هل هناك فرق بين الخلق ـ بفتح الخاء ـ والخلق ـ بضمها ـ؟ الخلق يتصل بالخالق، من خلق الخلائق، من أوجدهم في هذا الكون، الذي يعنينا، نحن بني آدم، هو هذا الكون الذي يشهد، حيوانه، ونباته وجماده، وأرضه، وسماءه، وكل ما فيه، على عظمة الخالق سبحانه وتعالى عما يشركون. مسألة الخلق، لم تعد خافية، ولا حتى محل نقاش، أما مسألة الأخلاق، فهي التي يمكن البحث في مدلولها، هل هي صناعة إنسانية، هل يمكن مقابلتها بالمال، أو السلطان، أو القوة، أو الجاه؟ هل يمكن أن يتحلى بها صاحب مال أو جاه، أو قوة وسلطان، ويحرم منها، من هو دون ذلك؟ اعلموا أن أساس الأخلاق وروحه وخصوصيته، ليست صناعة إنسانية، لأنه في هذه الحالة، سيحرم المستضعفون منها، أو حتى الحديث بها، لقد بلغ الإنسان ببحثه العلمي ومهاراته التكنولوجية إلى أبعد الحدود، لقد احتكر (الغرب) الصناعة النووية، ومنع منها الآخرين، وضيق على العلماء ولاحقهم، لأنه ببساطة لا يسمح للآخرين بالاستقلال، لا يقبل بهم إلا تابعين، فكيف إذا أمكنه صناعة الأخلاق، بأي ثمن سيحصل عليها الفقراء والمستضعفون الذين حرموا من رغيف خبز أنتجته أرضهم، التي اغتصبوها منهم، ثم لماذا لم تظهر آثار خلق العدل، والإحسان، والإيثار، والتواضع، والصبر، والحياء، والصدق، والرفق، والإقدام، والأمانة، والقناعة، والتواد، والتراحم، والعفو، وكظم الغيظ، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والحلم، والعطف، والجود، والكرم، والسخاء، والتضحية، والبذل،…، لماذا لم تظهر آثار هذه الأخلاق في حياة (الأقوياء) الجبابرة ، ولا في حياة المحتلين الغاصبين، ولا في سلوكيات مجلس أمن (الأقوياء) ولا في تقاليد محكمة (العدل) الدولية أو محكمة جناياتهم، لماذا لم تتضمنها صفحات قاموس لاهاي؟ أتدرون لماذا؟ لأنها ليست من صناعة الإنسان، إنها ذات صلة بعدالة الرحمان الرحيم، الذي قال في محكم التنزيل: ” فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” الآية 30 من سورة الروم، وهذه الفطرة تؤثر وتتأثر، يولد بها الإنسان، ويخرج بها إلى الحياة، فأبواه، سبقاه إلى هذه الحياة، والمعلم في المدرسة سبقه إلى الحياة، والأخ والأخت، والصاحب بعد ذلك، والجار، كلهم سبقوه إلى الحياة، لذلك فهو يتأثر، وبعدها يؤثر ـ دون ريب ـ الإنسان ليس وحيدا منعزلا في الطبيعة، فحتى إذا اعتزل أبواه الناس واختارا لنفسيهما مكانا معزولا عن كل إنسان، فإن تأثيرهما سيلحق مولودهما الجديد، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ” رواه البخاري. صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يدلنا على حقيقة اليهود والنصارى وحتى المجوس، اليهود حرفوا التوراة، والنصارى حرفوا حقيقة الإنجيل، فصاروا لا يختلفون كثيرا عن المجوس، لذلك جاء ذكرهم جميعا بصفة متتابعة، نظرا لتأثيرهم في حياة الناس بداية بأولادهم، وإلا من أين لليهودي بتلك الخصوصية التي يتميز بها، والنصراني الذي أخذ الكثير من عناد من أشركوا بالله وجعلوا له ابنا سبحانه وتعالى عما يشركون، أما المجوس فهم في كل الأحوال لا يحتلون موقع شرطي العالم، ولعل الكثير منهم ينتظرون شيئا ولو بسيطا من أمة الشهادة، أمة الوسطية، فعلى سبيل المثال، لا على سبيل الحصر الذي غاب عن اهتمامات المنظمات والمؤتمرات والاتحادات الإسلامية كثيرا، كيف هي حالة التبت في معتقدهم في عالمنا الذي صار قرية، حينما لم تعد مدننا تحافظ أو تتحلى بأخلاق عظمائها. لذلك، ولذلك فقط، فإن المولود يولد على الفطرة، فما هو المطلوب من الإنسان، لم يذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه، أتدرون لماذا؟ لأن ذلك تضمنه القرآن، والقرآن تكفل الله بحفظه: ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” الآية 09 من سورة الحجر. لم يتم ذكره مع التهويد والتنصير والتمجيس، لأن هذه كلها من عمل الإنسان، أما التوجيه الرباني فهو محفوظ في القرآن، الذي بلغه خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وتبليغه إلى الناس يبقى من مهمة أمة الشهادة، أمة الوسطية إلى يوم الدين. التوجيه الرباني نطقت به الآية القرآنية: ” فأقم وجهك للدين حنيفا… ” الآية 30 من سورة الروم، وحنيفا، تعني، مسلما، إذن، ما دامت الفطرة متصلة بالدين، والدين هو الإسلام، فإن الأخلاق تتصل بالفطرة وبالتالي فهي متصلة بالإسلام، فحتى الشعوب التي سبقت خاتم الأنبياء والمرسلين وحتى سيدنا إبراهيم الذي كان أمة حنيفا مسلما، هي شعوب خلقها الله على الفطرة: ” فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” الآية 30 من سورة الروم. فالمولود يولد على الفطرة، إنها خلق الإنسان، فلا الجبال ولا الأرض ولا السماوات تسأل عن هذه الفطرة ، إن الإنسان هو وحده المسئول، فالأمانة التي حملها الإنسان ورضي بحملها، أساسها هذا المولود، به تبدأ وبه تنتهي، الإنسان يخلق، ثم يصنع بعد خلقه، إن الخالق هو الله، أما الصانع فهو الإنسان، فكما أن لكل صناعة مختصون، فإن من يضع أسس صناعة الإنسان هو الله أما من ينجز هذه الصناعة فهو الإنسان نفسه، أسس صناعة الإنسان تضمنها الإسلام: ” فأقم وجهك للدين حنيفا… ” هذا هو المطلوب من الإنسان تجاه نفسه وتجاه الآخرين، بداية بأولاده، ذلك أن الإنسان الذي يسيء لأولاده لا يمكن أن يحسن للآخرين، هذا هو جوهر وروح الأمانة التي تحملها الإنسان ورضي بحملها. عناد الإنسان هو الذي جعله يتجاوز هذه الحقيقة، فهي أمامه ماثلة، غير أنه لا يبصرها، بسبب عناده وشركه بالله. إن التهويد والتنصير والتمجيس، كل ذلك بسبب عناد الإنسان وشركه. ولذلك، فإذا أقام الإنسان هذه الصناعة وأحسنها، استقامت الحياة بجميع مقوماتها وإن تخلى عنها، أو أساء تقديرها وأداءها، اختلت جميع فضاءاتها، إن الأبوة درجات، وأعلاها درجة أبوة النخبة التي يهتدي بقيادتها وتوجيهاتها الأفراد (القدوة)، والشعوب، والمجتمعات. إن تهويد المولود، أو تنصيره، أو تمجيسه يدخل في إطار هذه الصناعة، وينضوي تحت سقف هذه الأبوة، فالتهويد من صنع اليهود والتنصير من صنع النصارى، والتمجيس من صنع المجوس، إنه باختصار الإنسان الذي أساء الصناعة، فهو الإنسان الصانع، وليس الله الخالق سبحانه وتعالى عما يصفون، إنه عمل اليهودي، أو النصراني، أو المجوسي، وليس عمل الإنجيل أو التوراة قبل تحريفهما. إن المولود يحتاج بعد خلقه إلى صناعة ورعاية، وإن أعظم الشعوب هي التي تحسن صناعة مواليدها، واعلم أنه على إثر هذه الصناعة، وبناء على طبيعتها، تتحدد طبيعة الشعوب والمجتمعات، ومن ثمة تتحدد باقي ملامح الحياة، إن الرخاء والأمن، والأمان والرفاه، أو الفقر والعنف، وجميع أوجه الاستياء، مصدرها ومنبعها طبيعة صناعة الإنسان، وأن أي تفسير يتجاهل هذا الأساس، ليس إلا صورة من صور العجز، أو عجز الإنسان في إطار صناعة الإنسان، ومثل هذا العجز ينعكس على عوالم المجتمع عبر الزمن، وعلى إثره تتحدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” رواه أحمد. يدل هذا الحديث، أول ما يدل، على أن الأخلاق ملازمة لخلق الإنسان، فهي من الفطرة، والفطرة هي إنسانية الإنسان، وما تحمله وتتضمنه هذه الإنسانية من مشاعر وإحساس، فهل تغيرت هذه الإنسانية من لدن سيدنا آدم عليه السلام إلى يومنا هذا؟ هل هناك إنسان لا يخاف، هل هناك إنسان لا يأكل، هل هناك إنسان لا يشرب، هل هناك إنسان لا ينام، وهل هناك…؟ أبدا، الإنسان هو الإنسان، لم يتغير هذا الخلق، ولو اجتمع الإنس والجن على تغيير خلق الله ما استطاعوا، سبحان الله عما يصفون. ثم، هل نستطيع انتزاع الرحمة، والعطف، والحلم، والحياء، والرفق، والبذل، والإيثار، والوفاء بالعهد، والتواد، والسخاء، والصبر، والعفة، والزهد، و…، من الإنسان، ونجعله على غير ما خلق عليه؟ إن بذور الأخلاق محفوظة في طينة الإنسان، لو اجتمع الإنس والجن على انتزاعها منه، ما انتزعوها، ” فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” الآية 30 من سورة الروم.
 
*آراء حول مدلول الأخلاق:
الإمام عبد الرحمان بن محمد ابن خلدون
المقدمة: الفصل الرابع
في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر:

يقول ابن خلدون: ” وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين، تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه. فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه، وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضا عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولا وعملا. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها، فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، وهو ظاهر. وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير. فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر. والله يحب المتقين.” (1)
سؤالنا يتمحور حول المقياس الذي نقيس به، أو الميزان الذي نزن به، أو المختبر الذي نتبين به، درجة استجابة الإنسان بين الفطرة التي فطره الله عليها وبين مذمومات الخلق والشر،هل نفضل الإنسان المنعزل في الطبيعة من دون ضجر، أو إنسان البدو الذي لا يفكر أصلا في المختبر، المحك هو الاجتماع والتعارف وتقابل المصالح والأهواء، يقول ابن رشد: الفضيلة لا تتم إلا في المجتمع، وأكد على أهمية ودور التربية الخلقية، وشدد على دور المرأة في تحديد ورسم ملامح الأجيال، وكان قريبا بالتحليل والنقد والتوجيه لآراء ونقاشات فلاسفة أوربا الغرب. إن الحضر يدلنا أكثر من البادية على خبايا النفوس، والاجتماع والتعارف كفيل بتمييز الغث من المفيد، لذلك فإن فوائد البادية على الإنسان في صحة بدنه وصفاء فكره، لا ينبغي أن تحجب عنا أهمية الحضر في الكشف عن قيمة ما ننتظره من المختبر، لقد قرأنا قول الله عز وجل: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم “، إذن، التأكد من حسن خلق المرء، أو سيئه، يكون عند اجتماع الناس، وتضارب المواقف، واختلاف الرؤى، خصوصا لما تجتمع الأعراق والألوان والمذاهب، كيف يمكننا الاستدلال على حلم المرء من غضبه، وكرمه من بخله، وبذله وعطائه من شحه، وسماحته من قبحه؟
يواصل ابن خلدون قوله: ” ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكنى البادية، فقال له: (ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟) فقال: (لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو). فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه، ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية، لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب. وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب: وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم)، ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها، فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها، وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه. وقيل إن ذلك كان خاصا بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين، وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح). وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح. والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة. فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟ نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه، وهو قوله: (ولا تردهم على أعقابهم). وقوله تعربت إشارة إلى أنه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون. وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو. ويكون ذلك خاصا به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة. ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط، لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة، وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وأفضل، فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه. وعلى كل تقدير فليس دليلا على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب، لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وحراسته، لا لمذمة البدو. فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب (بالتعرب) دليل على مذمة التعرب. والله سبحانه أعلم وبه التوفيق.” (2)

إن ما ذهب إليه ابن خلدون من نفي لأي علاقة بالهجرة قبل الفتح بمذمة البدو، أو حتى بعد الفتح، فهو عين الصواب، لأن الهجرة في حد ذاتها، لم تكن لرغبة في تغيير الموطن، أو لمفاضلة دار الهجرة على حياة البدو، لم تكن هذه غاية الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين، لذلك فإن نعي الحجاج رجوع سلمة، ليس في محله، لا لشيء سوى لأن ما كان لسلمة لم يكن لبقية المهاجرين، لذلك فإن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بالبقاء في البادية لعذر تعلق بسلمة، أو لسبب خاص به، فالرسول صلى الله عليه وسلم، من باب السياسة الشرعية، هو الأقدر على تقدير ما يتعلق بأصحابه قبل الفتح وبعده. لكن هذا لا يبرر ما ذهب إليه ابن خلدون قبل ذلك من ربط بين حسن الخلق وحياة البادية، أو على الأقل، هو يفضل، في هذا الشأن البادية على الحضر، من دون دليل، لا دينا، ولا عقلا، ولا حتى من زاوية علم التاريخ. كذلك نجد ابن خلدون لم يقارب الأخلاق من حيث المدلول، ولا من حيث المقومات، هل الواقع الأخلاقي، أو الوقائع الأخلاقية، سواء ربطها بالآداب أو الأعراف، أو كون الإنسان وقتها كان لا ير حاجة إلى إعمال الفكر لغاية التمييز أو التصنيف، أو البحث عن الدافع، على أية حال، لا يمكن الجزم بهذه الجوانب كلها، خصوصا أن الواقع والوقائع هي العوامل المؤثرة، التي تجعل الإنسان يتجاوز ما هو غريزي، إلى ما هو من عمل العقل استجابة لما يطرأ من تحديات تمس آداب الناس وأعرافهم، أو حتى تقاليدهم.

* الموسوعة الفلسفية العربية ـ د. معن زيادة

بخصوص تعريف الأخلاق، أو تحديد المدلول ورد، تحت عنوان: تعريف الأخلاق، ما يلي: ” بيد أن اسم الأخلاق، ونعت الأخلاقي، لا يغنيان عن مسعى تعريف الأخلاق تعريفا تاما من الناحية المنطقية، وصحيحا من الناحية الواقعية، وهذا مطلب عسير بلا ريب، لأن واقع التجربة الأخلاقية واقع صيرورة موصولة، ولذا بات تعريفها تعريفا جامعا مانعا،أي ثابتا واحدا شاملا، أشبه بالمحال.”(3). إن دل هذا فإنما يدل على أن مسار البحث في مسألة، أو سؤال الأخلاق، على مستوى الفكر الفلسفي، أو البحث الأكاديمي، لم يفلح في ضبط وتحديد مدلول الأخلاق بصفة شاملة وجامعة ودالة وهادفة. والسؤال، هو، هل يكفينا تتبعنا الوقائع والاستسلام لكذا تصورات وتفسيرات تبتعد عن اللب وتستغرق في الدوران حول الموضوع من دون سبر أغواره، خصوصا أن البعض أطلق عليه عبارة:علم الخير، التي لم تزده إلا مزيدا من الغموض، وفتح المجال نحو أسئلة فرعية كثيرة. حيث ورد في الموسوعة الفلسفية العربية ـ المجلد الأول: ” وقد أجمل معجم لالاند تعريفات الأخلاق في دلالات أربع: الأولى هي أن الأخلاق جملة قواعد السلوك المقبولة في عصر أو لدى جماعة من الناس وبهذا المعنى يقال: أخلاق قاسية، أخلاق سيئة، أخلاق منحلة. والثانية هي أن الأخلاق جملة قواعد السلوك التي تعتبر صالحة صلاحا لا شرطيا. والثالثة هي أن الأخلاق نظرية عقلية عن الخير أو الشر وهذه هي الأخلاق الفلسفية. والدلالة الرابعة أخيرا هي أن الأخلاق جملة ما يتحقق في العلاقات الاجتماعية من أهداف حياة ذات صبغة إنسانية أعظم ” (4). مقاربة المجمع للموضوع، أو المسألة، من جوانب مختلفة، كجملة قواعد السلوك، توحي من دون شعاع، أن هناك قواعد ثبت الإجماع حولها، وحاجة الأفراد والمجتمعات، فصارت مطلب الجميع، وتأكدت صلاحيتها من دون منازع، فاستجاب لها كيان الإنسان وواقعه، وهذا ما لم يدلنا عليه، أو على آثاره المجمع، لذلك فالحديث عن كذا قواعد، يصعب البرهان عليه، أو حتى إثارته إثارة نظرية. فالقول بالأخلاق المنحلة والأخلاق السيئة والأخلاق القاسية، ليس سوى سحب مفردة العادات على مفردة الأخلاق ومحاولة إيهام الناس، أنها مادة واحدة. أما القول بقواعد السلوك الصالحة صلاحا لا شرطيا فهو الطرح الأول ذاته، لأن مثل هذه القواعد الجاهزة توحي بوجود صناعة ثبتت مصداقيتها. أما الثالثة والرابعة، فإن الحجة في تحديد مدلول الأخلاق يبقى قائما على الفكر الفلسفي والأكاديمي على حد سواء، وشبكة العلاقات الاجتماعية تبقى الكاشف، أو إحداها، الدالة على حاجة الإنسانية إلى ما هو فعلا من الأخلاق. وأيضا نقلت لنا الموسوعة موقف(لوسين) القائل: ” الأخلاق جملة منهجية إلى حد كبير أو صغير تضم التحديدات المثالية والقواعد والغايات التي ينبغي على (الأنا)، بوصفها ينبوعا مطلقا،إن لم يكن شاملا، للمستقبل أن يجريها بعملها في الوجود حتى تبلغ مزيدا من القيمة ” (5). الأساس في هذا القول بالينبوع المطلق أو الشامل بخصوص المستقبل، فهل تسنى لنا تحديد ماهية هذا الينبوع، أو طبيعته، أو أبعاده ومقوماته، حتى يسهل على الإنسانية الارتواء منه، لذلك فإن جملة التحديدات المنهجية المثالية والقواعد والغايات، إن لم تكشف عن مدلولها وأبعادها وحقيقتها، فإن المنبع يبقى في عالم المجهول. هذا ما تنبه له أصحاب الموسوعة الفلسفية العربية بقولهم، تحت عنوان: المشكلة الأخلاقية: ” ثمة إذن مشكلة أخلاقية وراء علم الأخلاق، بل في هذا العلم ذاته، وهي مشكلة فلسفية تتناول التحديدات المثالية والقواعد والغايات الإنسانية، وهذه المشكلة ليست من صنع عقول تتكلف ابتكار المتاعب للتدرب على حلها أو الجري وراء هذا الحل. وإنما هي معطى تطرحه التجربة الأخلاقية التي تمر من مرحلة التخلق التقليدي أو الاتباعي إلى وعي التخلق بالفكر، وإرضاخه للمطلب الإرادي “(6). وأضيف: أننا بحاجة ماسة، في معالجة، أو مقاربة سؤال الأخلاق من أن نلفت النظر إلى أهمية إضفاء مزيد من الاهتمام بموضوع الإنسان، بين مقلد تابع، يتحرك حركة الآلة، لا مكان للمشاعر والأحاسيس، والتأمل والتدبر، ناهيك عن التميز والمبادرة والإبداع والتنوع. وبين إنسان حاضر وواع، يمكن أن يضيف مزيدا من الجمال إلى صورة الإنسانية في مسارها الدنيوي. إن دور المثقف الحاضر والواعي، هو من يضبط حدود حضوره ووعيه وتموقعه، وفق حضور إنسانيته، وحرصه على الاستثمار في رأس ماله الحقيقي الذي هو إنسانيته في أبعادها الفطرية والحضارية، فلا يقبل إلا أن يكون شاهدا مؤثرا في واقع مجتمعه وأمته، في حدود إنسانية الإنسان ومقوماتها في أبهى صورة، ذلك هو الإنسان المثقف الحاضر والواعي الذي يأخذ بيد المقلد، فيسعى إلى تحريره من خلال تحرير نفسه ومجتمعه من كل ألوان الاستعباد. لذلك فإن مشكلة الأخلاق ذات إشكالات متداخلة بسبب تداخل الرؤى والتصورات التي تحكمها كثير من الأهواء والنزعات، ذلك هو جوهر التخلق بالفكر، أو الفكر بالتخلق، أو فكر الأخلاق، أو أخلاقية التفكير، كلها محطات ذات أسئلة مجتمعة، يمكن أن تمنحنا مزيدا من التخلق في طرح مشكلاتنا. نتواصل أكثر مع الموسوعة الفلسفية العربية، لنقرأ: ” إن المشكلة الأخلاقية، المشكلة الفلسفية للمعرفة الأخلاقية، تطرح طائفة لا تحصى من الأسئلة التي تتناول ما يتصل بها من مفاهيم ومبادئ وقيم، مثال ذلك: ما أصل مفاهيم الخير والعدالة والشرف والكرامة؟… هل هي وليدة التجربة أم أنها فطرية ـ كالأخلاق في نظر ديكارت؟ هل ندركها في عالم متعال أم في واقع محايث؟ ما طبيعتها الذاتية والموضوعية؟ ما شأوها وقيمتها؟ هل يوجد معيار لتمييز بعضها عن بعض؟ ما معيار العدل والخير والإحسان؟ وهل هو معيار وحيد أم متعدد؟ موضوعي كلي أم ذاتي استثنائي؟ هل المبادئ الأخلاقية مما يكتسب بالتربية، بالتلقين، بالإتباع؟ وإذا كانت فطرية فلم لا تظهر إلا بعد مضي فطرة من العمر، وبعد الاضطلاع بتجربة الحياة عبر سنوات طوال يعجز المرء قبلها عن فهم التخلق، ووعي صوت الوجدان؟ ” (7). المشكلة نابعة من داخل فضائنا العقلي ومحتوانا النفسي، نابعة مما علق بالفضاء والمحتوى نتيجة اتصالنا الوجداني والواقعي بكياناتنا الجمعية، داخل الأسرة، والقبيلة والمجتمع، لذلك تعددت أسئلتنا لكن رغم ذلك، فبدل التركيز في سؤال الأخلاق، ننصرف بدافع موانع الاقتراب وهي كثيرة، إلى حواشي المسألة وبعض تجلياتها، إن السؤال في قيم الخير والعدالة والشرف والكرامة، أهي نتيجة التجربة، أم أنها وليدة الفطرة، هو من صميم تجليات الفضاء العقلي والمحتوى النفسي، ومن ثمة فهو من صميم سؤال المشكلة الإنسانية ذاتها. ثم على ماذا تدل ” الفطرة “، وعلى ماذا تدل التخلية والتربية، التصفية والتحلية؟ أو أليس الأول دالا على الثاني، والعكس كذلك؟ الفطرة ليست قالبا تحبس فيه إنسانية الإنسان، ولا صورة مشوهة لجمالية الحياة وبهائها، كما أن التربية والتلقين والإتباع ليست سوى الصورة المعبرة عن استجابة الإنسان لمقتضيات الفطرة، وليس ذلك سوى حجة على الإنسان ودلالة على كونه في موقف المختار، لا المخير، والمستجيب، لا المجيب. وما الوقوف في حالة من التمعن بين ما هو عالم متعال، أو واقع ماثل، سوى حاجة إنسانية، وتحديدا في دائرة المعرفة الفلسفية، إلى مزيد من التأمل، والقرب من التخلق في مسألة مقاربة موضوع الأخلاق، تحديدا وغايات. وتنقل لنا الموسوعة موقف (جورج باستيد): ” إن المشكلة الأخلاقية مشكلة قيمة بالدرجة الأولى. والقيمة بطبعها جاذبية إلزام، ولكنها جاذبية لا تمنع الحرية، بل توجبها. فلم كانت القيمة الأخلاقية إلزاما؟ هل تنبع من عادات الفكر والشعور المستقاة من وسط معطى؟ وإذ ذاك تنبع قيمتها قيمة ما تنبع منه، أم أنها تجاوز منطلقها وتكسر قيود معطياتها في الزمان والمكان وفي الأنفس والآفاق، حتى تبلغ دوما مزيدا من الانفتاح على إنسانية الإنسان؟ ألا يعني ربط المطلب الأخلاقي بالمعطيات الحضارية نسبية ذلك المطلب؟ ألا نستطيع، ألا يجب، أن نميز قيمة أخلاقية عليا تهدف إليها الحضارات، والحضارات هي التقدم العلمي والتقني، ألا وهي قيمة المدنية الشاملة التي تجعل ذاك التقدم يستهدف الحياة والازدهار، لا الموت، ولا الإبادة والدمار، حتى لا يكون التقدم الحضاري علميا وعمليا وحشية وهمجية لنبوه عن الأخلاق؟” (8). لعل (جورج باستيد)، اختلط عليه، ما هو من الأخلاق، مع ما هو من العوائد، إذ ما يظهر في مكان وزمان، متصلا بحياة الناس نجده مختلفا، في أمكنة أخرى عند من كان قبلهم، فالتوافق في العادات ليس أمرا حاصلا، يختلف ذلك بين أهل البادية وأهل الحضر، كما هو مختلف بين مجتمعات ذات نزعة استبدادية، وأخرى لم تنزع فيها ملكة التسلط على الناس، ليس هذا من قبيل الأخلاق في شيء، إنما هو من قبيل ما يجده الإنسان من عوائد، فيأخذه عن سابقيه ويتشبث به كثيرا، إن الدمار الذي ألحقه (الغرب) بالناس قديما وحاضرا ليس علامة من علامات التقدم، ولا يمت للحضارة بصلة، فهو دال على قبح صنيعه، وعلى عادات خاصة، تنم عن توحش الإنسان في نفسيته وأفكاره، وليست سوى شاهدا على تجرد هؤلاء الناس من كل ذي قيمة. المدنية الشاملة هي مدنية الإنسان في إنسانيته، في صورة أمنها وأمانها وإحساسها بكل أعضائها، يلتئم شملها بهم جميعا، لا بقطع أوصالها. إن أعلى قيمة، لا تكمن فيما عند الإنسان من سلطان ومال، أعلى قيمة في أن تشعر بالآخر في إنسانيته، انطلاقا من شعورك بإنسانيتك، مها كان لديك من مال وسلطان.

يقول ابن خلدون: ” والحضارة، كما علمت، هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه، كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحد من هذه، (صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه) الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات،، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها. ” (9). وإذن، فالعوائد لها صبغتها، وهذه الصبغة التي أشار إليها ابن خلدون، هي أقرب إلى الطلاء منه إلى الصبغة، لأنها صناعة إنسانية، لذلك فهي طلاء، مركباته مما علق بالإنسان، بذهنه، وأفكاره، وسلوكياته، وما أظهره من أفعال وتركه من أثر، يتنوع هذا الطلاء، باختلاف البيئة وأدوات الهدم والبناء، نظريته ووسائله. الإنسان يؤثر ويتأثر، يتأثر في معتقده وفي دنياه. والسؤال الذي يقترن بهذه المقاربة، هل للإنسان من صبغة تحفظ له دينه ودنياه، من المكر والخداع والترويع والقتل؟ هل للإنسان من صبغة، تحوله إلى مصدر خير وبر وإحسان، وينبوعا يدر على الإنسانية بالطمأنينة والأمن والأمان؟ هذا الذي تحتاجه المدنية الشاملة، التي تتطلع إليها الإنسانية جميعا. إن مشكلة الأخلاق هي مشكلة عقل، قبل أن تكون مشكلة صبغة، وهي مشكلة فلسفة، قبل أن تكون مشكلة دين وهي مشكلة تاريخ قبل أن تكون مشكلة حاضر، وهي مشكلة إنسان قبل أن تكون مشكلة حضارة، وهي مشكلة بني أمية قبل أن تكون مشكلة بني العباس، وهي مشكلة أوروبا قبل أن تكون مشكلة أمريكا، وهي مشكلتنا قبل أن تكون مشكلة أجيال المستقبل. ويدلنا ابن خلدون، ليس من باب النظرية، ولكن من باب التجربة، أو النظر والتأمل في مصائر الناس جيلا بعد جيل، فيقول: ” وذلك أن الناس بشر متماثلون، وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه (صبغة الرذيلة بأي وجه كان، وفسد خلق الخير فيه)، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول، منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم، وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها. ” (10). خإن سؤال الأخلاق، لا يرتبط بنسب، أو حسب، أو بذي مال، أو سلطان. ليس شأنا وراثيا تتوارثه الأجيال، ولا صناعة إنسانية قائمة لذاتها. إن سؤال الأخلاق يدلنا من حيث، ما تم طرحه من إشكالات، نابعة من مشكلة الفلسفة في مختلف مقارباتها، أو من مشكلة الاستبداد في خنقه لحركة الإنسان، يدلنا على المنبع، المنبع بمثابة الأرض التي لم يجدها الإنسان، فلا هو أوجدها ولا هو صنعها. الأرض بخصوصيتها وخصبتها جاهزة لعملية الزرع، تلك هي جبلة الإنسان، أو ما جبل عليه، أي تلك فطرة الإنسان، وهذه التربة متى زرعنا فيها، والزرع استجابة تمليها حاجة الإنسان، أفرادا وجماعات، الحاجة إلى ما يلائم تلك الفطرة ويتوافق مع ما يتضمنه وجدان الإنسان من مقومات فإذا تمت الاستجابة، أعطت الأرض ثمارها، وثمارها، ليست سوى حسن الخلق، تلك هي الإجابة. وإذن، فالأخلاق تحتاج إلى استجابة وإجابة، إستجابة من الإنسان، وإجابة من الفطرة. وقيمة حسن الخلق، ليس أمرا هينا بسيطا، فهو يحتاج بعد العملية المتبادلة والمركبة، إلى صبغة، هذه الصبغة، لا نحصل عليها بنسب أو حسب أو مال أو سلطان، فهي ليست طلاء يمكن الحصول عليه من أشهر مصانع لندن أو باريس، بل هو في متناول الإنسان المستجيب وفق ما جبل وفطر عليه.

*فلاسفة اليونان وأوربا:

المتتبع، والمتأمل في آراء فلاسفة اليونان، أو أوربا الحديثة، وحتى الذين سبقوهم إلى هذا الحقل من المعرفة الفلسفية، أنهم يدورون في رؤاهم الفلسفية للأخلاق بين العقل: ديكارت ـ سبينوزا، كانت،… والعاطفة: هوبز، هيوم ـ فولتير، آدم سميث،…، والمنفعة: بنتام، جون ستيوارت مل…، وحتى أرسطو طاليس فهو لا يخرج عن حدود العاطفة المغلفة بغلاف السعادة، أو هي عاطفة زائدة عن اللزوم، دون الحاجة إلى ذكر مادية انجلز وماركس، ودون إهمال ما ذهب إليه (نيتشه) القائل بأخلاق السادة التي تنفي أخلاق من هم دونهم، وموقف (نيتشه) ليس سوى رد فعل على حالة أللأخلاق التي سادت أوربا حينها، أو هو التضاد في الرؤى والتصورات، والمنافع أللمتناهية يقول الدكتور عبد الرحمان بدوي:” تمتاز الأخلاق اليونانية مهما تعددت الصور التي عرضت على أساسها، بأنها أخلاق سعادة لا أخلاق واجب، على العكس تماما مما عليه الأخلاق المحدثة، خصوصا ابتداء من كنت. فإذا كانت هذه الأخلاق الأخيرة تضع قواعد يجب على السلوك الإنساني أن يسير وفقا لها، فتقول له: افعل هذا لأنه واجبك، فإن الأخلاق الأولى تقول له: افعل هذا لأنه يؤدي إلى سعادتك. فالخير والسعادة في الأخلاق اليونانية بوجه عام شيء واحد. وأرسطو من أوضح الممثلين للأخلاق اليونانية في هذا الصدد، فهو يقول ـ واللغة اليونانية تساعده كثيرا في هذا القول ـ إن فعل الخير والنجاح وتحصيل السعادة كلها ألفاظ متعددة تدل على معنى واحد فحسب، إلا أنه إذا كانت الغاية قد تحددت ـ وهي السعادة ـ فإن ماهية هذه السعادة لم تتحدد بعد. وذلك لأن الحياة تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الحياة الحسية وهي حياة اللذات المستمرة، والحياة السياسية وهي حياة تحصيل القوة وممارسة القوة، والحياة النظرية وهي حياة التأمل والنظر والتفكير الخالص. وتبعا لهذا التقسيم يجب أيضا أن تقسم السعادة إلى أنواع، فهناك سعادة بالمعنى الحسي، وأخرى بالمعنى السياسي، وثالثة بالمعنى النظري، ولهذا يجب أن نبدأ بالتمييز بين ماهية السعادة الحقيقية في كل هذه الأحوال. وقد رأينا في الفصل السابق أن أرسطو ينظر إلى اللذة نظرة أخرى غير النظرة المألوفة فيقول: إن اللذة هي تحصيل كمال الفعل، أي أنها الفعل وقد وافق طبيعة الأشياء. والسعادة عند أرسطو ليست شيئا آخر غير هذا، فهي بالنسبة إلى أي شيء: أن يحقق كمال الفعل بالنسبة إلى ذاته إلا أن أرسطو ينظر هنا دائما إلى الإنسان، ولذا يقول إن السعادة هي اللذة الناشئة من تحصيل الإنسان لكمال الفعل المقوم لطبيعته، وهكذا نجد أن أرسطو قد جعل اللذة هي السعادة، ولكن ليس معنى هذا أن أرسطو كان تجريبيا في الأخلاق إلى هذا الحد البعيد، فإنه يعطي اللذة هنا معنى آخر مختلفا عن المعنى المألوف الذي من أجله ثار أفلاطون وثار الكلبيون على اللذة، وذلك لأنه ينظر إلى اللذة نظرة سكونية باعتبارها كمالا أي تحققا بالفعل. فاللذة إذن تخرج من كل صيرورة، وهي ليست حركة مستمرة تنطوي على تغير دائم، وإنما هي حالة سكون مطلق، كحالة سكون الصورة بعد أن تتحقق على الوجه الأكمل بالنسبة إلى شيء، وفي هذا إعلان لما ستكون عليه الأخلاق بعد ذلك كما سيضعها أبيقور، فإن هذا الأخير قد انتهى أيضا إلى نوع من اللذات أقرب ما يكون إلى الانفعال السلبي فيما يسميه باسم الأتركسيا، أي الخلو من كل تغير وانفعال. وبهذا يناقض أرسطو الأخلاق الأفلاطونية التي عارضت اللذة أو الملائم على أساس أن اللذات متغيرات وأنها من عالم الصيرورة والتحول المطلق. ” (11)

 يرى أرسطو أن السعادة هي قمة ما يمكن أن نتصوره أو نحققه من خير، فكل ما دون السعادة في باب الخير ليس سوى وسيلة من أجل تلك الغاية، وإذن، فإن السعادة هي الخير الأقصى. المشكلة، أن الذين ينقلون هذا الموقف، أكثرهم يسلمون به، دون أدنى عملية فرز فيما ذهب إليه أرسطو. فإذا كانت السعادة هي الخير الأقصى، وأنها غاية لذاتها، فهل يكفي الإنسان، استخدام أي وسيلة قصد تحقيقها، حتى وإن تعارضت رغباته مع ما يطمح إليه الآخرون؟ هل السعادة، ملكة إنسانية، تتصل بفطرته التي جبل عليها، أم هي ملكة يتم اكتسابها، أهي عقلية، حسية، روحية، أم هي صناعة إنسانية، يحددها الإنسان وفق رغباته الخاصة، أم أنها تتحدد جماعيا، أي وفق اتفاق جماعة معينة ثم هل يمكن أن يسعد الإنسان، وفي الوقت نفسه يحد من بعض رغباته، أو ما تنحو إليه غرائزه؟ إذن، هل من محددات للسعادة، ما هي مقوماتها في حدود الفرد، وفي حدود الجماعة. كما أن أرسطو، بعدما ربط الإنسان في حركته وسكونه، وكأن الجميع في حالة من البحث الحثيث عن ضالة يهون في سبيل الوصول إليها كل شيْ، راح يبحث عما يشبه المرآة، لعله يقرب صورة ضالته المفضلة، وهو دائما في سعي إلى توضيح منهجه شبه التجريبي في مسألة الأخلاق، فيقسم السعادة تبعا لتقسيمه للحياة، إلى سعادة حسية، وسعادة سياسية، وسعادة نظرية، فهل يمكن أن نفصل بين هذه الثلاثة، فيكون الإنسان الواحد سعيدا في مجال من دون أن يسعد في المجالين الآخرين، أو أن السعادة، هذه، إذا تحققت في الأولى تتحقق بالضرورة في التاليتين، أو أن السعادة الحسية والسياسية والنظرية تخص الإنسان لذاته دون اعتبار لسعادة من يليه في دائرة الإنسانية؟ هل ما نعبر عنه بالسعادة يغني الإنسانية عن البحث عن محدد، أو مجموعة من المحددات تحقق سعادة الإنسانية ولو بصورة نسبية، على أساس استحالة خلو الساحة الإنسانية من مواقف إنسانية تجسد الانحراف عن جادة الطريق، أو ما نعبر عنه بالفعل المعبر عن النفس الشريرة، أو عن نوازع الشر داخل النفس البشرية. يواصل الدكتور بدوي مقاربته لموقف أرسطو، فيقول: ” تلك إذن هي اللذة، فهي ـ كما قلنا ـ تحصيل كمال الفعل. ولكن هذا معناه أيضا الفضيلة، إذ الفضيلة هي في أن يحقق الإنسان الكمال الممكن بالنسبة إليه. فلا بد إذن من دراسة الفضيلة. ولكن أرسطو حينما يأخذ في دراسة الفضيلة، ويشرع في تحديد ماهيتها على وجه الدقة، لا يبدو هنا منطقيا كثيرا مع نفسه، فضلا عن أنه لم يفعل في هذا الباب الشيء الكثير، كما فعل من قبل رجل مثل أفلاطون، فهو لم يعن بترتيب الفضائل ترتيبا تصاعديا ـ كما فعل أفلاطون ـ ولم يميز بين الفضائل بعضها وبعض إلا تمييزا عاما. وهذا التقسيم العام يرجع إلى قسمين رئيسيين بحسب طبيعة الفعل الذي يمكن أن يقوم به الإنسان ـ كما رأينا في حديثنا عن الرغبة في ختام الفصل السابق ـ فإما أن يكون الفعل عاقلا ـ أو معقولا ـ وهو الذي يصدر عن دوافع عقلية، وعن علم بأن أشياء يجب أن تؤدي وهي واضحة عن طريق البرهان، وفضائل هذا النوع من الفعل فضائل نظرية عقلية، وإما أن يكون الفعل لا معقولا، وهو الذي يصدر عن الشهوات التي لا تخضع في اندفاعها وتحققها للعقل، ولو أن من الممكن بعد ذلك أن تخضع له. فمثال النوع الأول الحكمة والفطنة وما يتصل بذلك من الفضائل النظرية، أي المتعلقة بالتأمل والفكر، ومثال النوع الثاني العفة والعدالة… الخ. ” (12). هل الفضيلة هي الطريق إلى تحديد مدلول الأخلاق، أم هو مخرج اضطراري لإعادة الكرة على مستوى فلسفة المعرفة من دون فلسفة أخلاق، أم هو الدوران ذاته الذي أعي العقل السقراطي الأفلاطوني من قبل. يعتبر أرسطو طاليس: الفضيلة، التي لم يحدد مدلولها، ولا أبعادها، يعتبرها شرطا أساسيا لتحقيق الخير الأقصى، ألا وهو السعادة، أرسطو يصل إلى أن الفضيلة هي صفة إنسانية، بمعنى تميزه عن الحيوان، لكنه ينتقل بسرعة إلى النفس، إذ من خلال صفاتها يحاول الإجابة عن سؤال الفضيلة، فإذا كانت النفس موصوفة بالانفعال، أو بقوة طبيعية ، أو عادة مكتسبة فهو ينفي الانفعال، والقوة الطبيعية، عن الفضيلة، ويبقي وصف العادة الخلقية المكتسبة، وكأن الإنسان في حالة من البحث، كي يختار ما هو مناسب له، فإذا كان الغضب نتيجة انفعال، فعلى الإنسان التخلص من مثل هذا الانفعال، حتى نقول عنه فاضلا. وفي هذا المضمار بالذات، هل يختلف الناس، أم هم متساوون أمام هذا الخلق المكتسب، حتى يكونوا فاضلين؟ هل ما يصبو له النصراني، ولا يلتقي فيه مع المسلم، أو اليهودي، يمكن أن ينفرد به في عالم الفضيلة، هل يمكن لطرف أن يزيد رصيده في عالم الفضيلة بمال أو جاه أو لون أو عرق، فنميز بين الناس، على أساس هذه المحددات، ليكونوا أقرب إلى الفضيلة، خصوصا أن أرسطو يرى في الفضيلة فعلا إراديا مكتسبا، والإنسان في ذلك على قدر من الحرية، كونه مختارا، لا مجبرا؟ الجانب المضيء في نظرة أرسطو، حين يصل إلى أهمية التربية في حياة الطفل لاكتساب ما هو من الفضيلة، غير أنه لا يمكن بأي حال الاطمئنان على الإنسان المربي، هل يستطيع الساسة المغامرون تحصين أطفالهم من آثار رغبتهم الجامحة في النيل من أمن وأرزاق المستضعفين، خصوصا إذا تحولت الرغبة الجامحة إلى مكسب يجب أن يدافع عنه الأطفال، حين يبلغون ما بلغ آباؤهم؟ إن العادة الخلقية الحسنة المكتسبة بإرادة واختيار في طريق الحث عن الفضيلة من أجل تحقيق الخير الأقصى، أو السعادة، هي صورة مجردة من الروح الإنسانية التي يحتاجها الإنسان في حركته وسكونه واختياره، فلا ير وحده، بل يسعى للتأكد من رؤية الآخرين، ورؤاهم، وحسنهم، وحاجتهم إليه، وحاجته عندهم، فلا يمكن أن يتحقق ذلك من دون جامع، يحضر فيه العقل والبصيرة دون تجاوز لما جبل عليه الإنسان. أرسطو حاول الدخول من باب الاعتدال معرفا الفضيلة، على أنها خلق مكتسب قصد اختيار ما هو أنسب اعتمادا على العقل، أو رأي الحكيم، والحكيم هو الحاكم صاحب السلطة التي ينبغي أن تعدل من سرعة حركة الأفراد بحثا عن الفضيلة علهم يستأنسون بها في طريقهم بحثا عن السعادة، وأختم بأن أرسطو لا يرى في الإنسان المعدم قادرا على السير في مثل هذا الطريق. ناهيك عما ذهب إليه قبل ذلك، سقراط وأفلاطون اللذين ربطا مسألة الخلق والتخلق بمدى إعمال العقل في كل ما يتصل بواقع الناس، أو ما يطلق عليه أخلاق الحكمة. جاء في الموسوعة الفلسفية العربية: ” وبهذا الاعتبار نرى المذاهب الأخلاقية وقد نشأت على استحياء وتشتت في اليونان قبل سقراط، ثم ظهرت أخلاق الحكمة التي تضم مذاهب سقراط وأفلاطون وأرسطو، والحكمة هي صدى إعمال الفكر في معطيات الواقع لاستجلاء ما ينبغي أن يكون وقد تصور اليونان الحكمة على أنحاء شتى، ولكنهم اتفقوا على الإيمان بأهميتها ونفعها لأنها مصدر فضائل طيبة رفيعة يود كل إنسان، بزعمهم، أن يتحلى بها ويسعد بنوالها.”(13) وما دمنا قد أشرنا إلى أن أرسطو، وجد صعوبة في تحديد مدلول الفضيلة كوسيلة لبلوغ تحديد مدلول الأخلاق، أو هو فشل في ضبط معناها فلسفيا، ناهيك عنه عمليا، فإن ما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمان بدوي يسلط مزيدا من الإيضاح، بقوله: ” ويلاحظ في هذه الحالة الثانية أننا ننتقل في الواقع من أحوال متعارضة، ونستخلص منها حالة متوسطة. وهذا هو الطابع الأصلي للفضيلة عند أرسطو، فالفضيلة عنده نوع من الوسط بين طرفين: أحدهما إفراط، والآخر تفريط. فمثلا فضيلة كالشجاعة هي وسط بين إفراط هو التهور، وتفريط هو الجبن، وفضيلة كالكرم أو السخاء هي وسط بين إفراط هو التبذير وتفريط هو التقتير… الخ. وفكرة الوسط هذه فكرة غامضة جدا في مذهب أرسطو، لأنها تثير كثيرا من المشاكل من ناحية، ولا يمكن تطبيقها بسهولة في كل الأحوال من ناحية أخرى. فهي تثير مشاكل أولا فيما يتعلق بطبيعة هذا الوسط، فإن الملاحظ دائما أن الوسط ينظر إليه باعتباره هو الآخر نقصا بالنسبة إلى الطرف المفرط، كما يعتبر إفراطا إذا نظر إليه بالنسبة إلى الطرف المفرط، فكيف يتحقق هذا إذن؟ أي كيف يتهيأ له أن يجمع بين هاتين الصفتين المتعارضتين؟ وكيف يمكن أن يكون الفضيلة على الرغم مما فيه من تعارض، خصوصا إذا لاحظنا أن المتضادين هما ـ كما يعرفهما أرسطو في المنطق ـ الطرفان اللذان بينهما غاية الخلاف؟ وكيف يمكن، إذا نظرنا إلى الوسط نظرة رياضية، أن يقال أنه أعلى درجة من هذين الطرفين؟ الواقع أن سبيل التخلص من هذه المشكلة قد يكون بأن يقال إن التضاد من الناحية المنطقية ليس هو التضاد من الناحية الأخلاقية، فالوسط في حالة الأخلاق لن يكون الدرجة التي فيها نقص بالنسبة إلى كمال، وإفراط بالنسبة إلى نقص، بل سيكون القمة العليا والدرجة الأولى. ولكننا، نظرا أن هذا التخلص لا يؤدي إطلاقا إلى حل المشكلة، فهو تخلص لفظي لا يغني شيئا، فإما أن نفهم الوسط بالمعنى المعروف وهو الوسط الرياضي، وإما أن لا نفهمه بهذا المعنى، وحينئذ فلنا أن نسميه ما شئنا من الأسماء. أما الوسط بهذا المعنى الذي يقول أرسطو إنه ينتهي إلى أن يكون القمة، أي الطرف الأعلى الحاصل على أكبر درجة، فلا يمكن أن يفهم ـ في هذه الحالة ـ في أي شيء هو يفترق عن الإفراط. هذا من ناحية تحليل جوهر الوسط، أما من ناحية تعيين هذا الوسط فالمشكلة أشد عسرا، ذلك لأننا نجد أنه لا يمكن أن يتحدث عن وسط في الأشياء التي هي شر بذاتها. فالزنا مثلا أو الفحش أو السرقة… الخ لا يمكن أن نتحدث فيها عن وسط مطلقا، وإلا فما هما الطرفان اللذان تعتبر السرقة أو الزنا وسطا بالنسبة إليهما؟ وكذلك الحال بالنسبة للأشياء التي هي خير بذاتها، مثل النظر العقلي الصرف، فلا يمكن أن يقال عنها إنها وسط بين رذيلتين إحداهما تفريط في الفكر، والأخرى إفراط فيه. ففي هاتين الحالتين، أي في حالة الأشياء التي هي خير بالذات، وفي حالة الأشياء التي هي شر بالذات، لا يمكن أن نعين الوسط، بل لا يمكن إطلاقا أن نتحدث عن وجود وسط بمعنى الخير. وهكذا نجد أننا قد وصلنا إلى مأزق فيما يتصل بتعيين فكرة الوسط. ويظهر هذا أوضح حينما يراد تحديد المسافة التي يشغلها الوسط بإزاء كل من الطرفين، وهذا يرتد بنا إلى نفس طبيعة الوسط، وهل هو وسط رياضي أو وسط غير رياضي، أي لا وسط إطلاقا. فمن هنا يتبين أن فكرة الوسط عند أرسطو فكرة غامضة، إن لم نقل متناقضة، فلنضفها إلى سلسلة المتناقضات التي كشفنا عنها، خاصة فيما يتصل بتحديد صفة اللذة وصلتها بالخير. ” (14). إن الطريق إلى فك شفرة ماهية الفضيلة، لم يعد بالبساطة كما تصورناه، ولا تحديد الصلة بين ما هو لذة وما هو خير وما هو سعادة، ولا حتى مجرد توافق بينها جميعا، صار ممكنا في ظل هذا الطريق، أو هو طريق إعمال الفكر في فلسفة المعرفة، بحثا عن فلسفة الأخلاق، أو نظرية في الأخلاق، أو حتى علم الأخلاق. الدكتور عبد الرحمان بدوي أجرى عملية حفريات، أو هي عملية هدم بغرض نية البناء، لقد سلط شعاع العقل، وليس هذا بالأمر الهين البسيط، وهو ما لم نعثر عليه في موسوعات أخرى، على أغوار مقاربة أرسطو، وكأن المسألة تمت بعيدا عما ألفناه، خصوصا حينما أسقط فكرة الوسط الأرسطي في مسألة الفضيلة بحثا عن غايته التي لم يراها وهو ينظر من خلال مرآته العاكسة لكثير مما تخفيه الأغوار، الوسط الذي حاول الأستاذ بدوي استخراجه أو استخلاصه من بين الأنقاض، لكنه تأكد عدم حضوره أصلا، لا نظريا ولا حسيا، ولا سياسيا، أي أن أقسام الحياة التي أشار إليها أرسطو، خلت منه أبدا. غير أن الدكتور بدوي نفى كلية مسألة الوسط، وحتى المسافات التي يمكن أن يشغلها، أهو من باب إعمال الفكر على مستوى فلسفة المعرفة، أو هو من باب النظر العقلي الصرف؟ خصوصا حينما يختم الدكتور تحليله المنطقي بقوله: ” إلا أن من الجائز أن يسأل أرسطو فيقال له ـ كما سيفعل الأبيقوريون والرواقيون فيما بعد ـ أو ليس من الخير أن يكون الإنسان مكتفيا بذاته، وأن تكون حالة الاكتفاء الذاتي هي أعلى درجة بالنسبة إلى الرجل الفاضل؟ هنا يمكن أن يرد ـ على الطريقة الأرسطية ـ فيقال أن الإيثار ـ في هذه الحالة ـ أي التأثير أو الفعل في الغير، هو أيضا داخل في اللذات التي ليس من المستحسن أن يحرم منها الرجل الفاضل. ” (15). الاكتفاء الذاتي، أو انزواء الإنسان على نفسه وما يتصل به في حياته الخاصة، ليس مطلقا، فهو مخرج من حالة أشبه بحالة النفق المظلم، لا يدري المرء إلى أين يتجه، ولا يأمن حتى على حياته، في هذه الحالة، أليس من أولوياته الاهتمام بخاصة نفسه ومن هم في ذمته، أليس الانصراف إلى تدبر الطريق إلى النجاة مقدم على كل اهتمام، في هذه الحالة لا ينظر إلى سواه، ولا يلتفت إلى شؤون الناس، خصوصا إذا كان من الناس من تسبب في هذا الاستثناء. لذلك فإن الاكتفاء الذاتي، أو التوقف عند خاصة النفس، أو ما كان من الخاصة، ليس هو الأصل في حياة الإنسان، إن الأصل هو الاجتماع والتعارف والتفاهم والتطاوع والتناصح والتعاون، أما الاكتفاء، أو الانزواء، أو الاهتمام بما هو من الخاصة، أو حتى خاصة النفس، ليس سوى استثناء من الأصل الذي هو لب الحياة وجوهرها، في النظرية، وفي السياسة، وفيما هو من الحياة الحسية. لذلك فإن حاجة الإنسان إلى الأخلاق، ليس كونه إنسانا منعزلا في الطبيعة، كما هو الإنسان الطبيعي عند (جان جاك روسو)، ولا هو الإنسان المهتم بخاصة نفسه عند الضرورة، وهي ضرورة استثناء، في حالات قاهرة، حتى أن الإنسان في مثل هذه الحالات، لا يمكنه أن يستغني عن الناس الذين يدخلون تحت طائلة الخاصة التي تهدف إلى النجاة. لذلك ولذلك فقط تبقى الحاجة إلى الوسط الغائب في تحديد فلسفة المعرفة، حاجة الإنسان الذي لا يرى صورته في صورة الخير المطلق، ولا في صورة الشر المنبثق من كون الإنسان غير كائن ساكن، ولا هو صيرور الحركة، فهو كائن مخير، لا مجبر، له من الجبلة ما يقوم به قوامه، وله من ملكة العقل ما يرتب به أولوياته، وله من البصيرة ما يتبين به مصيره، لذلك فالطريق إلى الحد الوسط ليس مستحيلا، لكونه استحال عند روسو في حدود طبيعته، وعند أرسطو في فضيلته، و أبيقور في لذته و انجلز، في ماديته، وأفلاطون في مثاليته، وعند بدوي في مقاربته. الحد الوسط مطلب إنساني، لا ينبغي البحث عنه في حدود فلسفة المعرفة التي توقفت عن البحث، ولا في حدود الكنيسة التي غرقت في أغوار المتناقضات، التي لم تعد تنطلي حيلتها، حتى على الطفل في مدرسته رفقة معلمه الذي يبحث له عن طريق إلى الفضيلة، ولا في حدود القابلية للموت البطيء تحت وطأة الاستبداد. إن البحث عن الوسط أو تلك المسافات التي يحتاجها الإنسان للتوقف، أو ما يمكن أن نعبر عنه بالسكون الإيجابي، وهو سكون إرادي، هو وسط ممكن، أو هو حد، يمكن استخلاصه تبعا لعملية هدم وبناء تستهدفها رحلة الإنسان، ليس لكونه كائنا متغيرا، بقدر ما هو كائن فان، ولكون هذه الرحلة تستغرق زمنا ضمن الزمن الذي يستغرقه هذا الكون الفاني، ولكون الإنسان، يدرك أن رأس ماله في حدود الإمكان النظري والحسي والسياسي، هي إنسانيته التي تتضمن الخير والشر على حد سواء، ليس لأن الشر قائما لذاته، ولكنه بمثابة ضرورة الهدم من أجل البناء، أو الموت من أجل الحياة. في هذا المطلب بالذات، أجدني في حاجة إلى قليل من التهكم السقراطي، ليس لأن سقراط يقصد التهكم لذاته، إن سقراط يحاول أن يقترب منه محاوروه أكثر فيتأملون معه فلسفته، فهو يريد منهم مزيدا من الاهتمام بالإمكان الفكري الذي لا يتاح إلا لمن أعمل فكره، واقترب أكثر من ساحته، سقراط يربط بين الفضيلة والعلم، كيف ذلك؟ يقول الدكتور عبد الرحمان بدوي: ” بحث سقراط في الأخلاق بحثا عاما، بمعنى أنه نظر إلى الأخلاق من الناحية الصورية، فوضع المبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه، وبعد ذلك لم يعن أو لم يستطع أن يبين الفضائل المختلفة أو جزئيات الأخلاق. وهذا المبدأ هو قول سقراط أن الفضيلة هي العلم، وأنه بغير العلم لا يتم العمل، وحيث يوجد العلم يوجد العمل، فأثبت القضية الأولى وهي أنه لا عمل بدون علم، بأن قال إن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الغاية التي ينبغي الوصول إليها إلا إذا كان عالما بالوسائل التي تؤدي إلى هذه الغاية. فتحقيق الغاية إذن ـ أي العمل ـ يقتضي أولا معرفة الوسائل التي تؤدي إلى هذا التحقيق، أي أن العمل يقتضي العلم مقدما. وأثبت الثانية وهي أنه حيث يوجد علم يوجد قطعا عمل، بأن قال إن الإنسان لا يمكن أن يفعل الشر وهو عالم بأنه يفعل الشر، وأن الإنسان ليس شريرا بطبعه، وإنما الشر، مصدره الجهل، ولهذا فإن الإنسان إذا علم أن هذا الشيء، نافع له ومفيد، فإنه لا بد أن يعمله ولا يؤجله. وهذا العلم فوق كل الشهوات والأهواء التي يمكن أن تصطرع معه، ومعنى هذا أنه متى يوجد العلم يوجد العمل قطعا. وهكذا اثبت سقراط المبدأ الرئيسي الذي يجب أن تقوم عليه الأخلاق. بل إن أبعد الفضائل، في الظاهر، عن أن تكون مرتكزة على العلم، وهي فضيلة الشجاعة، هي أيضا تقوم على العلم. فإن أشجع الناس هو من يعرف ماهية الخطر الذي هو مقدم عليه، ويعرف ما هي الوسائل التي تؤدي إلى درء هذا الخطر. وإذن ففضيلة الشجاعة تقتضي العلم هي الأخرى. وما دام مرجع الفضائل إلى العلم، فمن الممكن أن نقول بوجه عام أن كل فضيلة علم: فالتقوى، مثلا، هي العلم بما يجب على الإنسان نحو الله، والعدالة هي العلم بما يجب على الإنسان نحو الآخرين، وضبط النفس هو العلم بما يجب على الإنسان نحو نفسه، وهكذا باستمرار، نجد أن كل فضيلة هي علم. ولهذا كانت الفضيلة واحدة. فإذا انتقلنا من هذا المبدأ العام الصوري وهو أن الفضيلة علم إلى بيان ماهية هذا العلم، وجدنا سقراط يجيب إجابة عامة أيضا صورية فيقول أن الفضيلة هي الخير. لكن ما الخير في نظره؟ الخير هو ماهية الشيء، بوصفه غاية، وفعل الخير هو تحقيق ماهية الشيء كما هي في طبيعة الشيء، ولم يزد سقراط الأمر تحديدا. ومع ذلك يمكن بيان بعض تفاصيل هذه الأخلاق: أ ـ فسقراط يطلب إلى الفرد كغاية له في الحياة أن يكون مكتفيا بذاته، وألا يكون عبدا لشيء آخر. ب ـ لكن ليس معنى هذا أن ينعكف الإنسان على نفسه وينصرف عن الآخرين ويستقل بذاته استقلالا تاما، بل لا بد له أن يسعى كي يكون على اتصال بالآخرين وهذا الاتصال هو الصداقة، والصداقة كانت أمرا ضروريا بالنسبة إلى سقراط تبعا لنظريته في العلم، لأنه ما دام يقول أن العلم يتم عن طريق الحوار، أي باجتماع الناس للحوار، فهو يتم إذن بالصداقة. وهذه الصداقة تستلزم الحب وهذا الحب ـ كما تصوره سقراط ـ يجب أن يكون الحب المتبادل المشترك، ومعناه الرغبة في نفع الآخرين والانتفاع بما يقدمونه. ج ـ كذلك كان سقراط يطالب كل إنسان بأن يؤدي واجبه نحو وطنه ونحو الدولة. ومن دعا إلى إطاعة القوانين بوصفها المقياس للفضيلة. وعليه أن يشترك في كل ما تطلبه الدولة منه.” (16). إن أول ملاحظة في قراءة موقف سقراط، هو حول ماهية العلم، هل هو فعلا ما ذهب إليه الدكتور بدوي في تحليله، كون: (التقوى، مثلا، هي العلم بما يجب على الإنسان نحو الله، والعدالة هي العلم بما يجب على الإنسان نحو الآخرين، وضبط النفس هو العلم بما يجب على الإنسان نحو نفسه، وهكذا باستمرار، نجد أن كل فضيلة هي علم. ولهذا كانت الفضيلة واحدة). إن العلم بما يجب على الإنسان نحو الله، ليس هو التقوى، بل هو مقدمات في طريق التقوى، فكم من الناس يعلم عن طريق رسل الله، ما يجب عليهم نحو الخالق سبحانه، إلا أنهم لا يسلكون طريق التقوى، بل يسلكون طريقا آخر بالرغم من علمهم، وهذا بدوره يفتح الباب باتجاه فهم جوهر ماهية العلم أكثر، هل هو مجرد العلم، أي تعرف الإنسان على واجباته بهذا الاتجاه، أو باتجاه آخر، كأن نتكلم عن واجباته نحو الجار، أو واجباته نحو والديه، أو واجباته نحو المستخدمين لديه؟ أم أن العلم الذي كان يبحث عنه سقراط، أو أنه فعلا أدرك الحاجة إليه، هو ليس مجرد معرفتنا بالواجبات؟ نفس الشيء بالنسبة للعدالة، وضبط النفس، والتقيد بالقوانين، وتقدير درجة حب الوطن، والالتزام تجاه مواطني الدولة، وكذلك القول: (وجدنا سقراط يجيب إجابة عامة أيضا صورية فيقول أن الفضيلة هي الخير. لكن ما الخير في نظره؟ الخير هو ماهية الشيء، بوصفه غاية، وفعل الخير هو تحقيق ماهية الشيء كما هي في طبيعة الشيء، ولم يزد سقراط الأمر تحديدا). قول سقراط: الفضيلة هي الخير، لا يريد بأي حال أن يساوي بين الفضيلة والخير، ولا هو يريد أن يفسر الفضيلة بالخير، فقط هو يريد بذلك، أن الفضيلة وجه من أوجه الخير. وإذن فالحاجة إلى علم تتحقق معه التقوى والعدالة وضبط النفس وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق، وليس فقط ذكر المقدمات التي لم تعد بخافية عن الإنسان، بل هي من قبيل البديهيات. وبخصوص انكفاء الإنسان، فهي مسالة تجاوزها الزمن، فلم يعد يلتفت إليها الفكر الإنساني، لأنه أدرك ما فيه الكفاية أن المحك الحقيقي لاختبار عالم القيم، لا يتم إلا في حدود الاجتماع والتعارف، وتقابل المصالح، واختلاف الرؤى والوجهات. بعد سقراط، وأرسطو، يمكننا مرافقة الفيلسوف (برغسون) المولود سنة 1859 والمتوفى سنة 1941، حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1928. يقول بخصوصه الدكتور عبد الرحمان بدوي: ” وهنا نصل إلى الأخلاق عند برجسون، وكان الناس ينتظرون آراءه الأخلاقية منذ زمان طويل، لأنهم رأوا أن فلسفته لا بد أن تكمل بمذهب في الأخلاق. فأصدر في سنة 1932 كتابه المنتظر في الأخلاق وفي الدين بعنوان: (ينبوعا الأخلاق والدين). وقد جمع بين الأخلاق والدين، لأنه يرى أن لكليهما ينبوعين هما: الانفتاح، والانغلاق. فالأخلاق أخلاقان: أخلاق مفتوحة، وأخلاق مغلقة (أو منغلقة)، والدين دينان: دين مفتوح، ودين مغلق. فلنبدأ بالكلام عن مذهبه في الأخلاق: وكما ينبغي أن تقوم عليه كل أخلاق، وهو الحرية، يقيم برجسون مذهبه في الأخلاق على أساس توكيد معنى الحرية الإنسانية وفي هذا يقول: إن كل جدية الحياة تأتيها من حريتنا. فما يصدر عنا، وما هو لنا، ذلك هو ما يهب الحياة مسيرتها الدرامية أحيانا والجادة عامة. لكن إذا كنا أحرارا في كل مرة نريد أن ندخل في داخل أنفسنا، فإن من النادر أن يحدث لنا أن نريد ذلك. والفعل الإرادي يؤثر في من يريده، ويعبر بقدر ما في أخلاق الشخص الذي يصدر عنه هذا الفعل. ويحقق، بنوع من المعجزة، هذا الإبداع للذات بواسطة الذات، الذي يبدو أنه الغرض من الحياة الإنسانية. وعلينا ألا نجعل جهودنا تسيطر عليها العادة، التي هي لون من الآلية. وعلى الإنسان أن يصارع سيطرة الآلية الناشئة عن العادة، حتى تظل الحرية موفورة نشيطة فعالة. ولقد قلنا أن من رأي برجسون أن للأخلاق ـ كما للدين ـ ينبوعين: الانفتاح والانغلاق. أما الأخلاق المغلقة فهي أخلاق المجتمعات المنغلقة ، الشبيهة ـ من بعض النواحي ـ بخلية النحل أو بيت النمل.. وكان برجسون في (التطور الخالق) قد بين أن تطور المملكة الحيوانية قد تم على خطين متباينين: أحدهما، لدى الحشرات، أدى إلى الغريزة، والثاني، لدى الإنسان، أدى إلى العقل ـ وبفضل هذا الأصل المشترك ـ يشارك الإنسان في نفس التضامن بين الجزء والكل كما نجده، في عالم الحشرات، بين نحل خلية، أو بين نمل بيت نمل، مع هذا الفارق وهو أن ما يتم في الجماعات الحيوانية غريزيا، أي بالضرورة، ندين به للعادة في الجماعة الإنسانية، حتى أن نسبة الالتزام إلى الضرورة كنسبة العادة إلى الطبيعة. ونحن في الأوقات العادية نمتثل الالتزامات أولى من أن نفكر فيها. إذ العادة تكفي وفي الغالب لا يكون علينا إلا أن نرسل أنفسنا على سجيتها كي نعطي المجتمع ما ينتظره منا. والواجب، مفهوما على هذا النحو، يتم آليا دائما تقريبا. والإلزام الأخلاقي ليس إلا الضغط لغريزة الذي يمارسه المجتمع على الفرد بواسطة العادة، وما هي إلا محاكاة للغريزة. وما يميز المجتمع المغلق، وهو المقدر لنا بالطبيعة، هو أنه في كل لحظة يشمل عددا معينا من الأفراد، ويستبعد الآخرين، والغريزة الاجتماعية، وهي أساس الالتزام الاجتماعي، تستهدف دائما مجتمعا مغلقا، مهما يكن اتساعه: الأمة، الوطن، الخ. ولا تستهدف أبدا الإنسانية في مجموعها. ذلك أنه بين الأمة، مهما تكن كبيرة، وبين الإنسانية، هناك كل المسافة التي تفصل بين المتناهي وبين اللامحدود بين المغلق وبين المفتوح. والفرق بين المغلق والمفتوح فارق في الطبيعة، وليس في الدرجة، ولا ينتقل الإنسان من التعلق بالوطن إلى حب الإنسانية. ومن ذا الذي لا يرى أن التماسك الاجتماعي يرجع، إلى حد كبير، إلى الضرورة التي تشعر بها الجماعة للدفاع عن نفسها ضد الآخرين، وأنه أولا ضد سائر الناس يحب المرء الناس الذين يعيش معهم؟ إننا نحب ـ بالطبع ومباشرة ـ أهلنا ومواطنينا، بينما حبنا للإنسانية هو حب مكتسب وغير مباشر، ويمثل نوعا آخر من الأخلاق يختلف تماما عن حبنا للأهل والوطن. إنه يمثل نوعا آخر من الالتزام يوضع فوق الضغط الاجتماعي. وأخلاق المجتمع المغلق تكون أصغر وأكمل كلما رجعت إلى صيغ لا شخصية، أما الأخلاق الكاملة فينبغي أن تتجسد في شخصية ممتازة تصير قدوة تحتذى. ومن خلال الله، وفي الله، يدعو الدين الإنسان إلى حب الجنس البشري. وفي كل زمان ظهر أناس استثنائيون تجسدت فيهم الأخلاق الكاملة. فقبل القديسين المسيحيين عرفت الإنسانية حكماء يونان، وأنبياء إسرائيل، ورهبان البوذية، وغيرهم. والقديسون ليسوا في حاجة إلى الوعظ، بل يكفيهم أن يوجدوا، ذلك أن وجودهم نداء ودعوة. ” (17). الفيلسوف برغسون، ينحدر من أصول يهودية، والداه طبعا، الأب مواطن بولندي، والأم مواطنة انكليزية، برغسون هذا، يعرف ما يقول، كلماته محسوبة، على قدر كبير من الدقة، لها أساس، ولها أبعاد، أمثاله لا يستهان بقوة إطلاعهم وعمق تأثيرهم، ينطلق من أن الوطن، ليس هو الأمة، فمن فهم فهمه، ينبع التمييز بين ما هو وطن، وما هو أمة، وعلى هذا الأساس يقوم مفهومه للانفتاح وللغلق، وبناء على ذلك تتحدد طبيعة مجتمعه المنفتح، ومجتمعه المغلق. لقد قال بصريح العبارة، ليس من باب التكرار، فهو لا يكرر، إنما على سبيل التأسيس لمجتمعه المنغلق، ولأمته المنفتحة على نفسها، المنغلقة على الآخر. يقول: ” هو أنه في كل لحظة يشمل عددا من الأفراد ويستبعد الآخرين، والغريزة الاجتماعية، وهي أساس الالتزام الاجتماعي، تستهدف دائما مجتمعا مغلقا ن مهما يكن اتساعه: الأمة، الوطن، الخ. “. وإذن، فالأمة بالنسبة لبرغسون، يجب أن تتضمن الوطن، والوطن ينبغي أن يلتزم بضوابط ومقتضيات الأمة. ووطن برغسون ليس كأمته. أما الذين استباحوا عقولهم، قبل ضمائرهم، فهم، في أحسن الأحوال، لا يفرقون بين بيت النوم وقاعة الضيوف. برغسون، ومن سار على نفس الدرب يدركون فعلا، معنى الأمة، لذلك نجده في حديثه عن الاستثنائيين، يذكر: أنبياء بني إسرائيل، الذين لا يحتاجون وعظا، لأنهم بمثابة الجوهر، أو الصفوة، التي ينبغي أن تنغلق، وأن أخلاق المجتمع المختار منغلقة، لا ينبغي أن تتأثر بالغريزة، حتى تبقى في حدود الأمة التي يقف أمامها برغسون وكل (المؤمنين) سواء، مطيعين إلى أبعد حد. أما الحرية كأساس لقيام الأخلاق، فهي حرية المجتمع المنغلق الذي يشبهه بخلية النحل، أو بيت النمل، فبقدر ما يحرص على انغلاق المجتمع، وبالتالي انغلاقه على الأخلاق، ينبغي الحرص أكثر على حرية هذا البيت، أو الخلية. لذلك يقول: ” إننا نحب ـ بالطبع ومباشرة ـ أهلنا ومواطنينا، بينما حبنا للإنسانية هو حب مكتسب وغير مباشر، ويمثل نوعا آخر من الأخلاق يختلف تماما عن حبنا للأهل والوطن. إنه يمثل نوعا آخر من الالتزام يوضع فوق الضغط الاجتماعي. “. برغسون يوجه خطابه المعرفي بصورة مباشرة، لكنه يستهدف به فئة بعينها، يدرك جيدا استعداداتها ودرجة فهمها وتقبلها. جانب مهم في ما ذهب إليه برغسون، هو الإنسان الآلة، وقلما تجد واحدا من مجتمع برغسون المنغلق، آلة. كلامنا عن الآلة مثل حديثنا عن العبد، فهو كالآلة، أنتم تعرفون الآلة، وتعرفون حركتها وسكونها، هل الآلة مختارة، العبد كذلك، حتى أنك إذا حررته، لن يستغرق في التفكير في حريته، فهو لن يفكر سوى في البحث عن دائرة استعباد أخرى يملأ بها فراغه، أو حاجته التي صارت ملحة. برغسون، حينما يتحدث عن الحرية كأساس للأخلاق، فهو لا يريد التحرر من الالتزام، أبدا، إنه يؤكد على الانضباط والحضور، لا يريد الانسلاخ والضياع، أو الانصراف عن تطلعات المجتمع المنغلق. يؤكد ذلك: ” وأخلاق المجتمع المغلق تكون أصغر وأكمل كلما رجعت إلى صيغ لا شخصية. “. وقوله: ” وعلينا ألا نجعل جهودنا تسيطر عليها العادة، التي هي لون من الآلية. وعلى الإنسان أن يصارع سيطرة الآلية الناشئة عن العادة، حتى تظل الحرية موفورة نشيطة فعالة. “. برغسون، بحق، كثير الحفريات، خصوصا، إذا تعلقت المسألة بعالم الأخلاق، فما بالك إذا تعلق الشأن بمسألة الدين، والسياسة، فهو من الفلاسفة المتميزين فعلا، إلا أننا لم نلمس لديه الحاجة في بذل المزيد من الجهد للبحث في تحديد مدلول الأخلاق، لأنه يعي أهمية بقاء، مثل هذا السؤال من غير إجابة، لأن مثل هذا الغموض والتعميم، يخدم المجتمع المنغلق أكثر. * ماذا قال ابن سينا في سؤال الأخلاق؟ يقول ابن سينا: ” الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة البشرية. والحكمة المتعلقة بالأمور النظرية التي إلينا أن نعلمها وليس إلينا ألبتة أن نعملها ـ تسمى حكمة نظرية. والحكمة المتعلقة بالأمور النظرية التي إلينا أن نعلمها ونعملها تسمى حكمة عملية. وكل واحدة من الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة: فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية. ومبدأ هذه الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تستبين بالشريعة الإلهية، وتتصرف فيها بعد ذلك القوة البشرية من البشر بمعرفة القوانين العملية منهم وباستعمال تلك القوانين في الجزئيات. والحكمة المدنية فائدتها أن تعلم كيفية المشاركة التي تقع فيها بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان. والحكمة المنزلية فائدتها أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم به المصلحة المنزلية. والمشاركة المنزلية تتم بين زوج وزوجته، ووالد ومولود، ومالك وعبد. وأما الحكمة الخلقية ففائدتها أن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، وتعلم الرذائل وكيفية توقيها لتتطهر عنها النفس. ” (18). الملاحظ: هو تفسير الأخلاق بالفضيلة، والطريق إلى الفضيلة هو العلم، والغاية هي تزكية النفس، وفي مقابل ذلك العلم بالرذائل للوقاية منها. في العموم لا يوجد فرق كبير مع ما ذهب إليه سقراط من قبل، خصوصا أن ابن سينا يفرع الأخلاق عن الحكمة، وتحديدا الحكمة العملية، لأنه يقسم الحكمة إلى حكمة نظرية، وحكمة عملية. ولعل ابن سينا كان ميالا إلى ما هو تجريدي أكثر، خصوصا حينما يحاول تحديد مدلول الشر، وهو ما ميزه فعلا، حيث يقول: ” فالشر يطلق إذن،إما على أمور عديمة مثل الجهل الذي هو عدم العمل، أو تشويه الخلقة الذي هو عدم استواء البنية، وإما على أمور وجودية هي الحابسة للكمال عن مستحقه مثل السحاب الذي يمنع شروق الشمس عن النبات المحتاج إلى حرارتها.”(19). إن مثل هذه الأسئلة، في مقاربة الشر ستتفرع، خصوصا أن الحكمة عند سقراط، أو أرسطو أو ابن سينا أو ابن رشد، أو كانت، أو غبرسون، سوف لا تنضبط في مقاربة المسألة، خصوصا إذا تداخلت اللذة مع السعادة، والخير مع الفضيلة، واشترطوا في ذلك علما. هل الموت الذي يرغم الأم على ترك رضيعها وصغارها شر، وما حدود الألم في ذلك، أهو نفسه حين نغتصب من الناس أرضهم ونمنعهم من حقهم في الحياة، نحرق أطفالهم ونساءهم، كي نتلذذ على حسابهم، أيها هي العديمة، وأيها الحابسة للكمال؟ أليست الحرية مطلب إنساني، وضرورة من ضرورات بناء مكارم الأخلاق، هل الحكمة كفيلة بتحرير الإنسان من تأثير العادة التي استوعبت كل مسافات الفضيلة في حياة المجتمعات المنغلقة، بتعبير برغسون، والنظر إلى الآخر نظرة استعلاء؟ وهل يستطيع الحكماء، في حدود المجتمعات المنغلقة، تحديد مقياس، أو ميزان، نزن به درجة الانفتاح الأخلاقي وحدوده، كي تتحقق السعادة، ويعم الخير؟ هل بيت النحل منغلق أخلاقيا، أم وظيفيا، ما حدود الانغلاق والانفتاح في الانتفاع بالعسل، وما حدود ذلك في الانتفاع بسلوك النمل، فنتعلم منه الأناة والصبر، ما هو الباعث والدافع، والمعدم أو العديم، والحابس للكمال؟ أين تقف الحكمة، والعادة، والعلم، والطبيعة، والفطرة، والغريزة، والعقل؟ سؤال الأخلاق، لا يسمح بالاستغراق أكثر، والحاجة إلى مقاربة، ما هو من المدلول، وما هو من الغاية، صار أكثر إلحاحا، خصوصا إذا وصلنا بين ما هو من النظر وما هو من الأثر، ما هو من العقل وما هو من الروح، ما هو من الحاضر وما هو من التاريخ، ما هو من الطبيعة وما هو من النفس، ما هو من الدين وما هو من العرف، ما هو من السياسة وما هو من العدل، من ما هو محفوظ، ومن ما هو محرف.

*ابن رشد: المتأمل في منهج ابن رشد، يدرك لا محالة، عزوفه عن التكرار، خصوصا إذا كانت المادة التي بين يديه مزجاة. أهم ما ذكر عنه في سؤال الأخلاق قوله:
ـ الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل.
ـ الله لا يمكن أن يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفة لها.
فهو إن دلنا، فإنما لأهمية إعمال الفكر، والاستزادة من منابع الشرع. وأن الطريق إلى مكارم الأخلاق، لا يتم إلا بهما معا. وأن الحاجة تبقى ملحة إلى كثير من التأمل والتفكر والتدبر، وفي الوقت نفسه، إلى تمرين النفس وتأديبها. فلا معنى لنظر من دون عمل، ولا فائدة من استزادة من دون اختبار.

*رؤية في سؤال الأخلاق: أو هي رؤية في تحديد المدلول والغايات. أختم بالقول: وهذا التعريف الشامل للأخلاق هو الذي يحدد مفهومها، فهي جامع متميز، يجمع بين عقل الإنسان وبصيرته، يصل بين فطرته التي فطره الله عليها، وصبغة الله النافذة إلى القلوب، وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه مقومات العقل ومقومات الروح، أي استجابة الإنسان وإجابة الخالق، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المقومات جميعا في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تتطلبها الحاجة إلى الكمال.
 فإذا حصرنا تفكيرنا على ما يتصل بسؤالنا، ودققنا النظر في نص الحديث النبوي الشريف: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” نرى أن الإنسان هو الوعاء، فهل خلق الإنسان من دون سمع، ومن دون بصر، ومن دون إحساس، يتذوق، يشم، يلمس، يتنفس. هل الإنسان اكتسبها من مجاله الحيوي؟ هل زوده بها والداه، هل حضي بها إنسان وحرم منها آخر؟ أبدا، تساوى فيها وأمامها الخلق جميعا، وإذن، فهناك خالق، هل هذا الذي حضي به الإنسان من لدن الخالق، خير أم شر؟ هو خير بكل تأكيد، هل يعارض في ذلك اليابانيون، أو الكوريون، وهم أكثر الناس تنظيما وإبداعا واختراعا؟ هل يمكن أن يختلف في ذلك غبرسون مع أرسطو وسقراط، أو كانت مع هيغل ونيتشه؟ أبدا لا تعارض في ذلك بين عقل ونقل، ولا بين نفس وطبيعة، ولا بين فلسفة وتاريخ، ولا بين بادية وحضر. الجميع متفقون، وكل المخلوقات، من دون الإنسان، تسبح بحمد الخالق. فإذا تحقق الجميع، من دون منازع من أن الخالق عدل في ذلك بين خلقه، فهل يستطيع إنسان البرهنة على تعدد الخالق؟ ماذا يحدث حينها، ما هي الصورة التي يكون عليها الخلق، وماذا يحدث بين المتعدد في حقيقة الليل والنهار وتعاقبهما، والشمس والقمر وتسبيحهما؟ إن كل ما تم ذكره هو من باب الإعجاز الذي انفرد به الخالق. ذلك الذي سماه الخالق ” فطرة “: ” فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” الآية 30 من سورة الروم. ثم ماذا بعد ذلك من أين لك أيها الإنسان بملكة العقل، مصدر تأملك وتفكرك وتدبرك، من قدرك على التمييز بين الألوان، والجميل والقبيح، والضار والنافع، من يستطيع، غير الإنسان، التمتع بهذه الملكات؟ ثم ما هو المصدر الذي تستقي منه رأفتك ببنيك، وبالضعيف، والمحتاج، من أين تنبع هذه الشفقة ومثل هذا الشعور؟ من رغبك في الاستقامة، ومنعك من اغتصاب حق الناس في الحياة، من أوقفك عند حدودك فعرفت قدرك ونصيبك، من قدرك على القناعة بنصيبك وبقسمتك، وكره إليك دماء الناس وأموالهم وأعراضهم؟ من قدر صلاح الدين ومرافقيه، يوم فتحوا القدس، فلم تسفك قطرة دم واحدة؟ ومن تسبب، حين استولى الإفرنج على القدس، في مقتل سبعين ألفا من الأبرياء في يومين؟ من، ومن؟ كيف، وكيف؟ إذن الوعاء في مسألة الأخلاق هو الإنسان، والذي ملأ هذا الوعاء، أو زوده بما يحتاج، أليس هو خالق الإنسان، كما اتفقنا جميعا، واتفق معنا سقراط، وأرسطو طاليس، وابن رشد، وكل الحكماء؟ إذن هناك وعاء، وهناك زاد. إن مثل هذه المقاربة تحتاج إلى ثقة أكثر لمقاربة هذا السؤال، نرى أن الأخلاق وعاء وزاد، لكن هل هذا كاف؟ الوعاء، بل كل وعاء، صار على الحالة التي عليها كل إنسان: ” يولد المولود على الفطرة “. بعد هذا التحديد الذي صار بسيطا، ما مصير هذا المولود، يخبرنا خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلمنا، لكن هل هو علم مجرد، هل هو خبر مثل بقية الأخبار، أو معلومة يضيفها الإنسان إلى معلوماته؟ أبدا، إنه علم مصدره الخالق، والخالق أدب نبيه ورسوله وصبغه بصبغته، لذلك فجوهر هذا العلم هو الإيمان بالله وحلة هذا العلم هو الأدب مع الله سبحانه، ووقود هذا العلم هو توحيد الله، وروح هذا العلم هو صبغة الله. مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه جميعا في كيان واحد تحدثه عملية التركيب التي تتولد عنها مكارم الأخلاق. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “. عند هذا الحد يمكن للسائل الكريم، أن يتساءل عن اللذة وما اتصل بغرائز الإنسان؟ هل اقتصر تزويد الإنسان، كوعاء، بما سبق إليه الذكر، من أين للإنسان بتلك الغرائز والميول، من أين اكتسبها، أهي صناعة إنسانية، أم هو كنز من كنوز الأرض؟ المرأة في حاجة إلى الرجل، والرجل في حاجة إلى المرأة، من دون تلك العلاقة، لا يمكن استمرار حياة البشر، من أوجد ذلك، من زود الإنسان بذلك؟ أهي شركة ألمانية، أم يابانية،أم هو مشروع فضاء؟ أو ليس هو الخالق الذي استحال تعدده، ومعه استوفى الإنسان حاجاته، ومعه تحددت حاجة الإنسان إلى رد الجميل، ورد الجميل، ليس سوى التأدب مع الله، وإذا كان الخالق قد زود مخلوقه بكل هذا الخير، أليس من اللائق أن يتأدب الإنسان مع أخيه الإنسان. الله عدل بيننا، ونحن نأبى ذلك، أو ليس من اللائق، أن يعدل الإنسان، فيتحلى بمكارم الأخلاق. لذلك اعلم أيها الإنسان، أنه يستحيل أن تجمع في حياتك، بين العدل، والظلم، فتكون جائرا، بدل أن تكون مقسطا، وباغيا بدل أن تكون منصفا؟ من الذي أودع فيك وزودك بملكة الاختيار ولم يجبرك على صفة بعينها، أنت مختار في ذلك كله، أو ليس ذلك من عدل الخالق فيك، فكيف تجرؤ على المخالفة والإنكار؟ عند هذا الحد يمكنكم مراجعة حدود اللذة والسعادة والخير، عند أرسطو وسقراط وكانت، والبحث من جديد عن الوسط الأرسطي الذي لم تسعفه النظرية الرياضية في العثور عليه بشهادة عبد الرحمان بدوي. في هذه العجالة من أمري، وفي هذا الخضم من شدة التوتر، أجد نفسي في حاجة إلى الاستئناس، لأن الرحلة في حينها، ليست حسية، إنها رحلة من نوع آخر، رحلة ضمن ما تدركه القلوب، ولا تراه العيون المبصرة، رحلة رفقة أستاذنا، الذي رحل عن الحس ولم يرحل عن الروح، رحل عن الأنظار ولم يرحل عن العقول، لا نجده حاضرا بين الساسة، ولا بين المكتفين بذاتيتهم، أو بخاصة أنفسهم، ليس حاضرا سوى مع فئة خاصة، ليس لخصوصية العرق ولا الجنس ولا اللون ولا حتى مجرد الانتساب إلى دين، فهو حاضر أين ينبغي الحضور. إنه الأستاذ مالك بن نبي، الذي لقبه البعض بفيلسوف الحضارة، وأحب أن أطلق عليه: فيلسوف الحياة، إنه مالك من خلال حضوره وخلود أفكاره بيننا في حدود هذه الدنيا الفانية. نجده دوما إلى جانبنا، يحثنا على القراءة، لكن قراءة حضور وعرفان، قراءة استجابة وحاجة وإذعان، قراءة أمن وأمانة وأمان، لذلك ولذلك فقط يمكننا أن نستأنس بمالك في البحث عن سؤال الوسط الغائب، وكأننا نتوخى عملية حفريات. الوسط هذا، أين نجده، فهو ضالتنا كما كان بالنسبة لأرسطو، وأيضا عند الدكتور عبد الرحمان بدوي، وإن اتصل عند أرسطو بالحكمة، والحكمة حكمتان، حكمة في حدود التأمل والنظر، وحكمة في حدود البحث عن قارب نجاة، وقد أعيته خطوب الحياة، من شدة الظلم والجور والحيف والبغي والمكر والخداع. الوسط متصل بكيان الإنسان، بفطرته، بسمعه، ببصره، بفؤاده، بما جبل عليه من اختيار، لم تسلب منه حريته وصبره وزينته وجماله وأمنه وأمانه وطمأنينته، إلا حينما فقدنا ماهية الوسط الذي بحثنا عنه رفقة أرسطو وعبد الرحمان بدوي، ولم نعثر عليه، كاد يتحول إلى نقطة، وحتى النقطة غابت، لأن الرياضيات لم تسعفنا، لم تقبل أن تكون في متناول جور الإنسان، لأنه رأى لذته وسعادته بعيدا عن تلك النقطة التي حاول الإنسان الجائر أن يحملها نتائج حيفه واستكباره. أتدرون لماذا كل ذلك؟ لأننا لم نبحث عن ماهية الوسط في حدود رأس مال الإنسان، أو ليس رأس مال الإنسان هو إنسانيته، لذلك ينبغي إعادة الكرة في تحديد مدلول الأخلاق، فنحددها دون ربطها بأي مفهوم آخر، كاللذة أو السعادة، أو حتى الفضيلة والخير، فنتأملها في أعم وجوهها، قبل أن نربطها بأي مقياس. لذلك وجب اعتبار الأخلاق من ثلاث زوايا:

1 ـ الأخلاق كشعور نحو الـ (أنا).
2 ـ الأخلاق كشعور نحو الآخرين.
3 ـ الأخلاق كمجموعة الشروط الفطرية والروحية والاجتماعية اللازمة لتكوين ونماء هذا الشعور في الإنسان.

فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن فعلا مقتضيات الأخلاق الذاتية والموضوعية، أي كل الاستعدادات النفسية أو التي تحتاجها النفس الإنسانية التي تترجم الحاجة إلى الأخلاق، والعدة التي تستند عليها مكارم الأخلاق. فلا يمكن أن تتحقق الأخلاق كواقع اجتماعي، اقتصادي، وسياسي، إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء شخصية الإنسان. وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة، على خلاف ما كان يتصوره (روسو) بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين. وإذن فإن إشعاع هذا التقدير الجديد، بالمصطلح النفسي: الحد الوسط بين طرفين، أو مسافة بين مسافتين، كل واحد منهما يمثل نقيضا بالنسبة للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور الإنسان المظلوم من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور الإنسان الظالم من ناحية أخرى. الحد الوسط، هو الإنسان (الحر) أي الإنسان الجديد الذي تتجسد فيه، فكرا وممارسة، مكارم الأخلاق والتزاماتها، فهو الوسط، أو الحد الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات.ولهذا المعنى تجلياته، خصوصا، حينما يعتبر الفيلسوف برغسون، الحرية أساسا لقيام الأخلاق، من الأمثلة الدالة على هذا المعنى: قول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ” أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. “. راجع السيرة النبوية لابن هشام. واعلم أن هناك من يغمض عينيه، فلا يبصر سوى كلمة ” جهاد “، المسألة واضحة كل الوضوح لمن أراد أن يطلع، فقد تم التطرق إلى ذلك تحت عنوان: سؤال القتل والقتال بين المدلول والغايات ـ منبر حر الهوقار ـ إن سيدنا أبي بكر يدلنا، فكرا وعملا، على أهمية التربية بالقدوة، فالقدوة تغنينا عن كل ما سواها. وبخصوص الحرية، والعبودية والاستعباد، يمكن أن نستحضر مثالنا من (يثرب) وما أدراك ما يثرب، يثرب يمكن أن تعطينا إجابة شافية وكافية، حول ما ذهب إليه (برغسون) في حديثه عن المجتمع المنغلق، والمجتمع المفتوح، وبالتالي الأخلاق المنغلقة، والأخلاق المفتوحة. يثرب التي هاجر إليها الأوس والخزرج 300 ميلادية (شمال مكة)، وكان، قد سبقهم إليها اليهود، الذين بينهم، وبين الأوس والخزرج نزاع وصراع، سرعان ما تغيرت طبيعته (صناعة اليهود)، فتحول إلى صراع بين الأوس والخزرج (الإخوة) نتيجة توظيف اليهود ما أدركوه ووقفوا عليه من تناقضات، للحيلولة دون اجتماع قوة القبيلتين معا، نفسه هو الأسلوب الذي اعتمده اليهود، فيما بعد. إن الحقيقة التاريخية التي كثيرا ما تغيب عن أفهامنا، هي أن اجتماع المسلمين في المدينة المنورة، مهاجرين وأنصارا، لم تمليه عليهم ضرورة الاجتماع والتعارف فحسب، ذلك أن اجتماع المهاجرين في مكة، من قبل، ضمن قريش، يغنيهم عن كل اجتماع، إذا اعتبرنا المقياس في ذلك هو مجرد التعارف والاجتماع، خصوصا وقد كان لهم ضمن قريش من القوة والمنعة ما يغنيهم في مواجهة تحديات الطبيعة وتحديات باقي القبائل والتجمعات الأخرى. والشيء نفسه بالنسبة للأنصار (الأوس والخزرج) في يثرب. إن الدافع الوحيد هو أحكام السماء التي ترجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد أقام صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة المنورة وبناه، فوسع الجميع، بما فيهم اليهود، وعم نوره وعدله الجميع، فلم يكن مجتمعا مغلقا، ولم تكن أخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أخلاقا مغلقة، أو منغلقة، وفق تعبير (برغسون). فكان مجتمع يثرب (المدينة المنورة) مجتمعا مفتوحا يسع الجميع، النموذج الذي لم يشهد الإنسان له مثيلا، في الوقت الذي عانت فيه الإنسانية الكثير تحت وطأة الاستبداد والاستعباد. فلا اليونان، ولا الرومان، ولا العرب، تمكنوا من وضع مبدأ لتحرير الإنسان من دائرة الاسترقاق. المبدأ جاءت به أحكام السماء، التي ترجمها نبي الرحمة ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فاستهدف بها تقويم الإنسان، محررا إياه من عبادة الآلهة المزيفة والمتعددة، حيث كان لكل فئة إلهها (الوثنيات) تتصوره، أو تصنعه، وفق ما تمليه عليها التخيلات والأهواء، في جاهليتها. المبدأ ذاته، استلزم واقتضى ـ في إطار عملية التقويم ـ والتخلية والتربية، والتصفية والتحلية ـ وفق تعبير الشيخ الألباني ـ رحمه الله. اقتضى تحرير الإنسان من دائرة الرق وقيوده، فتحقق ذلك بصفة تدريجية وحدث على إثرها التحول الأول والفريد من نوعه في تاريخ الإنسانية، وعلى مستوى الفكر الإنساني برمته، من خلال تفاعل العقل مع الهدي الأزلي الخالد. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لم يعتمدوا على عقولهم وخبراتهم، وحسبهم ونسبهم، فحسب، في تحديد الأساليب والإجراءات التي يمكن، من خلالها بناء وتحقيق مجتمع إنساني صالح، منفتحا على الآخر إلى أبعد الحدود، لقد كانت أحكام السماء هي الموجه والمؤطر، وفق ما تقتضيه سنن الكون ونواميسه، بداية بتحديد القيمة الأساس للإنسان في هذه الحياة. إن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار “. رواه مسلم. لا يعني موافقته صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو الحاكم حينها ـ على ظاهرة الرق والقبول بها في واقع الناس، خصوصا أن الناس اعتادوا على تلقي الأوامر من حكامهم ورؤسائهم، قصد التنفيذ، دون نظر أو اعتراض من أحد، مثل الآلة في مربطها. فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصدر أمرا بإنهاء ظاهرة الرق من واقع الناس؟ لعل هذه شبهة يثيرها بعض المتكلمين الذين لا يزنون الكلام، والجواب من جنس المبدأ ذاته: إن خطاب خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن ليعبر عن موقف شخص الحاكم، أو الزعيم، أو الملك، أو الرئيس، الذي يمكنه أن يقول في هذا الشأن، أو في غيره ما يحلو له أن يقول، معتمدا على عقله وأهوائه، أو مستبدا برأيه فيطاع. لقد جاء خطابه نابعا ومعبرا عن مصدر تكريم الإنسان، مستهدفا بذور الحرية والعدل والرضاء والإخاء والمساواة المحفوظة في ضمير الإنسان: ” فطرة الله التي فطر الناس عليها “، هذه البذور التي تعهدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رفقة أصحابه، بالعناية اللازمة والمطلوبة، فكان صلى الله عليه وآله وسلم القدوة الأولى في كل صغيرة وكبيرة. حتى إذا امتثل الناس واستجابوا، كان ذلك خلاصة وثمرة تفاعل عقل الإنسان المخاطب، منفعلا بما يحيط به من نوازع وظروف وملابسات، مع الهدي الأزلي الخالد الذي تضمن أسس تقويمه وتكريمه، فأدرك بذلك الإنسان، حاكما ومحكوما، حاجته الملحة إليها. ولم يكن في ذلك امتثالا مجردا على أساس من الطاعة العمياء لشخص الملك أو الزعيم المستبد برأيه، المنفعل باعتبارات اللون والجنس، والنسب والحسب، والمال والجاه، وما إلى ذلك من اعتبارات. وهو ما اعتادت عليه، قبل ذلك، قبائل العرب، وشعوب الإغريق والرومان. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم للوهلة الأولى النموذج الإنساني الذي ينبغي أن يكون عليه الحاكم والمحكوم على حد سواء، وهو الأساس الذي قام عليه مبدآ العدل والمساواة، وتلك هي القاعدة التي بني عليها القانون، وذلك هو الشعور الذي استهدفه صلى الله عليه وآله وسلم بالتحقيق في نفسية الفرد، والأسرة، والمجتمع، فولد بحق الإنسان الحر، الإنسان الجديد. إن قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ” من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه ” رواه مسلم. يعبر عن واقع الإنسانية حينها، وما كانت عليه من استرقاق، فهل في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم، ما يبرر الاستعباد أو يقره، كما يمكن أن يتبادر إلى بعض الأذهان والأفهام؟ أبدا، إنه تعبير عن الحالة التي كان يحياها الإنسان عموما، فقد كان يعامل المملوك كأداة، تستعمل عند الطلب وعند الحاجة، وفق ما يراه ويرغب صاحبها، أو (سيدها). فخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في وقته ليعلن للإنسانية، أن زمن الاستعباد قد ولى، وأن الإنسان المملوك يجب أن يعامل على أساس، أنه إنسان يبتغي الحرية، يقدم خدمات لصاحب العمل أو المستخدم مقابل تلبية حاجاته من مأكل وملبس ومسكن وهي الحاجات ذاتها التي يسعى الإنسان العامل اليوم قصد تحقيقها ، وأكد صلى الله عليه وآله وسلم أن الاستخدام يجب أن يكون على هذا الأساس، الذي هو عبارة عن عقد يلتزم وفقه وبصورة تلقائية المستخدم بعدم تجاوز حدود الاستخدام إلى الضرب والإهانة، وما شابه ذلك. وأن مثل ذلك الأسلوب لم يعد مسموحا به في مجتمع المدينة المنورة، وإذا حدث أي تجاوز فنتيجته إنهاء الاستخدام والانتصار لصاحب الحق. أو ليس ذلك جوهر وحقيقة قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “… فكفارته أن يعتقه “؟ لقد تمت الاستجابة وفق هذا المنهج لتجسيد مبدأ تقويم الإنسان تدريجيا، حسب ما تتطلبه عملية بناء المجتمع، استجابة وإجابة بمختلف مكوناته ومقوماته. لقد تحقق الحد الوسط، وهو الحد الفاصل بين نافيتي الأخلاق كثمرة وخلاصة للثقافة التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معه، في نفوس الناس وواقعهم. وبذلك تحققت النواة، أو نواة المحيط الذي عكس فعلا مكارم الأخلاق، لذلك ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “. الأنبياء والرسل تخلقوا بما أكرمهم الله من أخلاق، وعلموا الناس دينهم الذي ارتضاه لهم خالقهم، فتحلى الخلق وتجملوا بمكارم الأخلاق، وأعرض عن ذلك آخرون، فجحدوا واعترضوا وأنكروا، فبدل الإحسان، أساءوا، وبدل التصديق، كذبوا، وبدل الإيمان أشركوا وبدل التوبة امتنعوا، وبدل الوفاء، اخلفوا، وبدل الحلم، غضبوا، وبدل البذل والعطاء، منعوا وأخذوا،…، ومن حكمة الله أن جعل عبده محمدا نبي الرحمة خاتما للمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت بعثته بحق، الدلالة والبرهان والحجة على حاجة الإنسانية إلى مكارم الأخلاق، فقد بلغ عن ربه أعظم تبليغ، وكان بحق أعظم مثال في مكارم الأخلاق، صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من قال: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “، فأين نبحث عن تلك المكارم، وأي أخلاق في غير هذه المكارم؟ فهو صلى الله عليه وآله وسلم، صفوة الصفوة، النبي المجتبى والرسول المصطفى، قال عليه الصلاة والسلام: ” إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ” رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: ” إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ” رواه البخاري. فقول الناس: هلا وضعت هذه اللبنة، هي حاجتهم إلى مكارم الأخلاق وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين “، هي عينها قوله: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “. صدق رسول الله. لقد ربط صلى الله عليه وسلم حسن الخلق الذي هو مكارم الأخلاق، وخاتم الأنبياء والمرسلين عليه وعلى آله الصلاة والسلام، هو أسوتنا جميعا في ذلك، ربط كمال الإيمان بحسن الخلق، فالدليل، أو الأثر الدال على كمال الإيمان هو حسن الخلق، لذلك لا تبحثن عن قيمة إيمان الإنسان، أكثر مما تبحث عنه في الخلق الحسن، فهو البرهان وهو الحجة الساطعة، لذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم خلقا ” حديث حسن صحيح رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. ما أعظم هذا التوجيه النبوي الشريف، وما أحسنه من تصوير وتعبير، فهو ترجمة حية لمعاني مكارم الأخلاق، اسألوا نساء النبي عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، عن معاملته، عن رحمته، عن رفقة، عن صدقه، عن حلمه، عن وفائه، عن جوده، عن بذله، عن كرمه، عن صبره، عن تسامحه، عن حيائه،…، صلى الله عليه وسلم، لذلك ولذلك فقط، فإن أقرب إنسان إليك، وخير شاهد على حسنك الحقيقي، والدال على استقامتك، هي زوجتك، فكم هن النساء السعيدات بعلاقتهن الزوجية، وكم منهن الشقيات؟ لذلك فالمحطة الرئيسية لصناعة الإنسان هي نواة الأسرة، وهذه النواة قوامها هي العلاقة الزوجية، فإذا صلحت صلح قوام الأسرة كلها، وإذا انتفت، أو اختلت، اختل قوام الأسرة كلها، ولذلك فلا معنى لإيمانك، حتى وإن حدثت به، وأشهرته، وتغنيت له وبه، لا معنى لذلك كله، إن لم يحسن خلقك، ثم، ما هي نقطة الانطلاق، وما هي بداية البدايات؟ إنه إيمانك، أو لم تتدبر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” أكمل المؤمنين إيمانا…” لذلك فلا أخلاق بلا إيمان، ولا كمال إيمان بلا حسن خلق.

عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: ” كنت في مجلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم، قال وأبي سمرة جالس أمامي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الفحش والتفحش ليس من الإسلام وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا ” رواه أحمد. لا يخفى عليكم كثرة ما ترونه وتسمعونه من فحش وتفحش لدى بعض الناس، وتندهشون كثيرا من رؤية مثل هؤلاء الناس بين المسلمين في صفوف الصلاة، وتندهشون أكثر لما تسمعون ترديد هؤلاء عبارات الشهادتين، لكن حينما تدركون صلة الأخلاق بالإسلام، وصلة حسن إسلام المرء بحسن الخلق، تدركون السبب ويبطل العجب. إن واقعنا اليوم يدلنا عن مدى حاجتنا للاستقامة، وحاجتنا هذه، لا يلبيها سلطاننا، ولا مالنا، ولا جاهنا، ولا قوتنا، لا لشيء، سوى، لأن حسن الخلق، ومكارم الأخلاق، ليست صناعة عربية، أو فرنسية، أو أمريكية، أساس هذه الصناعة مرتبط بإيمانك بالله، ودليله هو مكارم الأخلاق، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه “. رواه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنهما.

يقول الله عز وجل: ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ” الآيتان 70 ـ 71 من سورة الأحزاب. ولعلاقة حسن الخلق ومكارم الأخلاق بالآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم يقوم الناس بين يدي رب العالمين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن “. رواه أبو داود عن أبي الدرداء. وقوله صلى الله عليه وسلم: ” إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم “. رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف في العبادة “. رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه. ومن علامات حسن الخلق وأثره في دنيا الناس وعلاقة ذلك بإيماننا بالله، أو إن شئت فقل، بكمال الإيمان، قوله سبحانه: ” وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما “. الآية 63 من سورة الفرقان. وقوله: ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ” الآية 90 من سورة النحل. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أتدرون من المفلس، قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ” رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. إن مثل هذه الأفعال، لا يمكن أن تكون حاضرة في حضور حسن الخلق، أو مكارم الأخلاق، وإذا جاز لنا القول فإن: المفلس هو من لا خلق له. ولا يكفيك أن تتظاهر أمام الناس بثوب الرحمة، أو ثوب الشفقة، فالعبرة كل العبرة في علاقتك بالناس، والعبرة كل العبرة بالأفعال والأعمال وأثر ذلك في حياة الناس، يقول الله سبحانه: ” يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ” الآية 34 من سورة التوبة.

وقوله: ” يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ” الآية 12 من سورة الحجرات. وقوله: ” يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ” الآية 11 من سورة الحجرات. وقوله سبحانه: ” ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ” الآية 85 من سورة البقرة.

إن هذه التوجيهات الربانية، الموجهة للمؤمنين، تغرس في نفوسهم، حينا بعد حين، بذور المناعة، وتنقيهم، حينا بعد حين، مما علق بها من نفايات، وتزودهم، حينا بعد حين، بالوقود اللازم، ألا وهو وقود الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية، فتنتج كلها خلقا حسنا، يمكن أن يصل حدود مكارم الأخلاق، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

وللذين يتذرعون اليوم بواقع المسلمين المزري، في قراهم، ومدنهم، في مدارسهم، ومساجدهم، وجامعاتهم، ومزارعهم، وشوارعهم، وبيوتهم، ومستشفياتهم، ثم يتوجهون بالسؤال: لماذا واقع المسلمين على هذه الحال؟ وكان بمقدور السائل أن يسأل سؤاله عن حال المسلمين يوم كانت أوربا غارقة في الظلمات، يوم كانت الكنيسة تضيق برجال العلم والفكر والفن والجمال، يوم ملأ المسلمون المؤمنون بمكارم الأخلاق المعمورة عدلا وحسنا وجمالا وإحسانا وأمنا وأمانا، المسلم، ببساطة، وقتها، لم يكن مفلسا، أما المسلم اليوم، أسألوه عن خلقه، عن الصدق بين الناس، والرفق، وكظم الغيظ، والبذل، والحلم، والصبر، والإيثار. نعم هو يصلي، ويصوم، ويزكي، ويحج، لكن أين هي مكارم الأخلاق، أين هي آثارها، في بيته، مع زوجته، مع أبنائه وبناته، مع جيرانه، في ميدان عمله، اسألوه عن وقت عمله، وأعماله، وإن شئتم اسألوا العاملين معه، عن حضوره وسلوكه، عن مواعيده وعهوده، لذلك ولذلك فقط، فالمسلم، أو الإنسان المسلم اليوم، ليس حجة سوى على نفسه. اسألوا أوربا اليوم، كيف تنظر إلى الشعوب المستضعفة، خصوصا التي اغتصبوا منها أرضها، اسألوا محكمة العدل الدولية عن أطفال ونساء غزة، اسألوا (الغرب) عن المجازر في حق شعوب أمريكا الإنسان الأحمر، وإفريقيا الإنسان الأسود، أين أخلاق أوربا خارج حدودها، وأين أخلاق الكونغرس الأمريكي وهو يناقش قضية فلسطين؟ لا يكفي المسلم اليوم أن يختلي في بيته ويتباهى بما فيه من زخرف الدنيا، دون أن يسأل نفسه عن مصدر المال الذي جمعه، أهو من جيوب الآخرين، أهو ماله حلاله، أم هو مال الآخرين، ينبغي أن نسأل أنفسنا عن أخلاقنا، أين نحن منها، وأين هي منا، ينبغي أن نسأل أبناءنا، ماذا فعلوا بالجار. واقعنا اليوم لا يختلف كثيرا عن واقع أوربا وهي تستقبل القرن العشرين، وتحديدا أيام ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، وواقع أوربا اليوم هو كواقع من يهمه بيته، ولو اشتعلت كل بيوت الآخرين. لذلك ولذلك فقط، يمكن أن نسأل أنفسنا جميعا، اليوم وغدا، ما قيمتنا أمام قوله صلى الله عليه وسلم: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “. وكذلك: ” إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه ” الجامع الصغير للسيوطي عن أبي الدرداء.

وحتى ندرك حقيقة مكارم الأخلاق، أو حسن الخلق، جميل أن نميز بين الفطرة والصبغة من خلال الآيتين القرآنيتين، الأولى: ” فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” الآية 30 من سورة الروم.

الثانية: ” صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ” الآية 138 من سورة البقرة.

فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تتبدل، إذن، الفطرة هي ما جبل عليه الإنسان، وما جبل عليه ابن آدم كله خير، سواء في جانبه المادي الحسي، أو في جانبه الإيماني المعنوي، عملية التنفس عند الإنسان خير أم شر، نور البصر خير أم شر، حاسة الذوق خير أم شر، حاسة الشم خير أم شر، كذلك، الشعور بالخوف خير أم شر، الرحمة بالآخرين خير أم شر، الحنان خير أم شر، إذن، كل ما جبل عليه الإنسان خير، لذلك ولذلك فقط فالفطرة لا تتبدل، واعلم أنه لو كان بمقدور المفسدين في هذه الأرض، أن يجعلوا الناس فاقدين لكل هذا الخير الذي جبل عليه الإنسان لفعلوا، ولكنها فطرة الله ولن تجد لفطرة الله تبديلا، لذلك ولذلك فقط كانت الفطرة بمثابة المادة الأولية، أو هي الأساس، أو هي القاعدة، أو هي الجوهر في تحلي الإنسان بالأخلاق الحسنة، لذلك ولذلك فقط قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “.

أما الصبغة، فخير ما سمعت فيها، قول الشيخ العلامة الشعراوي رحمة الله عليه، وهو يفسر الآية التي وردت فيها كلمة صبغة، حيث فرق بين ما هو طلاء وما هو صبغة، قائلا: (الصبغة هي حال من الألوان يطرأ بلون على لون، كلمة صبغة تختلف عن كلمة طلاء، لأن الصبغة، الأصل فيها أن ينفذ الصبغ في المصبوغ). ويفرق الشيخ بين الصبغة والطلاء من خلال تفريقه بين مادة الحناء، وأحمر الشفاه والطلاء الذي تضعه المرأة على أظافرها. فالحناء، لأنها صبغة، فهي تنفذ في المصبوغ، أما أحمر الشفاه، وما شابهه من طلاء، فليس بصبغة، وعليه فهو لا ينفذ، أي يسهل إزالته من البشرة أو الأظافر دون عناء، أما الحناء فلا تزول بنفس الكيفية، فننتظر إلى أن يزيد طول الأظافر فنقص الجزء المصبوغ، وهكذا تدريجيا إلى أن يزول الجزء المصبوغ بالحناء تماما، كذلك بالنسبة للبشرة المصبوغة بالحناء، فلا تزول الحناء إلا بمرور الوقت، تبعا لما يطرأ على البشرة من تغير، كما يسميها الشيخ بعملية الهدم والبناء، فالذي يزول في هذه الحالة هو المصبوغ وليس الصبغة.

إذن، صبغة الله، ليست هي الفطرة، وهذا هو الذي يميز بين إنسان وإنسان، بين إنسان مؤمن وإنسان غير مؤمن، وشتان بين إيمان وإيمان، شتان بين المسلم المؤمن، وبين النصراني أو اليهودي الذي يدعي الإيمان، الأول يسوق ما ليس إنجيلا، والثاني يسوق ما ليس توراة، أتدرون لماذا، لأن الأول يشرك بالله، جعل لله ابنا (قوله: عيسى ابن الله)، والثاني يشرك بالله (قوله: عزير ابن الله)، أما المسلم المؤمن فهو يوحد الله، لذلك ولذلك فقط، يمكن أن نميز بين صبغة الله وطلاء المشركين، لذلك ولذلك فقط فإن صبغة الله تحتاج من الإنسان إيمانا أساسه وقاعدته توحيد الله. لذلك ولذلك فقط، جعل الله الإنسان مخيرا، لا مجبرا، في مسألة صبغته سبحانه وتعالى، وحتى يختار الإنسان صبغة الله، لا بد أن يؤمن، وحتى يؤمن، فلا بد أن يوحد الله، فإذا آمن ووحد الله يكون من المستحقين لصبغة الله، لذلك قال الله: ” صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة “، لذلك ولذلك فقط، إذا آمن الإنسان ووحد الله الخالق، فإنه يستجيب لأوامر الله ونواهيه، و بذلك تحدث الإجابة، إجابة من الله بعد إيمان الإنسان وتوحيده لخالقه ، أي يكون هذا الإنسان أهلا لصبغة الله، و بعد أن تنفذ إلى قلبه صبغة الله تتحقق العبادة، لذلك اكتملت الآية: ” ونحن له عابدون “، صدق الله العظيم. فإذا تحققت العبادة يكون الطريق معبدا إلى مكارم الأخلاق، فصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “. أما طلاء النصارى واليهود فسرعان ما ينكشف أمرهم وسوء أفعالهم، انظروا إلى ما يفعله اليهود بالمستضعفين في فلسطين، وما فعله النصارى بشعوب إفريقيا وأمريكا وآسيا. وإذن، فإن مكارم الأخلاق، أو حسن الخلق، لها خصوصية تستمدها من صبغة الله التي تنفذ إلى القلوب ثم تتحول إلى أفعال وحقائق، وللتاريخ كلمته، اسألوا بيت المقدس لما استولى عليه الإفرنج، قتلوا، أو ذبحوا في يومين سبعين ألفا من المسلمين، ولما فتحها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، لم تسفك بها قطرة دم، لذلك ولذلك فقط، شتان بين الصبغة والطلاء، بين صبغة الله، وطلاء المشركين، لذلك ولذلك فقط، شتان بين من يدعون إلى التوحيد، وبين الذين يدعون إلى جعل الدين تراثا، فدعوتهم إلى توحيد الأديان هي طلاء من صنع المخابر التي تتربص بالإنسانية وبالقيم الأخلاقية، أو حسن الخلق شرا. فأنت أيها المؤمن الموحد، في الشرق أو في الغرب، حينما تصدق الحديث، أو تنتهي عن الغش، فأنت على قدر كبير من حسن الخلق، تأتمر بأمر الله، أو تنتهي بنهيه، فهو من مكارم الأخلاق، وأنت فعلا مصبوغ بصبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. لذلك ولذلك فقط قرأ أستاذنا مالك بن نبي رحمة الله قول الله سبحانه: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” الآية 11 من سورة الرعد. قرأها فيلسوف الحضارة قراءة خاصة واستلهم من خلالها حقيقة صبغة الله، لذلك ولذلك فقط يختلط علينا حال الناس مثلما يختلط علينا ما هو صباغة، وما هو طلاء، إلى الحد الذي سأل البعض سؤالهم: لماذا تقدم (الغرب) وتأخر العالم الإسلامي، دون أن يميزوا بين الصبغة والطلاء، أو حتى يميزوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فاختلف توقيت صيامنا، وأعيادنا، وكأن الإسلام هو الذي أمرنا بذلك. وجهد (الغرب نفسه) فدخل علينا من أبواب متفرقة، واستثمر في قابليتنا قبل أن يستثمر في أرضنا وخيراتها، إلى الحد الذي غادر الأرض ولم تغادره خيراتنا وثرواتنا، بل إلى الحد الذي يرفض العبد التخلي عن المستبد به. هذا ما يجعلني الآن، أخشى، أن يصل الباحثون في موضوع: سؤال الأخلاق في الحضارة الإسلامية إلى ما يشبه من يبحث عن ضالته في غير مكان، لذلك يمكن للباحث الكريم، أن يسأل بيت المقدس عن حسن الخلق، وأن لا يتجاوز، أو يغفل: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة. وإذن فنحن بين طرفين، الفئة الأولى مؤمنة بالله موحدة، فهي على قدر كبير من الأدب، لا تفرق بين أنبياء الله ورسله، لأنهم جميعا وحدوا الله، وكانوا أهلا لصبغة الله، ومن حسن خلقهم، أيضا، مخاطبتهم لأهل الكتاب برفق، حينما لم يحرموهم من رحمة الله، ورأفتهم بهم، من خلال قولهم: وهو ربنا وربكم، هذا من جهة الفئة المؤمنة الموحدة، أما الفئة الثانية، فقد سماهم الله، لعنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لرسل الله، ورغم ذلك فقد ترك الله باب التوبة والهداية مفتوحا، ذلك الذي نستشفه من الآيات القرآنية، والله أعلم، يقول الله سبحانه:”وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون، قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون، أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسيتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ” الآيات: من 135 إلى 141 من سورة البقرة. وأحب أن أختم بواحدة من مكارم الأخلاق، بل من أعظمها، إنه الحياء. عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” استحيوا من الله حق الحياء، قال قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء “. أخرجه أحمد والبيهقي.  يقول الله عز وجل: ” ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ” الآية 36 من سورة الإسراء. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه “. رواه البخاري. خلق الحياء، وما أدراك ما خلق الحياء، تستحي من أمك وأبيك، فلا تفعل إلا ما يرضيهما، وتستحي من الجار فلا تصنع ما يكرهه، وتستحي من المعلم فتطيعه، فكيف بك إذا كنت في رحاب الخالق عز وجل، كيف هو حياؤك منه؟ جوارحك فقط، يمكن أن تدلك على الطريق، هلا سألت سمعك وبصرك وفؤادك، لا أحد يدلك سواها، المحك هو الاختبار، لذلك ولذلك فقط قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “.

بشير جاب الخير
4 نوفمبر 2016

الإحالات:

(1)،(2) عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت ـ ص 116.
(3)،(4) معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الأول، الطبعة الأولى، ص 36 ـ 37.
(5)،(6)،(7)،(8) معن زيادة، المرجع نفسه ص 39.
(9)،(10) ابن خلدون، المرجع نفسه، ص 344، 345.
(11) د. عبد الرحمان بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 122.
(13) د. معن زيادة، المرجع نفسه، ص 42.
(12)،(14) عبد الرحمان بدوي، المرجع نفسه، ص 123 ـ 124.
(15) المرجع نفسه، ص 125.
(16) نفس المرجع، ص 578.
(17) نفس المرجع، ص 337.
(18) نفس المرجع، ص 44.
(19) المرجع نفسه، ص 51.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version