مع  الزعيم الأسطوري تشي غيفارا في أكرا (غانا)، لما كان هذا الأخير في طريقه إلى الكونغو معتقدا أنه سيبدأ بسهولة الثورات في إفريقيا من ذلك البلد. نصحه المرحوم الطاهر قايد بقوله ” هذا العمل غير ممكنًا في الواقع الحالي، لأن الشعور القبلي متفوق على الشعور الديني وحتى الوطني في العديد من الدول الإفريقية حديثة العهد بالاستقلال”. قائلا له “أعتقد أن الكثير من الأشياء قد تغيرت في أفريقيا، بعد خروج فرنسا”، بعد هذا اللقاء و بعدها بسنوات التقى الرجلان ، فقال تشي- غيفارا للسفير الطاهر قايد، شاكرا إياه على النصائح الثمينة، أنت على حق، يا سعادة السفير: 

 « You are right ! = Vous avez raison ! ».  

وهناك العديد من القصص التي تبين حنكة  المرحوم  السياسية و الدبلوماسية، سنعود لها في مقام آخر، بحول الله.
 كما قام المفكر الطاهر قايد في مسيرة حياته بعديد الإنجازات الثقافية و التربوية، إذ كان مشاركا فاعلا و باستمرار في العديد من المناسبات الثقافية  والملتقيات الإسلامية  والمؤتمرات الدّينية داخل الوطن وخارجه ..

كما عرف كوجه تليفزيوني في قناة القرآن الكريم الجزائرية بالفرنسية مع كوكبة من العلماء و الأكاديميين أمثال ابن قبيلته أستاذنا المرحوم عبد الوهاب حمودة، و الوزير الدكتور سعيد شيبان، و الوزير الدكتور بن رضوان و المترجم مسعود بوجنون و الأستاذ مسعد زيان و غيرهم، متعهم الله جميعا  بالصحة والعافية. .. 

واليوم برحيل قلم كهذا وعقل كهذا، تكون المكتبة الإسلامية قد فقدت حقا عالما جليلا مزدوج اللغة، و متعدد المواهب و التجارب ..

فسلام عليك يا معلم الأجيال النضال الفكري، يا صاحب القلم الواعد الفعال..، سلام عليك في الشهداء والصدقين وحسن أولئك رفيقا… وسلام عليك في الأولين والآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدعاة الربانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين..  هنيئا لك ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلمهم و تواسيهم.. وإلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، و﴿ إنا لله و إنا إليه راجعون﴾ 

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version