لسنين عديدة ارتبط الجدل حول الدين والتدين في المراحل التاريخية بتاريخ الثورة الفرنسية التي لم تكن ثورة ضد الملكية والامبراطورية في فرنسا فحسب بل كانت حرباً ضد المسيحية نفسها.
هذه الحرب تتابعت بكفاح مرير ووحشي بين الإكلريكية وضدها ابتدأت مع الجمهورية الثالثة وانتهت الى توافق تشريعي في فرنسا هو قانون 1905 الذي فصل بين الدولة والكنائس.
هذا المبدأ قد بنى من الوجهة الفكرية على قاعدة فلسفية جامعة بين إيجابية اوغست تومت (1768 – 1857) واجتماعية اميل دوركايم كنزعة كامنة في داخل المجتمع.
هنا يتبين لنا كم هو بعيد ان نضع كتاب “الظاهرة القرآنية” كظاهرة داخل المجتمع كما يقضي به علم الاجتماع الفرنسي. اذ كيف يمكن ان نفهم الدين كظاهرة داخلية في مجتمع سلبت الدين منه سائر معاييره بل كيف يمكن تفسير تاريخ هذا المجتمع الغارق في حوضه المؤمنون والملحدون الى أذُنَيْهم؟
ثم يضاف الى ذلك ان يأتي تفسير قانون 1905 بحياد الدولة عن الدين تحت ستار”العلمانية “Laïcité” ليطل بها بكل نفاق على العصر الحديث فلو سلمنا بحياد العلمانية فان المتدينين اضحوا خارج المجتمع وليس داخله وكذلك الملحدون المجادلون في الدين، ثم ان الحياد يضع الدين والعمل به والنصوص الدينية المقدسةوالتاريخية والثقافية خارج المجتمع وهذا يعني ان المجتمع اصبح خارج التاريخ.
لكن من الوجهة العملية بقيت حيادية العلمانية مجرد شعار سواء داخل المجتمع أو خارجه بعيداً عن المعايير العلمية والجامعية يتردد نفاقا في محيط مليء بالثرثرة والادعاء الأيديولوجي فضلا عن توهم لا أفق له.
وبسبب هذه الفوضى في المجتمعات الغربية في مفهوم اللاتينية واللامسيحية فقد نشأت انقسامات امتدت من دين الى آخر وهي مناقشات لا تزال حية في عالمنا الحاضر.
لقد أورثت هذه الانقسامات والفوضى الى ردود أفعال في مواقف المثقفين لا تملك القول بصلاحيتها للتفكر لكن سرعان ما امتدت بها الى مجتمعات أخرى من العالم الثالث من المثقفين أو المتثيقفين كما يسميهم بن نبي كان منهم مغاربة في فرنسا هم مغاربة وعرب في أصولهم أكثر منهم فرنسيين بادروا الى ما ولج من الثديالفرنسي الىأفواههم وعقولهم مصطلحات يعرضونها كمايلقفوها في مجرى مشكلاتهم حتى ما كان منها شأنا من تراثهم الإسلامي.
في إطار هذا الواقع برز مالك بن نبي عبر الظاهرة القرآنية وقد أهتم في إعدادها لعشرين عاما قبل إصدارها عام 1947.
وهكذا فتح بن نبي عبر الظاهرة القرآنية الآفاق الواسعة في فهم الإسلام في أزمة العصر الحديث العصر الذي هو في عمقه حصاد النظام المالي الدولي متعدد الأوطان فضلاً عن اعلام مسيطر وسلطة سياسية مركزية في العالم الغربي أدّت الى سيطرة أيديولوجية على العالم منذ ثلاثة أو أربعة قرون.
في هذا الإطار المسيطر جاء مصطلح” الظاهرة في تعريفين متقابلين يخترق سدود العصر الحديث.
التعريف الأول: وهو الأكثر شيوعا: الظاهرة ما كانت فعلا أو شيئا تراقبه الأعين في تعدد ظهوره ويستدعي لذلك دراسة علمية.
التعريف الثاني: الظاهرة تتجلى في شخص أو شيء يعمل ويلاحظ في طابعه كشيء فوق العادة وهو فردي مستقل.
هنا فالظاهرة التي تستجيب للتعريف الثاني لا يستوعبها البحث العلمي حتماودراسة وتحليلا لأنها تختلف طابعا عن الأول فضلا عن أنها واضحة مفهومة الأداء مستقلة بذاتها Identique.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يختار بن نبي مصطلح” الظاهرة” عنوانا لدراسة للقرآن الكريم في اثبات استثنائيتها عن العلم الإنساني وبالخصوص علم النفس ومن هنا ففرادة الظاهرة هنا قد استجابت لشرطين موضوعيين.
الأول: القرآن نفسه وقد أحاط به في تنزيله ذلك النور في بارق من قوة الايمان في خطاب على لسانه الرسول.
الثاني: أنه نزل بلغة عربية لسان المحيطين به من العرب كما جاء في الذكر الحكيم: ” وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *على قلبكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *(الشعراء الآية: 192-195).”.
لكن لماذا الوحي اختار اللغة العربية؟ والجواب لأن لغة العرب واضحة البنية بما يسمح لقارئها فهمها. فالحرف في اللغة له معناه في لغة العرب.
يقول بن نبي:”إن لكل شعب هواية يصرف فيها مواهبه الخلّاقة طبقا لعبقريته فالفراعنة واهتمامهم بفنون العمارة والرياضيات واليونان مغرمين بصور الجمال على ما يبدعه قيدياس.
أما العرب في الجاهلية فقد كانت هوايتهم لغتهم، يتقن الجاهلي صياغتها وينحت منها صورا بنائيه لا تقل جمالا عما كان ينحته قيدياس من المرمر وما ترسمه ريشة ليوناردو دافنشي.”
فبفضل انتماء العصر الجاهلي للغته رسخت لديه، ملكه قياس وتذوق وفصاحة العرب وبيان التنزيل القرآني في كافة مقاييسه للغة الوحي الإلهي وذلك ما أطلق عليه كلمة الاعجاز البياني الذي يستحيل العمل بمثله استحالة لا تلزم الرسول وحده بل الناس جميعا كان ذلك كله أساس ليقين لا يتزعزع عند العرب في استثنائية واستحالة مثله نصا في بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم وبذلك دخل العرب في الإسلام افواجا انتهوا به الى اشراق حضارة العرب. حضارة الإسلام. ثم حين فقد العرب مع الزمن حميمية صلتهم بلغتهم فصاحةً وصورةً فقد سكن موقفهم النفسي في الذات المحمدية في استحالة ان يكون الرسول يتلو من عنده بل هو كلام الله المنزل.
بهذا التأكيد النهائي سار قطار الاعجاز كظاهرة إلهية استثنائية خارج الطاقة البشرية الى يوم القيامة.
لكن هناك صورة أخرى قدمها البروفسور محمد علي طاهر الميساوي من الجامعة الإسلامية في كوالالمبور إذ أشار الى ما شغل بن نبي كثيراً هو مفهوم “المعرفة” و”العلوم”واستقلالهما”en tant que complement antithétique” عن مفهوم الدين والوحي. هذه النقطة متبعة في الظاهرة القرآنية كما في كتبه الأخرىبإدراك عميق لما يمكن أن يسمى النقد الذاتي للحداثة الذي جمع سائر هذا المبدأ في صيغة “ismes”وهنا أوضح بن نبي طريقين فلسفين:
1- طريق ينظر الى الاتجاه الديني في سلوك الرجل كمعطاة أساسية لوجودهمعطاة متبعة كعامل أساس في ظل حضارة.
2- أو مسار رجل نظر الى الدين مجرد حادث تاريخي في الثقافة الإنسانية والعامل النفسي الذي أشار اليه كارل غوستاف جونغ(1875 – 1961) ربما اعتبره كأساس يعطي الحق للطريق الأول لأن الطريق الثاني ليس سوى فرضية عرضية.
لكن هناك واحد من المشكلات اثارها بن نبي هي العلاقة بين القرآن والعلم أو بالأحرى التساؤلات العلمية التي أطلقها موريس بوكاي 1920-1998 إذ اثبت ان التقارب الحقيقي بينهما هو في استحالة تطابق الآيات القرآنية مع الأعمال العلمية لكن مع ذلك فإذا لم يكن من الممكن أن ينظر إلى آيات القرآن الكريم كموسوعة للعلوم إلا انه يمكن لنا أن نلاحظ فيه آيات تلامس قضية علمية تحمل بكل وضوح العلاقة بين الذات المحمدية والظاهرة القرآنية.
فمالك بن نبيمال نحو التفكير نفسه فيكلمة واحدة بين العمل العلمي والتفسير النفسي حين دعانا ان نتأمل كيف أن القرآن الكريم في كثير من آياته أشار إلى أننا من خلال علمنا بدقيق مكونات الحياة الاجتماعية ودخائل ما في أنفسنا نستطيع أن نكتشف اسرار وسنن العالم إلى نهايته بالمقابل فإن بن نبي أشار إلى ما يمكن أن نلاحظ تقاربا بين القرآن وفهم العالم وإدراكه. فبن نبي هنا أشار إلى معنى ظاهرة الدورة الحضارية Le phenomene cyclique”في الآية 140 الجزء الثالث{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فقد مَس الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران : 140].
فكم من علماء الدين والتفسير يقرأون القرآن حفظا وتلاوة ثم يتوارى عنهم في فكر بن نبي معنى هذه الآية في الربط بين ظاهرة الحضارة وممر الازدهار من شعوب إلى أخرى؟
لقد أوجد هذا مظهراً من الدياليكتيك بين رؤية بن نبي ومضمون الآية الكريمة اذ الرجل الواسع وحده هو الذي يستطيع معرفة الحكمة القرآنية وهنا يتقدم الفكر تأملا بعمق أكبر ليدرك شيئا فشيئا أسرار القرآن الكريم إذ بالعودة إلى دراسة العالم يمكننا أن ندرك جيداً القوانين والسنن الإلهية.
وبالعودة اليوم إلى فكرة نشأةالعمل الديني أو الالتزام الديني داخل المجتمع كما عرّفه دوركايم في دراسة للقرآن فإن بن نبي ذهب إلى القول بخطأ تعريف دوركايم على الأقل بالنسبة للإسلام إذ لا يكفي مثل واحد اثبات ما في القرآن من مبدأ التدين داخل المجتمع العربي الجاهلي الذي هو خارجه تماماً. فقد وردت في القرآن معلومات ذات اعتبار غيبي أو مجرد ظاهرة طبيعية لا يدّعى المجتمع الجاهلي علمه بها.
استنادا إلى كل ذلك كان يجب أن يكون اعجاز القرآن الكريم صفة ملازمة له عبر العصور والاجيال لذا المسلم أصبح يتناوله في صورة أخرى أو بوسائل أخرى وذلك أنه يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي أكثر مما يتناولها من جانب بلاغة النص واعجازه فيطبق في ادراكها ودراسة مضمونها طرقا للتحليل الباطن كما حاولنا تطبيقها في هذا الكتاب. يقول بن نبي:
“وإن كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم الذي حاول تثبيت عقيدته في قيمة القرآن في جانب منه شخصي لكنه لغير المسلم الذي يتناول القرآن الكريم موضوع دراسة فهذه في مجملها هي الأسباب التي دعتنا الى تطبيق التحليل النفسي خاصة في دراسة القرآن لكن من أجل تنفيذ هذه المهمة فقد ظهرت لنا نقائض في جهازنا الفني نقولها دون تواضع بل عن معرفة تامة بالقضية التي يُعد تنفيذها مجرد ارشاد سيتلوها في دراسات أخرى. وهنا نحتاج أن نحشد في هذه الدراسة وسائلنا الفنية ووثائقنا التي لم نستطع بكل أسف أن نحملها للقيام بهذه الدراسة.
والمفيد هنا أن نذكر كم سيكون مفسر الغد بحاجة الى معرفة لغوية وأثرية واسعة لآن عليه أن يتتبع الترجمة اليونانية للكتاب المقدس والترجمة اللاتينية الأولى من خلال الوثائق العبرية وبصورة أعم عليه أن يتتبع جميع الوثائق السريانية الآرامية ليدرس مشكلة الكتب المقدسة فهذه مهمة جليلة في دراسة الظاهرة القرآنية لا يمكننا الشروع فيها على الرغم من رغبتنا الحارة.”
وفي زمن مبكر كان عمره 27 عاماً تساءل بن نبي أمام محاضرٍ يحاضر في الاسلام”ألا نعتقد أن أحد أسباب تخلف المسلمين ناشئ من أن مفسري القرآن الكريم ملؤا تفاسيرهم بالبيولوجية اليونانية والصوفية اليهودية؟”
لقد كانت هذه نقطة تساؤل بن نبي من بعيد الزمن لها معناها رغم نقطة الأسف التي أنهى بها كتابه.
وأخيرا لعل الله اختار بن نبي لرسالة كم هي مهمة في أزمة العصر الحديث لأنها تعيد للإسلام كل فاعليته بعد أن اثبت للعالمين جمعيا “Urbi et Orbi”أصالة قاعدته الروحية. وهنا نرى أنه ليس مصادفة أن تكون الظاهرة القرآنية هي أول اعمال مالك بن نبي.
عبدالرحمن بن عمارة
الجزائر 30 تموز 2017

——————————–
1- يقول موريس بوكاي: ” كان هدفي الأول أن أقرأ القرآن وأن أحلله جملة بالاستعانة بالشروح المتنوعة لعمل دراسة نقدية وكان مدخلي الاهتمام الخاص بالوصف القرآني لعديد من الظواهر الطبيعية.
لكن ما أذهلني أ الدقة المتناهية لتفاصيل لا يخالفها العلم الحديث….
ما يذهل القارئ بصفة مبدئية (الذي يواجه لأول مرة بنص من هذا القبيل الوفرة الهائلة للموضوعات المذكورة :الخلق، الفلك، شرح بعض الظواهر الأرضية، المملكة الحيوانية والنباتية، التناسل البشري، وهنا سؤال نفسي إذا كتب رجل القرآن فكيف يستطيع أن يكتب في القرن السابع حقائق تطابقها المعرفة العلمية الآن. لا شك أن القرآن الذي بين أيدينا هو قرآن القرن السابع فما هو تفسير ذلك؟
موريس بوكاي “الكتاب المقدس والقران والعلم. ذكره روجيه دوباسكريه في كتابه ” اظهار الإسلام ص95.”

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version