إن الباحث في تاريخ وحضارة الشعب الأمازيغي  يجد أن هذه الأمة تتميز عن باقي الأمم بنبذ الوثنية و اعتناق ديانات التوحيد منذ الأزل ، فهي من الأمم التي لم تعرف عبادة الأوثان ولم تعرف عبادة الملك أو تأليهه  فهي عرفت الإسلام وعبادة الله الواحد الأحد منذ أيام سيدنا يوسف عليه السلام وهذا ما كتبته منذ سنة بجريدة الخبر الجزائرية بمقال يحمل عنوان الامازيغ فرسان الله (1).

هذا التميز منحهم علو الهمة في معرفة الله وكان لهم ذلك، فولاهم الله على مصر أقوى وأعظم إمبراطورية في عصرها وجعلهم ملوك عليها مؤسسين بذلك الأسرة الثانية و العشرين على يد الملك شيشنق الأول دام حكمهم القرنين وقد صادف حكم الملك  شيشنق الأول حكم سيدنا سليمان عليه السلام والأرجح أن الملك شيشنق الأول كان ملكا على مصر في مملكة سليمان العظمى.

ذكر الشيخ  مبارك الميلي رحمه الله في كتابه تاريخ الجزائر في القديم و الحديث عدد و أنواع الديانات في الجزار حيث “قال علمت سابقا بالجزائر أنه كان بالمغرب ثلاث ديانات الوثنية و الموسوية و المسيحية وان المسيحية ذات مذاهب ثلاث متباينة : الارثدوكس من شيعة الرومان ،و الاريويين من الوندال ، و الدونويين من بربر الجزائر .وان كان لأصحاب تلك الديانات و المذاهب شيء من التعاليم الموروثة و التقاليد الجامدة فقد قضت عليها الفوضى من جهة و السلطة البيزنطية من جهة أخرى ،ولم تبق هيئة دينية إلا في كنائس الارثودوكس لما لهم من السلطان و الصلة بالبابا ” (2).

أثناء الاحتلال الروماني لبلاد المغرب والتي عرفت مرحلتين مختلفتين الفترة الأولى وهي المعروفة بالفترة الوثنية  والتي لم تشر فيه الكتابات و المراجع التاريخية لاعتناق الشعوب الامازيغية للوثنية الرومانية ولكن عرفت الفترة الرومانية المسيحية إقبالا كبيرا عل اعتناق الديانة المسيحية  ولكن لا نقول أن المسيحية دخلت عن طريق روما ولكن كما ذكره الدكتور عثمان سعدي أن المسيحية دخلت إلى المغرب العربي عن طريق مصر والمشرق منذ القرن الأول ميلادي و ما يسجله المؤرخون أن المسيحية دخلت في القرن الثاني ميلادي و ارتبط دخولها باضطهاد الأباطرة الرومان للمسيحيين (3) ونشير إلى نقطة مهمة هو أن اعتناق الشعوب الامازيغية للمسيحية جاء عن طريق الحنيفية السمحة التي عرفتها منذ قرون منذ سيدنا يوسف عليه السلام وهي عقيدة التوحيد وعبادة الله الواحد.

باباوات إفريقيا الأمازيغ papes africains

و لقد عرفت المسيحية في بلاد المغرب أواخر القرن الثاني نتيجة الاعتناق الكبير بالمسيحية بروز شخصيات دينية من أصل امازيغي بلغت القمة و هو الوصول إلى الكرسي الرسولي  أو الكرسي البابوي la papauté وهو أعلى منصب في الديانة المسيحية  هو أسقف روما Pape أو رأس الكنيسة المسيحية ويسمى كذلك الحبر الأعظم وهذا دليل عل علو الهمة و الإرادة القوية في النجاح و بلوغ القمة للشعب الامازيغي.

أول امازيغي تولى منصب بابا روما هو القديس فيكتور الأول Victor Ier أو Saint-Victorهو بابا الكنيسة المسيحية الرابع عشر 14e pape استلم أسقفية روما في الفترة بين 189 م إلى 199 م وهو من مواليد ليبيا و الأرجح انه ولد بطرابلس صادفت حبريته حكم الإمبراطور لوشيوس سيبتموس سيفيروس Lucius Septimius Severus الذي اضطهد المسيحيين الأوائل لهذا يعتقد أن البابا فيكتور مات شهيدا عل يد الإمبراطور كما عرفت فترته تحويل لغة العبادة و الصلاة من اليونانية إلى اللاتينية  كما عرفت فترته انتشار المعرضين لإلوهية المسيح وبكون المسيح  إنسانا فقط و ليس إنسانا إلها.

أما الامازيغي الثاني الذي تول أسقفية روما هو البابا مالتيادس Miltiade أو Melchiade أو Saint Miltiade وهو البابا الثاني و الثلاثون ولد بشمال إفريقيا ولقد استلم أسقفية روما في الفترة ما بين 311 م و 314 م وصادف حبرته حكم الإمبراطور قسطنطين  الذي أعلن من خلال مرسوم ميلانو سنة 313 م أعلن حياد الإمبراطورية الرومانية بشؤون العبادة أمام الديانة المسيحية و الديانات الأخرى  واندحار الوثنية.

أما الامازيغي الثالث فهو البابا غاليليوس الأول Gélase Ier وهو البابا التاسع و الأربعون  استلم أسقفية روما في الفترة ما بين 492 م و 496 م ولد بشمال إفريقيا ولقد صادفت حبرته استيلاء الوندال على شبه الجزيرة الايطالية.

ويعرف الباباوات الثلاثة بباباوات إفريقيا pape africain وهو مصطلح يشير إلى الباباوات الكاثوليك الأفارقة من مقاطعة إفريقيا الرومانية و كلهم من أصل امازيغي

بداية الانشقاقات عن المسيحية الرومانية schismes

بلغ الاضطهاد أشده  في بلاد المغرب طبعا بين( 295م – 299م ) في عهد الإمبراطور دقلديانوس Dioclétien حيث سقط المئات من المسيحيين من النوميديين شهداء محاكم التفتيش التي نصبها الإمبراطور السفاح السابق ذكره  .فقد أمر بتهديم الكنائس وحرق الكتب المقدسة و إلقاء القبض عل رجال الدين من القساوسة و الرهبان وقد سمي عصره بعصر الشهداء وبعد وفاة الإمبراطور المجرم جاء بعده الإمبراطور قسطنطين الأول Constantin Ier (4).

وأدى النظام الإداري الجديد الذي أسسه الإمبراطور دقلديانوس Dioclétien عام 293 و المعروف باسم الحكم الرباعي إضافة إلى الصراعات الداخلية و الخارجية  إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية العظمى حيث انقسمت إلى قسمين الإمبراطورية الرومانية الشرقية و عاصمتها القسطنطينية و الإمبراطورية الرومانية الغربية و عاصمتها روما.

كما عرفت  الإمبراطورية الرومانية بعد وفاة الإمبراطور دقلديانوس Dioclétien    وتولي الإمبراطور قسطنطين الأول Constantin Ier  تحولا جذريا في حرية الاعتقاد و هذا بعد إعلان الإمبراطور الجديد مرسوم ميلانو (Edict Milano)  عام 313 م حياد الإمبراطورية الرومانية تجاه شؤون العبادة مما أزال العقبات أمام الممارسات الدينية المسيحية و الديانات الأخرى  ونالت الكنيسة المسيحية الحرية و الاعتراف الرسمي من طرف الإمبراطورية.

هذا المرسوم منح الحرية لرجال الدين وربما سمح هذا الوضع لظهور بعض النصوص المقدسة التي كانت مخفية أيام فترة الاضطهاد أدى إلى ظهور انشقاقات داخل الديانة المسيحية جاءت نتيجة اختلافات عقائدية أدت إلى بروز مذاهب جديدة على يد أساقفة امازيغ هما بمثابة أول انشقاق في الدين المسيحي وللإشارة الديانة المسيحية كانت واحدة في ذلك العصر ولم تكن معروفة بالكاثوليكية أو الارثودوكسية.

ولقد أدت هذه الانشقاقات فيما بعد إلى انقسام المسيحية نفسها إلى مذهبين كاثوليكي تحت قيادة كنيسة روما وارثودوكسي تحت قيادة كنيسة الإسكندرية وذلك بعد انعقاد مؤتمر خلقيدونية عام 451 م concile de Chalcédoine وخلقيدونية مدينة في تركيا حاليا قاضي كوي Kadıköy وسبب الاختلاف عقائدي حول طبيعة يسوع وإنكار لاهوت المسيح وانه لم يكن إلها بل مجرد إنسان مخلوق وهي الأقرب إلى عقيدة التوحيد و قاعدة الثالوث المقدس .
ومن ابرز الشخصيات البارزة التي انشقت عن المسيحية الرومانية وإنشاء أول مذهبين دينيين جديدين هما الأب اريوس Arius  مؤسس المذهب الاريوسي و الأب دونا Donatus Magnus و المعروف كذلك باسم Donat le Grand وهما من أصل امازيغي.

المذهب الأريوسي Arianisme

يقصد الشيخ مبارك الميلي رحمه الله في ذكره الاريويين من الوندال ،الاريانيين أو  الأريوسيين  نسبة إلى الأب أريوس Arius الأمازيغي  الأصل المولود في قورينا وهي من أجمل المدن الليبية تاريخا و حضارة  (مدينة شحات اليوم) أقصى شرق ليبيا و عاش بين فترة (250 – 336 )هو من كبار كهنة الإسكندرية ومؤسس المذهب الأريوسي Arianisme وهي  الديانة التي اعتنقها الوندال عند احتلالهم بلاد المغرب (شمال إفريقيا ) وهذا المذهب مخالف لما كان منتشرا وقتها في الإمبراطورية الرومانية من عقيدة التثليث في الكنيسة الكاثوليكية الارثودوكسية فهو اقرب للتوحيد لإنكاره إلوهية المسيح.

ويعتبر المذهب الاريوسي أول تحدي للمسيحية كما يعتبر أعظم جدل لاهوتي في تاريخ المسيحية وذلك لإنكار اريوس أولوهية المسيح ومخالفة قاعدة الثالوث المقدس .ولقد عرف هذا المذهب انتشارا واسعا ولمدة طويلة حتى بعد زوال و انهيار الإمبراطورية الرومانية حيث أصبح هذا المذهب ديانة الممالك القوطية في ألمانيا كلها تتبع المذهب الاريوسي خاصة الطبقة الحاكمة كما انتشر هذا المذهب في الشام و العراق.

ولقد أدى سرعة انتشار هذا المذهب في الإمبراطورية إلى عقد مؤتمر يسمى المجمع المسكوني الأول بمدينة نيقية (مدينة في تركيا تسم اليوم ازنيق iznik بأمر من الإمبراطور قسطنطين سنة 325 م لمناقشة و دراسة الخلافات في كنيسة الاسكندرية  بين اريوس و أتباعه من جهة وبين الكسندروس الأول Alexandre d’Alexandrie بابا الاسكندرية وأتباعه حول طبيعة يسوع وتمت إدانة اريوس وتم  اعتماد قاعدة الثالوث المقدس.

واستمر خلاف اريوس مع الكنيسة المسيحية التي تحولت إلى حليف مع الإمبراطورية الرومانية أصبحت تمثلها دينيا ومستمرة في إصرارها على قاعدة التثليث أو الثالوث المقدس حتى وفاته التي ترجح بعض المصادر انه مات مسموما.

المذهب الدوناتي Donatisme

كان هذا أول انشقاق عن المسيحية schisme  في بلاد المغرب على يد أسقف نوميدي  اسمه دونا أو دونا الكبير (Donat le Grand) وباللاتينية Donatus Magnus وهو مؤسس المذهب الدوناتي Donatisme ولد بمدينة نفرين جنوب ولاية تبسة (نوميديا آنذاك ) عرف مذهبه بمخالفته للمسيحية في لاهوتية المسيح وإنكاره لقاعدة الثالوث المقدس.

ولقد ظهر المذهب الدوناتي أو الحركة الدوناتية العام 305 م واستطاع فرض وجوده وانتشر بسرعة في بلاد المغرب وأصبح عقيدة للسكان الأصليين خاصة النوميديين فتحول هذا الانشقاق  إلى صراع أدى إلى نشوب حرب إبادة شنتها الإمبراطورية الرومانية ضد السكان الأصليين وهذا يبين انحراف الكنيسة الرومانية المسيحية عن مبادئها الدينية وخدمتها مصالح الإمبراطورية الرومانية  وهذا ما ذكره المؤرخ البريطاني فراند W.H.C.Frend قال  ” إن استقرار الكاثوليكية في شمال إفريقيا يعتمد عل استقرار مؤسسات الإمبراطورية الرومانية ” (5) وأضاف المؤرخ ” إن الكنيسة الكاثوليكية وبصفتها حليفة روما تعارض كل من هو خارج أسوار المجتمع الروماني الإغريقي“ (6)

و أثناء مؤتمر قرطاج لتعيين أسقف جديد سنة  312 م و أسقفية قرطاج هي المشرفة عل المسيحية في المغرب العربي تم تعيين الأسقف كوسيليوس Caecillius  ،اعترض الأساقفة النوميديين عل تعيين الأسقف الجديد الذي اتهم بالخيانة ضد المسيحية و تعاونه مع محاكم التفتيش  فبدأت الصراعات والخلافات مع الكنيسة حتى بعد وفاة الأب دونا سنة 355 م.

وفي عام 411 م عقد مؤتمر قرطاج بطلب من الإمبراطور هونوريوس Honorius حيث جمع 286 أسقف يمثلون الكنيسة المسيحية الرومانية و279 أسقف يمثلون المذهب الدوناتي خلص إلى حل المذهب الدوناتي فصودرت كنائسه و ممتلكاته لصالح الإمبراطورية الرومانية ممثلة في الكنيسة المسيحية وقد للقديس أوغسطين Augustin d’Hippone أو saint Augustin 354 – 430 الذي لعب دورا بارزا في القضاء على المذهب الدوناتي كما ذكر الدكتور عثمان سعدي  في مقاله  كان أوغسطين يؤيد ويدعو لقمع الدوناتيين يقول ” ينبغي أن تتدخل السلطة العامة وتزرع الرعب لإعادة الهراطقة للأصالة المسيحية .باسم كلمة المسيح أجبروهم بالقوة عل الدخول ” وهذا دليل عل تحالف الكنيسة المسيحية مع  الإمبراطورية الرومانية واستغلالها كقوة سياسية حتى أصبحت الكنيسة لا تستطيع الاستغناء عن السلطة الإمبراطورية وكذلك الإمبراطورية فهي لا تستطيع الاستغناء عن الكنيسة المسيحية حفاظا عل نفوذها و سلطانها وذلك لمواجهة التهديدات الخارجية و الاضطرابات الداخلية  التي أدت إلى انهيارها و زوالها  خاصة من خطر الوندال الذين استطاعوا غزو الإمبراطورية الرومانية (بلاد المغرب) سنة 429 م استمر أكثر من قرن  ( 429- 533) والذين كانوا معتنقين المذهب الاريوسي القريب إلى المذهب الدوناتي كما عرفت هذه الفترة وفاة أوغسطين سنة 430 م أثناء حصار الوندال لمدينة بونة Hippone  (عنابة).

كان هذا الاختلاف في العقائد بين روما الكاثوليكية والوندال الاريوسيين سببا في اضطهاد الكاثوليك في بلاد المغرب إذ قاموا بنفي كهنتهم وتدمير كنائسهم كما حرموا عليهم اعتناق الاريوسية دين الوندال وبعد حكم الوندال لبلاد المغرب لأكثر من قرن استطاع البيزنطيين احتلال بلاد المغرب سنة 533 م تحت قيادة الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول Justinien Ier أو  Justinien le Grand 483 -565) الذي كان مسيحيا شرقيا اورثودوكسيا فتحولت المسيحية الكاثوليكية في بلاد المغرب إلى المسيحية الاورثودوكسية الشرقية فلم يبق من شيعة الرومان في بلاد المغرب إلا من هم  من الاورثودوكس فصدق الشيخ مبارك الميلي رحمه الله.

واستمر الاحتلال البيزنطي ما يعني استمرار الكنيسة الشرقية المسيحية الاورثودوكسية  إلى غاية الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب سنة 647 م مغيرا بذلك الخريطة الدينية للكنيسة الكاثوليكية للإمبراطورية الرومانية.

ومقارنة بالفترات السابقة التي عاشتها بلاد المغرب نجد أن فترة الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب من 647 م إلى 711 م وهي 64 سنة استطاع الإسلام بناء دولة فاتحة استطاع الامازيغ المسلمين  فتح الأندلس بعد 64 سنة فقط من اعتناقهم الإسلام  وهذا ما يفسر سماحة و بساطة العقيدة الإسلامية أمام المسيحية المعقدة العقيدة وتشعبها بتعدد المذاهب والتي ظلت في بلاد المغرب حوالي خمس قرون رغم بلوغ القمة وهي كرسي البابوية.

أوشن محمد العربي
29 جويلية 2017

المراجع

1- جريدة الخبر 04/01/2014 الامازيغ فرسان الله
2- تاريخ الجزائر في القديم و الحديث ص34 ج 2 الشيخ مبارك الميلي
3- الأب دونا رجل الدين المسيحي المغاربي المناضل .رأي اليوم 01/11/2014
4- نفس المرجع السابق
5- Archives de sociologie des religions 1957 v4 M.Meslin et P.Hadot
6- نفس المرجع السايق

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version