تعرف الجزائر منذ ما يقارب الشهر هبّة مواطنية لا مثيل لها في تاريخ البلاد المعاصر. ينتفض الشعب بكلّ شرائحه، وبطريقة سلمية متحضّرة قلّ نظيرها، من أجل التخلّص من هيمنة زمرة من قادة الجيش والمخابرات على الحياة السياسية، ومن نظام الاستبداد والفساد الذي يتحكّم في البلاد والعباد منذ الاستقلال، ومن وضع مَرَضي تعيشه الجزائر منذ عقود، تعكسه حالة الرئيس المقعَد منذ سنين.

 وفي خضمّ ما وصفه البعض بـ “ثورة الابتسامة”، تحاول بعض الأصوات الشاذة إثارة نعرات جهوية وإذكاء استقطابات أيديولوجية، سئم الجزائريون منها ومن أصحابها وأبدوا رفضهم لها بعد أن تبيّنت لهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة خطورتها على وحدة النضال من أجل التحرّر. ويبدو جليًا أنّ جيشًا من الذباب الإلكتروني، يعمل لصالح النظام الفاسد وبدعمٍ من أجهزة خارجية، ينفخ في أبواق الفتنة هذه. لكن الشعب الجزائري أظهر وعيه بهذه الألاعيب المخابراتية لمّا رفع في مظاهراته الحاشدة شعارات “عربي، قبايلي، شاوي، ترقي، مزابي: أنا جزائري” و “إسلامي وعلماني في نفس المعسكر: اليد في اليد ضد حكم العسكر”.

 معلوم أنّ عمليّة التغيير السياسي والانتقال الديمقراطي فترة حرجة محفوفة بالمخاطر من أشدّها تهديدًا الاحتقانات بين مكونات النسيج الوطني، خاصة التوتّرات الأيديولوجية الحادّة. فهي التي سهّلت في بداية التسعينات مهمّة الانقلابيين في الجزائر في الانقضاض على تجربة الانتقال الديمقراطي الفتية التي عقبت انتفاضة أكتوبر 1988، وانتهاك خيار الشعب وشنّ حرب راح ضحيتها ربع مليون مواطن. وهي التي ساهمت في مصر سنة 2013 في نجاح الانقلاب العسكري على النظام السياسي الذي انبثق عن ثورة 25 يناير 2011. وهي التي تهدّد منذ ثمان سنوات الاستقرار السياسي لتونس وتعرقل نهضتها الاقتصادية وتحول دون إنجاز كافة أهداف ثورة 17 ديسمبر 2010.

كجلّ المجتمعات العربية تتعدّد المرجعيات الفكرية في الجزائر وتختلف، وهذا واقع لا ينكره أحد، بل قد تتنافس وتتدافع. غير أنّ الظرف الذي تمرّ به البلاد ليس مؤاتيًا لذلك. فالشعب الجزائري يخرج بالملايين إلى الساحات بهدف واحد وهو وضع حدّ للاستبداد والفساد، وحلم واحد وهو بناء دولة القانون والحكم الراشد، منتهجًا لإنجاز هدفه وتحقيق حلمه مقاربة واحدة لاعنفية وجامعة لكلّ أبنائه.

ومن الخطأ، بل الخطيئة، الخلط بين المرجعية الفكرية والطريق المسلوكة والغاية المطلوبة. فالأولوية في الجزائر، الآن وفي سنوات طويلة قادمة، ليست تدافع المرجعيات الفكرية، إنما التركيز على الهدف السياسي المشترك المتمثّل في تمدين الدولة الجزائرية والتحكّم الديمقراطي في قواتها المسلحة. هذا ما فهمته الجماهير بمختلف مشاربها، وما لم تعه أقلية من المتنطّعين من غلاة العلمانويين والإسلامويين، على حدّ سواء، الذين لا يتورّعون عن تكفير غيرهم أيديولوجيًا.

إنّ الشعب الجزائري أنشأ في الأسابيع الأخيرة فضاءً واسع النطاق، يغطي كافة أرجاء الوطن، للتواصل والعمل المشترك في خدمة الصالح العام، كلٌّ يؤصّله وفق مرجعيته. وإنّ من يحاول هدم هذا البناء الحضاري، ستلاحقه اللعنة وسيذكره التاريخ بالعار والشنار.

لا شكّ أنّ الانتفاضة المباركة التي تعرفها الجزائر ستتجاوز هذه التحديات، وتُسكِت الأصوات النشاز المؤجّجة للفتنة في أوساط الشعب، وتُرسي أسس جمهورية حقيقية ينعم فيها المواطن بالحرية والكرامة، وتتنافس فيها مختلف التيارات الأيديولوجية والقوى السياسية بشكل يحافظ على روابط الأخوة التي تجمع الجزائريين.

 عباس عروة
عضو أمانة حركة رشاد

19 مارس 2019

تعليق واحد

  1. Bachir Abderrahmane بتاريخ

    الاصطفاف الايديولوجي نبات غير جزائري ، تأباه التربة الجزائرية ، و في رصيد الجزائريين من الفكر ومن المواقف الكفيلة بإبطال كل اصطفاف مفتعل ، ولهم تجارب مريرة في التصدي للأفكار المعلبة ، الميتة منها والقاتلة ، سواء في ثوب لائكي أو إسلاموي ، الجزائريون باتوا يدركون كيف جنت على العالم العربي تلك المعارك الوهمية والمفتعلة تحت غطاء الصراع بين العلمانية والإسلام ، وهي معارك وهمية لا مبرر لها بين ظهرانينا ، انخرط فيها كثير من أبناء أوطاننا خدمة لأجندات قوى استعمارية ، صدرت لنا أوبئتها التي ورثتها جراء الصراع الذي عاشته أوربا طويلا ضد فساد الفكر الديني الكنسي الذي كان بحق فكرا قاتلا إلى أبعد الحدود ، و إذا كان للفكر العلماني من حسنة فإن حسنته في تخليص أوربا خصوصا و الغرب عموما من ظلمات الفكر الكنسي ، ليس إلا ، ولقد باتت آثار تلك التناقضات تلاحقهم إلى اليوم من خلال العلاقة الموروثة بين ما هو سياسي و ما هو ديني كنسي ، تتجلى من خلال ملامح الفكر اللائكي الذي يؤرق المشهد الفرنسي اليوم . و على هذا الأساس يمكن القول أن لا خوف على الجزائريين من هذا الصراع المفتعل الغريب عن البلاد و العباد ، خصوصا في ظل دولة المواطنة ، و قبل ذلك في ظل الاصطفاف المدني بهدف التخلص من الفساد والاستبداد .

Exit mobile version