بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله ومن نهج نهجه إلى يوم الدين

التجربة التركية ولدت من رحم تركيا، لا أتحدث عن تجربة العسكر، بل تجربة التحرر والتحول والإصلاح والتغيير والاستعداد للإقلاع الحضاري إن شاء الله، نحن الآن عند ساعة الحزم الناعم بعد أن تجاوزت تركيا مرحلة التموقع الناعم والهدم الناعم والبناء الناعم والمواقف الناعمة، وما نعومة قادة تركيا الذين برزوا إلى الواجهة إلا دلالة على السياسة الناعمة في ظل الصحوة الاجتماعية والُثقافية الناعمة التي انعكست عبر الزمن على ملامح الإنسان التركي وسلوكه يوما بعد يوم. إن تجربة تركيا هي تجربة مدرسة أصيلة في ثقافتها وفي فكرها، في روحها وفي تراثها، إنها سلسلة من الحلقات التي استغرقت صناعتها قرنا من الزمن، فهي منذ الوهلة الأولى التي غدر فيها الغدر وزمرته بالسلطان عبد الحميد الثاني، بدأت الرحلة نحو المستقبل بإيمان الشيوخ الذين وقفوا على مطبات الحياة ودروبها، والغفلة وأوحالها، والمظالم وعواقبها، منذ تلك اللحظة وتركيا تسترجع أنفاسها مثل القائد الذي أصر على الوفاء ولم يسقط بعد أن حملته جراحه وآلامه قرنا من الزمن، فلم ينس طينته ولم يغريه تسابق الدنيا وزخرفتها ولا غرام الشهوات ولذائذها، ولا تساقط الأوراق من أشجارها، أدرك طبيعة الفصول وتحولاتها، ومنازل الأحياء وشموخها، وحلاوة الصبر ومذاقه.

إن كنوز هذه التجربة لينوء بمفاتيح خزائنها أولو العزم من الأتراك أمثال السيد نجم الدين أربكان الذي نظر ذات يوم في صورته فلم ير فيها صورة أطفال تركيا في مدارسهم، وصورة حرائرها في بيوتهن ولا صورة جنوده في ثغورهم، ولا صورة الركع الساجدين في محاربهم، ولا أولئك المرابطين في مجتمعهم، لقد أوجس في نفسه خيفة، فلم تقهره الدنيا وتنافسها، ولم يغرر به عرش حكومته ، فرآه أوهن من بيت العنكبوت، فأعطاهم البيت واحتفظ بخيوطه، وأخذ ينسج في رميم الخيوط الأمل ويمسح عنها غبار اليأس وينقيها مما علق بها من جشع وجزع ووهن ومنع، ذات يوم من سنة 1997 غطت الغيوم سماء تركيا التي لم يلتفت لها العرب الذين كانوا غارقين في نشوة أحلام اليقظة، أما أربكان فلم تثنيه توجهات العجم والعرب في الشرق وفي الغرب، فراح يستلهم دروس التاريخ ومنازل المجتمعات والأمم، فسأل الله في خلوته واستحضر معه كل ما هو جميل في تركيا وتخلص من كل ما هو قبيح، سأله تقريبا بكل ما سأله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأله باسمه الأعظم، وبكل أسمائه الحسنى وصفاته العليا، سبحانه وتعالى عما يصفون، سأله أن يحفظ تركيا ومجتمعها، ويبسط لهم الخيرات، ويوفقهم في مسعاهم إلى هدم الضلال وبناء الحق وأن يبارك لهم في اختيار وسائله وأدواته، ببركة الله سكنت النفوس وهدأت، كم كانت المسافة بعيدة، وكم هي ببركة الله صارت أقرب، خمس سنوات، كم هي أقل من ثانية واحدة في حياة المجتمعات والأمم، كم هي غالية في عالم الصبر وعالم الخلوة مع علام الغيوب، لاحت بوادر الرحمة من جديد فولد مولود جديد من رحم تركيا الولود عمره قرن من الزمن، اسمه من أسماء أمه تركيا التي تسمت بها عبر الزمن، يحمل شعارا واحدا اجتمعت فيه الكلمة والأمل، والتطلعات إلى غد أفضل في كنف العدل والحرية، وكله عزم وبهاء ونعومة وبذل وعطاء في سبيل الارتقاء إلى ما هو أحسن وتركيا كلها في حركة ناعمة نحو الإقلاع الحضاري إن شاء الله.

سؤالي من سؤال الذين سألوا أسئلتهم حول تركيا، وأبدأ بسؤال وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة ـ قطر، يوليو 2016.

سلسلة تقدير موقف: نص السؤال: لماذا كان انقلاب تركيا الأشد دموية، أكثر الانقلابات فشلا؟

1/ بدأت وحدة التحليل تقريرها من خلال تقديرها أن سيطرة الانقلابيين بدأت بالاستيلاء على مطار اسطنبول ومقر التلفزيون وفق ما صرح به الانقلابيون أنفسهم.
2/ اضطر الانقلابيون إلى تقديم موعد تحركهم الذي كان مقررا عند الساعة 00:3 صباحا من يوم السبت 16 تموز/ يوليو 2016 إلى الساعة 00: 21 من مساء يوم الجمعة 15 تموز/ يوليو 2016 تقريبا، والسبب هو التأكد من انكشاف أمرهم وذلك عصر يوم 15 تموز / يوليو بحسب مصادر الجيش التركي.
3/ أذاع الانقلابيون بيانهم عبر التلفزيون الرسمي TRT.
*هذه المعلومات، وأكثر، تداولتها قناة الجزيرة بكثير من التفصيل نتيجة مواكبة القناة لكثير من الأحداث من أرض الواقع، وهذا يحسب للقناة في دائرة السبق الإعلامي.
4/ على مدى قرن تقريبا، كان الجيش الفاعل الرئيس في الحياة السياسية التركية.
5/ انقلاب الجيش ضد السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908، وحكم تركيا بقيادة أتاتورك مؤسس الجمهورية حتى عام 1946.
6/ في عام 1946 جرت أول انتخابات تعددية.
7/ شهدت تركيا ثلاثة انقلابات، قادها الجيش أعوام 1960، 1971، 1980.
8/ في 1997 تمت الإطاحة بحكومة الائتلاف بقيادة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان.
9/ وصول حزب العدالة إلى الحكم عام 2002، ساير الجيش وعايشه رغم التشكك.
10/ محاولة انقلابية فاشلة عام 2008، حوكم على إثرها مئات من ضباط الجيش.
11/ محاولة انقلابية فاشلة عام 2013، تبين على إثرها وجود كثير من الشكوك بين العدالة والتنمية من جهة، وتنظيم عبد الله غولن من ناحية أخرى.
12/ بروز عدم التوافق بين الجيش وحكومة العدالة والتنمية، خصوصا تجاه الملف السوري، وحزب العمال الكردستاني، وتنظيم الدولة، وتزايد المخاطر الأمنية في ظل توتر العلاقات مع إسرائيل وروسيا، وبعض التوتر في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما جعل الحكومة غير مرتاحة تجاه الجيش.

*هذه العناصر كلها، لم تكن خافية على الأتراك، ولا على غيرهم، خصوصا بالنسبة للمتتبعين لأحداث الشرق الأوسط عموما.

تحت عنوان: أسباب الفشل، ذكرت الورقة ما يلي:

1/ على الرغم من توافر عوامل كثيرة لنجاح الانقلاب مثل:

ـ عنصر المباغتة من ناحية التوقيت
ـ ردود الأفعال الدولية الضعيفة
ـ امتلاك المتمردين قوة نارية كبيرة مثل الطيران والدبابات
ـ مشاركة ضباط كبار في الجيش

2/ من أسباب فشل المحاولة الانقلابية حسب الورقة:

ـ إجماع الطبقة السياسية والفكرية ووسائل الإعلام وقطاعات عريضة من الشعب على رفض الانقلاب
ـ الهجوم على البرلمان.
ـ ظهور الرئيس رجب طيب أردوغان من خلال مكالمة هاتفية مصورة عبر قناة تلفزيونية علمانية معارضة وتوجيهه رسالة إلى الشعب.
ـ ظهور الرئيس السابق عبد الله غل، ورئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو، ودعوتهم الشعب للخروج ورفض الانقلاب والاحتشاد في الشوارع.
ـ فشل الانقلابيين في الوصول إلى الرئيس وقتله أو اعتقاله.

وفي حديثها عن المواقف الدولية، ذكرت الورقة التحليلية ما يلي:
ـ صدمة الموقف الأمريكي للحكومة التركية، فالذي كان يهم الولايات المتحدة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها من موسكو هو استمرار تركيا، وذكر السفارة الأمريكة في تركيا أن الذي يجري في تركيا هو انتفاضة.
ـ رد فعل الحكومة التركية جاء، على وجه الخصوص، على لسان وزير العمل التركي باتهام الولايات المتحدة بأنها دبرت الانقلاب بالرغم من اهتمام الرئيس أردوغان بتخفيف النبرة نحو الولايات المتحدة الأمريكية.

3/ رد فعل الحكومة التركية:
ـ اعتقال أو وطرد نحو 35 ألفا من ضباط الجيش والشرطة والجهاز القضائي.
ـ تجميد عمل أكثر من 15 ألف موظف في وزارة التعليم.
ـ إقالة أكثر من 1500 من رؤساء الجامعات وعمداء الكليات.
ـ سحب رخص العمل من أكثر من 20 ألف مدرس في المدارس الخاصة.
ـ تجميد وزارة الداخلية عمل نحو 9 آلاف من منتسبيها.
ـ عزل ولاة ومفتشين ومستشارين في وزارة الداخلية.
ـ التفكير في إعادة العمل بعقوبة الإعدام.
ـ إعلان حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر.
أنهت الورقة التحليلية تقديرها بسؤال مفاده:
ـ في المرحلة المقبلة سوف يتكشف إذا ما كانت الحكومة تقوم باجتثاث الخصوم السياسيين، أم هي عملية تحرير مفاصل الدولة من الكيان الموازي المتغلغل فيها؟

تستدرك الورقة فتذكر أن أصل مصطلح ” الدولة العميقة ” تركي، لتضيف أن: يقظة الرأي العام التركي والمجتمع المدني والأحزاب والإعلام هي التي ستمنع عملية تصفية أذرع الانقلاب من التحول إلى عملية اجتثاث شاملة معادية للديمقراطية كما منعت الجيش من الانقلاب عليها.

خلصت الورقة التحليلية في تقديرها إلى أن:
الشعب التركي بقواه الفاعلة وأحزابه ووسائل إعلامه الرئيسة، هو الذي أحبط الانقلاب العسكري ودافع عن الديمقراطية، وليس الحكومات الأجنبية التي تبدي الآن حرصها على الديمقراطية. وأن هناك عبر كثيرة تستخلص من هذه الأحداث، غير أن استخلاصها من مهمة الحكومة والشعب والأحزاب التركية، وأن المغزى الواضح عربيا أنه: لو أن المجتمع التركي انقسم بين حزب العدالة والتنمية، وخصومه، لما كان ممكنا دحر الانقلاب والانتصار للنظام الديمقراطي، لتعطي الورقة التحليلية مثلا على ذلك بانقسام المصريين بين إسلاميين وخصومهم، وكيف نتج عن ذلك وأد التجربة الديمقراطية الوليدة والهشة.
انتهى تقدير الورقة التحليلية ” تقدير موقف “.

السؤال الثاني، جاء من خلال المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لكن هذه المرة ضمن سلسلة تقييم حالة من إعداد الأستاذ عماد يوسف قدورة / يوليو 2016.

نص السؤال في الانعكاسات الأولية لمحاولة الانقلاب في تركيا.

أ/ *أبرزت الورقة التقييمية جانبا من أهداف العملية الانقلابية:

1/ العملية الانقلابية حسب التقييم، كانت ستأتي على توجهات الدولة من خلال وضع حد للسياسات التي تبناها حزب العدالة والتنمية.
2/ مخططو الانقلاب أدركوا أنها الفرصة الأخيرة قبل فوات الأوان.
3/ إعادة الوصاية للعسكر.
4/ منع تركيا من تحقيق طموحها بأن تكون قوة مركزية إقليمية تحدد السياسات، وإعادتها إلى السياسة الخارجية الانعزالية التي تنفذ مهمات وظيفية ضمن تحالفاتها التقليدية.

*دلالات العوامل المحلية المجهضة للانقلاب: عنونتها الورقة التقييمية تحت عنوان: أهمية التغير الذي طرأ على المجتمع التركي في أقل من عقد ونصف.
من ملامح هذا التغير ما يلي:
1/ رد فعل الشعب جاء جمعيا وليس فئويا أو حزبيا، وتوافق مع رد فعل الرئيس ومسئولين آخرين.
2/ قبول الرئيس التركي لدى فئات واسعة من الشعب التركي على اختلاف توجهاتها السياسية والإيديولوجية.
3/ حضور وتوافق مواقف القادة التاريخيين لحزب العدالة والتنمية.
4/ موقف المعارضة وتمسكها بحسم أي خلاف من خلال التنافس الانتخابي.
5/ تطور المجتمع التركي في تقبل الديمقراطية والدفاع عن قيمها.
6/ توافر الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي عامل مساهم في رفض انقلاب العسكر.
7/ سرعة استجابة الاستخبارات العسكرية وقوات الأمن العام ورفضها للانقلاب من خلال فعالية تدخلها واحترافيتها.

هذا من جهة التغير الذي طرأ عل المجتمع التركي رفقة حكم العدالة والتنمية، أما من جهة الانقلابيين فترى الورقة التقييمية ما يلي:
1/ انتماء الانقلاب إلى المدرسة القديمة القائمة على السيطرة التلفزيون والمطارات والشوارع الرئيسية.
2/ عدم إعطاء الأهمية المطلوبة لوسائل الاتصال في تقنياتها وبدائلها الجديدة.
3/ سوء التخطيط للتخلص من أردوغان والقادة الفاعلين لحزب العدالة والتنمية.
4/ عدم الالتفات إلى أهمية تحييد قادة المعارضة الفاعلين.

هذا من حيث الدلالات المحلية في فشل الانقلاب.

الورقة التقييمية لم تكتف بسرد ما حدث، أو ذكر مجريات العملية الانقلابية وتتبعها كما تتبعتها وسائل الإعلام عبر العالم، وهو ما قدمته لنا الورقة التحليلية في تقدير موقف.

وإذن فالورقة التقييمية (تقييم حالة) كانت أكثر تحليلا من الورقة التحليلية (تقدير موقف)، والورقتان ضمن اهتمامات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ب/ *الانعكاسات على الأمن التركي حسب الورقة التقييمية:

1/ من حيث الحرب على الإرهاب وحزب العمال الكردستاني، وذلك بسبب مقتل خبراء في الإرهاب، واعتقال ضباط كبار كانوا إلى حد قريب ماسكين بملف الجبهة السورية ومحاربة داعش، إضافة إلى مقتل ضباط استخبارات وأمن آخرين متخصصين في مكافحة الإرهاب من طرف الانقلابيين عن طريق قصف المقرات وبعض المنشآت. هذا ما تراه الورقة سيؤثر سلبا على فعالية المجابهة مستقبلا.

الورقة في هذه النقطة بالذات لم تجزم بسلبية ما حدث على الوضع الأمني بصفة مطلقة، لأنها ترى في ما حدث قد يساعد الأمن التركي وجهاز الاستخبارات العسكرية من التخلص من كثير من نقاط الضعف مثل الاختراقات، إذ لا يستبعد حسب الورقة ضلوع بعض أفراد المؤسسة العسكرية قبل عملية الانقلاب في إفشال تعب عناصر حزب العمال الكردستاني، أو أنها كانت سببا في بعض الإخفاقات في الحرب على داعش.

إذن مسألة تقدير أو تقييم ما هو سلبي وما هو إيجابي، يبقى نسبيا لأنه مرتبط بكثير من المعطيات غير المتوفرة بخصوص الاستخبارات العسكرية ومدى نجاح الحكومة التركية لعقد ونصف في الإعداد لمثل هذه الاستحقاقات.

2/ من حيث الاستقرار الاجتماعي بسبب كثرة الاعتقالات وتطهير المؤسسات عن طريق العزل أو التسريح والإقالات.

مثل هذه العملية التي توافقت مع إعلان حالة الطوارئ فهي في صميم ما يمكن أن نطلق عليه عبارة “مكره أخاك لا بطل”، ولذلك فالحكومة، رغم حرصها على إبطال مفعول المحاولة من جذورها، فإنها حريصة أكثر على احتواء آثارها بنعومة فائقة وبحزم شديد. أما بخصوص الموازي، فإن الحكومة أدرى بطبيعته وامتداداته وارتباطاته على كافة المستويات، ويمكن أن يتسبب في متاعب كبيرة للمجتمع التركي، إلا أنه يحمل بذور سقوطه التي ستتوالد من بعضها قريبا، خصوصا حين يدرك الشعب التركي حقيقة ارتباطات هذا الكيان وأهدافه، وما كان يراد لتركيا أن تكون عليه بعد العملية الانقلابية التي حرصت دوائر دولية عربية وغربية التزام الصمت بعد فشل العملية التي كانت مخيبة للآمال، وتأسفوا لبعضهم كثيرا كما تأسفت بعض وسائل الإعلام المأجورة التي فقدت ماء وجهها واحترافيتها التي لم تكن سوى جزءا من مسرحيات فقدت مصداقيتها في عالم اليوم.

من الانعكاسات التي أشارت إليها الورقة التقييمية أيضا:

3/ اختراق الأمن ومدى كفاءته.

 أشارت الورقة إلى أن المحاولة الانقلابية أظهرت بأن ثمة اختراقا أمنيا واستخباراتيا في تركيا بعد الفشل في التنبؤ بها أو الإمساك بأي من خيوطها قبل وقوعه بفترة كافية، رغم وجود مخطط كبير شمل مجموعات وأفراد وقادة كثر، ودل هذا كما أشارت الورقة إلى وجود قصور في إمكانية رصد هذه الحركة الكبيرة.
بسرعة تعود الورقة لتستدرك فتقول: ومع ذلك أظهرت الاستخبارات وقوات الأمن استجابة سريعة وفاعلية كبيرة وقت الأزمات الحرجة، إذ استطاعت اتخاذ تدابير عاجلة خلال ساعات محدودة وساهمت في إفشال انقلاب عسكري كبير، لم يكن لمؤسستي الاستخبارات والأمن العام في الماضي أن تقوما بمواجهة الجيش أو تحديه، ولكنهما اليوم أضحتا مؤسستين كبيرتين وفاعلتين يمكنهما القيام بذلك. ولعل السبب الأساسي يعود إلى إعادة الهيكلة التي قامت بها حكومات حزب العدالة والتنمية في هذين في السنوات الماضية.

وبخصوص جهاز الاستخبارات تحديدا، تقول الورقة التقييمية: أما جهاز الاستخبارات، فهو الجهاز الأمني الأول الذي استطاع أردوغان ضمان ولائه وجعله الأداة الرئيسية في كشف أي تحركات تهدد حكوماته ومسيرته.

إذن ما قيمة الاختراق الذي تحدثت عنه الورقة في بداية الأمر، وبطء جهاز الاستخبارات في رصد الحركة الانقلابية الكبيرة، إذا كان جهاز الاستخبارات ذاته على قدر كبير من الفعالية التي استطاعت في وقت وجيز جدا إبطال مفعول هذه العملية. أين هو الاختراق، وأين هي آثاره؟

 أقول في هذا المضمار إن مثل هذا الاختراق الذي عكسته العملية الانقلابية الفاشلة، إن عبر فإنما يعبر عن تداخل خيوط المؤسسة الأمنية التركية عموما ومدى تأثرها بسطوة المؤسسة العسكرية طويلا، التي كانت في حاجة إلى عمليات جراحية ناعمة بعيدا عن الأضواء، وهذا ما كان في حاجة إلى عامل الزمن الذي لم يكن في صالح حكومة العدالة والتنمية على المدى القريب بسبب التحديات الكبيرة والمعقدة في محيط ملتهب بصورة بشعة. إن انعكاس العملية الانقلابية على المؤسسة الأمنية عموما، بجيشها وأمنها العام وأمنها الخاص، بشرطييها ورجال الدرك فيها، هو ما كان ينتظره قادة حكومة العدالة والتنمية بكثير من الصبر المتضمن كثيرا من التوتر والتوجس وبعض من الشك.

إن موقف مدير الاستخبارات الأمريكية المعبر عن أسف الدوائر الاستخباراتية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وامتعاض الدوائر الرأسمالية الأمريكية خصوصا، والغربية عموما، جاء ليفصح عما كانت تنتظره مثل هذه الدوائر من العملية الانقلابية الكبيرة؟ لهذا تأسف المدير لفقدان سند كبير في مواجهة (داعش)، والحقيقة هي فقدان سند كبير في الإمعان بإلحاق الأذى بالعرب والمسلمين في حدود الشرق الأوسط الذي ينبغي أن يتمزق إلى أبعد الحدود، هذا الذي يتأسفون عنه وهذا الذي خسروه بفشل العملية الانقلابية الكبيرة، إنهم يتحسرون، ومعهم تتحسر كل الدوائر التابعة التي عبرت دون حياء عن أسفها لفشل الانقلابيين.

أما بخصوص الانعكاسات على المؤسسة العسكرية في حد ذاتها، فإن الورقة التقييمية أوضحت جانبا مهما، وهو:
ـ أن المؤسسة العسكرية تغيرت من حيث غياب الاتفاق بين مكوناتها على ممارسة الوصاية على الحياة السياسية والتدخل في الحياة العامة التي اعتادت عليه منذ نشأة الجمهورية.
ـ الدلالة على نجاح الإصلاحات العسكرية/ المدنية التي باشرتها حكومة العدالة والتنمية، ولو بشكل نسبي، من خلال إحداث نوع من التوازن داخل مجلس الأمن القومي برئاسة مدني.
ـ الحاجة إلى إعادة هيكلة الجيش والمحافظة على مصداقيته وهو ما يقتضي حسب الورقة، ووفق ما أشارت إليه في تصريح الرئيس أردوغان من أنه سيعمل على تنظيف القوات المسلحة بنسبة 100 في المئة. إلا أنها، أي الورقة استدركت من خلال تصريح رئيس الحكومة التركية بن علي يلدرم في دفاعه عن الجيش ودوره ومكانته الوطنية، والتأكيد على أن من قام بمحولة الانقلاب مجموعة صغيرة لا تمثل الجيش.

ومهما يكن من مواقف وتصريحات فإن طبيعة قادة العدالة والتنمية يمكن أن تدفع بالأوضاع على مستوى المؤسسة العسكرية إلى حالة من الترقب والانتظار، وهو ما سيساعد على المحافظ على تماسك هذه المؤسسة من خلال عزلها عن كل ما من شأنه أن يضر بمصداقيتها، ومن دون شك فإن الحكومة التي حسبت حساب فعالية جهازي الاستخبارات والأمن العام، فإنها تكون فعلا قد حسبت حساب فعالية القيادة على مستوى المؤسسة العسكرية بكل أصنافها وتخصصاتها، تنشئة، إعدادا، حضورا، وقبولا. وإلا ما كانت تحسم الموقف الوطني لصالح المجتمع التركي وتوجهات حكومته الإصلاحية.

ج/ * الانعكاسات السياسية محليا.

 ترى الورقة التقييمية، وفق التوقعات المحلية، أن الفرصة مواتية لحكومة حزب العدالة والتنمية قصد التخلص من نفوذ القوى المعرقلة، من أجل إحداث التحولات السياسية، وتحديدا حاجة تركيا إلى دستور جديد مدني، إلا أنه يبقى من الصعب التكهن بسهولة تمرير مسألة إقرار النظام الرئاسي. خصوصا إذا أدركنا وعي المعارضة القومية والعلمانية والكردية، وإذن لا ينبغي تجاهل الاختلافات السياسية الجوهرية القائمة، وعليه يمكن أن يكون هناك توافق من أجل الوصول إلى صيغة نهائية لدستور مدني جديد، حتى لو كان بنظام برلماني، هذا حسب الورقة، وهو تقييم جيد.

إن أولى الأولويات هي أمن المجتمع التركي من أي هزة ارتدادية في الوقت الراهن، وعلى المدى القريب، أما الإصلاحات السياسية فهي لا تنفصل عن الإصلاحات الاجتماعية والثقافية والفكرية الجارية منذ مدة، إن رجب طيب أردوغان ومعه القيادة الراشدة، أمثال أحمد داود أوغلو، والأب الكريم نجم الدين أربكان، لا ينطلقون من كون المسألة شخصية أو حزبية أو جهوية أو طائفية، أو عرقية، ومن ثمة فإنهم يسعون بكثير من الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية، بحثا في دروب الحكمة عن إمكانية إقناع الأتراك بكل توجهاتهم بأن سياستهم وإدارتهم للشأن العام تخدم المجتمع التركي كله وأنهم هم خدام هذا المجتمع، ليس إلا. من هذا المنظور، أرى أن قيادة العدالة والتنمية التي تجنبت التغني بالشعارات، أمامها تحديات هائلة على كافة المستويات، يمكنها تجاوز بعضها على المدى المتوسط، قصد الوصول إلى تمثل مقاربة سياسية على قدر كبير من الفعالية الاجتماعية والفكرية الناعمة، التي تجعل تركيا مستقبلا مطلوبة من الاتحاد الأوروبي، وليست طالبة، محترمة من طرف الجميع، يمكنها حينها إقناع المعارضة بجدية مسعاها وصلاحيته.

د/* الانعكاسات الدولية.

ترى الورقة التقييمية، سواء كانت المحاولة الانقلابية بجهد داخلي محض أم بتنسيق دولي، أن رد الفعل التركي الرسمي والإعلامي، تركز على موقف الولايات المتحدة خصوصا، والدول الغربية عموما، بسبب عدم إدانتها للانقلاب منذ بدايته، وتساءلت كذلك عن موقف روسيا المتريث، لكن بأقل حدة حتى وإن لم تسمها تركيا.

1/ الولايات المتحدة الأمريكية:

من حيث: ـ إيواء الولايات المتحدة للعقل المدبر المفترض، ألا وهو فتح الله غولن.
 ـ رغم أنها حليف استراتيجي، لم تسارع الولايات المتحدة إلى رفض العملية الانقلابية.
 ـ تلميح أردوغان إلى ربط التحالف الاستراتيجي بين الدولتين بتسليم غولن.
 ـ الشكوك التي أبداها الإعلام التركي تجاه الموقف الأمريكي.
ـ انتظار تركيا خطوات ملموسة تزيل الكثير من الشكوك.
ـ محورية مسألة تسليم غولن لتركيا.
ـ تراكم مواقف الولايات المتحدة الخاذلة لتركيا والمتناقضة مع مواقفها مثل الموقف من الملف السوري وملف حزب العمال الكردستاني.
ـ عدم استعداد أردوغان زعزعة العلاقة مع الولايات المتحدة، وهو في الوقت نفسه غير مرتاح.

هذا الذي استخلصته الورقة التقييمية.

إن تصريح الرئيس أوباما بخصوص إدانته للعملية الانقلابية، لم يأت في وقته، زيادة على أن مثل هذا الموقف لن يغير من موقف الولايات المتحدة في سؤال المرجعية الفكرية والسياسية التي تستند إليها الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل وحلف شمال الأطلسي. هذا من ناحية، ومن ناحية العملية الانقلابية ذاتها فإن المسار الذي رصدته وسائل الإعلام، وخصوصا قناة الجزيرة الإخبارية، يدل دلالة قاطعة على أن العملية لقيت الضوء الأخضر خارج تركيا قبل داخلها، وأن الأمل كان معقودا على ما سيقوم به العسكر من حسم تجاه حزب العدالة والتنمية وطي صفحة أردوغان إلى غير رجعة، هذه المسألة واضحة جدا. وفي هذا المضمار بالذات جاءت تصريحات مدير المخابرات الأمريكية مؤكدة ضلوع الولايات المتحدة في مساندة جنرالات العملية الانقلابية، والسؤال: هل تركيا مرتبطة استراتيجيا بالولايات المتحدة وسياساتها، إلى هذا الحد الذي يجعل مدير المخابرات من دون طلب الإذن من أوباما، ليبدي أسفه تجاه موقف الحكومة الشرعية في تركيا من العناصر الانقلابية، فهل مصلحة الولايات المتحدة مرتبطة إلى هذا الحد بسلامة مثل هذه العناصر الانقلابية التي أجرمت في حق المجتمع التركي؟ أم التحالف الاستراتيجي يقتضي أن تأتمر تركيا بأوامر مدير استخباراتها العسكرية قبل رئيسها ووزير خارجيتها الذي رأى في العملية الانقلابية أمرا لافتا يحتاج كثيرا من التريث، خصوصا أن سفارة الولايات المتحدة رأت في ذلك انتفاضة شعبية.

الرئيس أردوغان كان حاضرا من خلال قناة الجزيرة يوم الجمعة 29 تموز/ يوليو 2016، ليرد بكل وضوح على مدير المخابرات الأمريكي الذي نسي أن تركيا دولة مستقلة وحرة، خصوصا بعد أن وفقت إلى حد بعيد في إفشال عملية الانقلاب التي قلبت عطلة كثير من المهتمين رأسا على عقب.

إن الشهور القادمة حبلى بكثير من المستجدات التي سوف تحدد ملامح التحالف التركي الأمريكي خصوصا، والتركي الغربي عموما.

2/ روسيا:

تناولت الورقة التقييمية مباشرة الموقف الروسي من خلال:
ـ موقف الرئيس فلاديمير بوتين من العملية الانقلابية في 16 تموز/ يوليو 2016.
ـ استعداد الطرفين لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها.
ـ إمكانية استمرار التعايش بخصوص الملف السوري على وجه الخصوص.
ـ إمكانية ارتباط عملية إسقاط الطائرة الروسية بخطط الانقلابيين.

هذا هو التقييم الذي وصلت إليه الورقة التقييمية، وهو فعلا الذي حدث وتحدثت بشأنه وسائل إعلام عربية وروسية وتركية تحديدا.

إن العلاقات الروسية ليست وليدة الساعة، أو هي مرتبطة بما يجري في الشرق الوسط من اقتتال، أبدا، مثل هذه العلاقات كان بالإمكان أن تكون أكثر إستراتيجية، لولا توجهات قوى العسكر داخل تركيا في اتجاه إرضاء الغرب والارتباط بمصالحه في وقت مبكر. ولذلك فإن العملية الانقلابية هي بمثابة القطرة التي أطاحت بكبرياء (الغرب) الغارق في أوحال كبريائه وغطرسته وجبروته المتعالي برأسماليته التي نهبت كل القيم ووأدت كثيرا منها، ضانة أن انفرادها بأدوات الترهيب سيؤمن مصالحا الغامضة ومخططاتها التي لم تعد خافية سوى على العرب الغارقين في أحلامهم والمتباهين بعروشهم، وعلى المسلمين المهزوزين بمأساتهم.

إن شيوخ تركيا الذين أوصوا أبناءهم وبناتهم ترك الشعارات جانبا، الذين خرجوا جنبا إلى جنب من دون شعارات حزبية، ولا ألوان طائفية أو مذهبية أو عرقية، يستحقون كل احترام وتقدير، وهم فقط القادرين على بلورة المواقف من روسيا وغير روسيا، بما يتوجب القيام به من هدم وبناء في سبيل تعبيد الطريق نحو الإقلاع الحضاري إن شاء الله. ومن هذا المنطلق بالذات تتحدد أبعاد السياسة الخارجية التركية مستقبلا إن شاء الله، فإذا كانت الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها تحذر من تمادي تركيا في تطهير الجيش من العناصر التي أثبتت تعاونها مع الجانب الأمريكي في محاربة (الإرهاب)، ومن احتمال التضييق على الحريات، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى إعادة النظر في العلاقة القائمة بين تركيا وحلف شمال الأطلسي على أساس رؤية هذا الأخير في مقتضيات الديمقراطية وكأن الحكومة الشرعية في تركيا هي من تدعم الحركات الانقلابية ضد الشرعية كالذي حدث في مصر أو أن تركيا تعمل على زعزعة استقرار الشعوب، أو احتلال أراضيها أو نهب خيراتها . نفس التوجه يكمن في الوجه الآخر للعملة الغربية، ألا وهو الاتحاد الأوروبي من خلال مسئولة العلاقات الخارجية فيديريكي موغيريني التي رأت في العملية الانقلابية صبيحة يوم 16 تموز/ يوليو 2016 بانه عملية كبيرة، وكأنها كانت تنتظر الحسم بسرعة، ها هي تسلك نفس المسلك في تحذير تركيا ولو بصفة غير مباشرة، من خلال التلويح بإمكانية استبعاد طلب تركيا بغية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في حال عادت تركيا إلى العمل بعقوبة الإعدام، إضافة إلى التحفظات، من هنا وهناك، على إعلان تركيا لحالة الطوارئ، ناسين أعضاء حلف النيتو الذين لجأوا لمثل هذا الإجراء حفاظا على استقرار مجتمعاتهم نتيجة تفجير أو عملية إجرامية مست فضاء من محيطها الحيوي، هل وصل بالغرب التفكير في حرمان تركيا، حتى من حماية نفسها من المخاطر؟ إن الاتحاد الأوروبي الذي ضاق ببريطانيا فطلقته إلى غير رجعة، إن مثل هذا الاتحاد الذي لا يتسع لاحتواء جشع وهلع وجزع ومنع الرأسمالية الغربية، ولا مطامع المحافظين الجدد، سوف لن يغري تركيا التي تسعى إلى التحرر من دائرة الاستبداد الذي فرض عليها بقوة الحديد والنار لقرن من الزمن، سوف لن يغريها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أبدا، ودون ريب سوف يتحدد موقف تركيا من ذلك في القريب العاجل، إذا أصرت السيدة فيديريكا مورغيني على تذكير تركيا بمتطلبات وشروط القبول التي رفعها الاتحاد الأوروبي طويلا. أما حلف النيتو فهو المتضرر الأول من أي إجراء غير محسوب العواقب على استقرار تركيا والغرب معا، يمكن أن تبادر به الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا، حتى من باب الضغط والتضييق وكيف يمكننا تغييب الموقف العربي من حدث كهذا، لا أدري سبب جنوح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن ذكر شيء من قبيل الموقف العربي، لا من بعيد ولا من قريب.

وفي هذا المضمار بالذات اسأل سؤالي في سؤال المتتبع العربي في شأن العملية الانقلابية في تركيا، من الدولة العربية أو المسلمة، التي سارعت إلى إدانة العملية في بدايتها، أو حتى الاطمئنان على سلامة الرئيس المنتخب بكل حرية، أي من الدول فعلت مثل هذا، أو شيئا من هذا القبيل باستثناء قطر، وقناة الجزيرة الإخبارية التي ساهمت، حسب تقديري المتواضع، في التشويش على الانقلابيين خصوصا الذين كانوا يتابعونها من خلال مراسليها في الميدان وعلى مدار الساعة، وهي فعلا التي فعلت التواصل والتفاعل مع كلمة الرئيس أردوغان في أول ظهور له بعد الارتباك الكبير الذي سكن النفوس داخل تركيا وخارجها، إذ يمكن ملاحظة ذلك على ملامح الرئيس نفسه وهو يوجه كلمته عبر الهاتف من خلال تلك الصورة التي بثتها القناة التلفزيونية التابعة للمعارضة ذات التوجه العلماني كما يصفونها، كيف تحول مثل ذلك الارتباك في وقت وجيز إلى حالة من الترقب الحذر الذي تحول بسرعة فائقة إلى حالة من الأمل والتأمل في فشل الانقلابيين الذين فقدوا توازنهم بطريقة أدهشت كل المراقبين، خصوصا الذين كانوا ينتظرون مزيدا من أخبار الانقلابيين الذين انهاروا في سويعات، فسبحان الله، كيف تهاوت القلاع وتبخرت الأوهام.

وفي هذا الباب بالذات، تصوروا لو أن الانقلابيين، الذين خاب ظنهم، سيطروا على الوضع وتحكموا في البلاد، وظهر القائد الجديد لتركيا في صورة السيد فتح الله غولن، المحسوب على التيار الإسلامي ( التقليدي )، تصوروا معي الموقف العربي الرسمي، وتصوروا إلى جانبه موقف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إن الموقف هو بكل وضوح تأييد العملية ( التصحيحية ) التي ستساهم في استقرار المنطقة وتفعيل التوافق الأمريكي العربي تجاه مختلف الملفات العالقة، وعلى رأسها الإمعان في تمزيق ما تبقى من الجسم العربي والإسلامي، وجدية الطرفين في التخلص من خطر
( داعش )، عندها كانت إسرائيل ستبارك التوافق العربي الأمريكي، وعندها ستجتهد إسرائيل ومن ورائها ( الغرب) في تفعيل عملية التضييق على إيران من خلال استنزاف قواها داخل مستنقع الاقتتال والإبادة بأرض العراق والشام، وعندها سوف يصطف العرب في صمت رهيب وترقب مريب، وهم يتابعون ما يمكن أن يقدم عليه النظام المصري من إجراءات نيابة عن إسرائيل في مجابهة المقاومة الفلسطينية. الحمد لله العملية الانقلابية فشلت وخاب أصحابها وخابت معها ظنون كل المتآمرين.

ملاحظة:

بالرجوع إلى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من خلال أوراقه البحثية، سواء: تقدير موقف، أو تقييم حالة، خصوصا حين نقرأ أن المركز: يعالج قضايا المجتمعات والدول العربية بأدوات العلوم الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، وبمقاربات ومنهجيات تكاملية عابرة للتخصصات. وينطلق من افتراض وجود أمن قومي وإنساني عربي، ومن وجود سمات ومصالح مشتركة، وإمكانية تطوير اقتصاد عربي، ويعمل على صوغ هذه الخطط وتحقيقها، كما يطرحها كبرامج وخطط من خلال عمله البحثي ومجمل إنتاجه.

وقبل ذلك نقرأ أن:

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤسسة بحثية عربية للعلوم الاجتماعية والعلوم الاجتماعية التطبيقية والتاريخ الإقليمي والقضايا الجيوستراتيجية، وإضافة إلى كونه مركز أبحاث فهو يولي اهتماما لدراسة السياسات ونقدها وتقديم البدائل، سواء كانت سياسات عربية أو سياسات دولية تجاه المنطقة العربية، وسواء كانت سياسات حكومية، أو سياسات مؤسسات وأحزاب وهيئات.

في هذا المضمار بالذات أسأل سؤالي في سؤال اهتمامات مركزنا العربي:

ماذا يمكن أن يتوجه به المركز، من باب النصح على أقل تقدير، إلى المواطن العربي، والمؤسسات والهيئات العربية، وحتى الحكومات العربية، ومن باب تقديم البدائل، هل من توجه تتحدد من خلاله صورة موقف عربي من التجربة التركية الرائدة، التي أرى فيها وفق تقديري وتقييمي المتواضع، فرصة عظيمة يمكن أن يجتمع حولها موقف عربي موحد، أو حتى موقف موحد للشعوب العربية المسحوقة المتطلعة إلى الأمن والأمان وصب الحريات في هويتها، والتخلص من تأثير غطرسة (الغرب) الداعمة للاستبداد بكل صوره. هل من بدائل تسهل على تركيا والعرب تجاوز خلافاتهم، والتماثل إلى إصلاح ذات البين قبل فوات الأوان؟ ماذا يمكن أن يقدمه المركز من بدائل تمكن تركيا من تجاوز الموقف الأمريكي المرتبك؟ ثم ماذا يمكن أن يقدمه مركزنا العربي من بدائل قصد تجاوز التنافر بين الإخوة المتناحرين على أرض العراق والشام؟

دائما في إطار إمكانية تحديد رؤية إيجابية تجاه التجربة التركية، خصوصا بعد العملية الانقلابية الفاشلة، نحاول مقاربة الموضوع من خلال رؤية الأستاذ الدكتور الطيب برغوث مدير مؤسسة السننية للدراسات الحضارية تحت عنوان: ما يفرضه الدرس التركي على النخب الفكرية السياسية والاجتماعية من مسئوليات.
المصدر: صحيفة الوطن الجزائري ـ إخبارية إلكترونية جزائرية شاملة.

 التاريخ 27 تموز/ يوليو 2016.

بدأ الدكتور مقاربته بقوله: إن الخطوات الجادة التي خطاها المجتمع التركي في محاولة تحقيق مرحلة الإقلاع من مسار نهضته الحضارية الطويل، ليست خافية على أي متابع موضوعي منصف، سواء على مستوى خطوات بناء منظومة التداول الديمقراطي على السلطة، أو على مستوى خطوات التنمية الاقتصادية، أو على مستوى التنمية الاجتماعية، أو على مستوى التنمية الثقافية ورفع الوعي بثقافة النهضة، أو على مستوى التأسيس للدور والموقع الإقليمي والدولي.
أول ملاحظة بخصوص المدخل أو الحوصلة المتقدمة، إذ يمكن أن نبدأ حديثنا في موضوع معين بخلاصة، لكن نجعل منها مقدمة لحديثنا، الملفت في هذه الخلاصة، قول الدكتور أنها ليست خافية على أي متابع موضوعي منصف، وإذن فالمتابعون للشأن التركي كثر، وهذه الكثرة تنطلق من مرجعيات وأجندات وتصورات ومهام وأهداف وأدوار ومواقف متعددة.

الجانب الثاني أن خلاصة المدخل، يمكن تلخيصها في أن المجتمع التركي حقق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وقطع خطوات إيجابية في إطار التداول الديمقراطي على السلطة، وهو في طريقه لبناء دور إقليمي ودولي محترم. هذا يمكن أن يتفق عليه الأتراك وغير الأتراك، يسلم به السياسيون في تركيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء. أما الجانب الأهم الذي لا يستوعبه المتتبع بسهولة، خصوصا جمهور الصحوة الاجتماعية، هو: ـ مسار النهضة الحضارية الطويل.
 ـ رفع الوعي بثقافة النهضة.

هذا الذي ينبغي تتبعه رفقة الدكتور، والسؤال في سؤاله قدر الإمكان.

وكأن الأستاذ يقول لنا أن غياب مثل التجربة التركية في أنحاء وطننا العربي، وغياب مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وخطوات التداول الديمقراطي على السلطة وبروز ملامح دور إقليمي ودولي محترم، هو بسبب غياب مسار نهضة حضاري، وغياب الوعي بثقافة النهضة.

وكأن الأستاذ يريد أن ينبهنا أن سنن التحول على طريق النهضة من أجل الوصول إلى عتبة الإقلاع الحضاري، لا يمكن أن تحابي الإنسان بالنظر إلى نسبه أو عرقه أو تاريخ أجداده، أو أمواله وعروشه التي ورثها من الاستبداد.

لهذا نجد الدكتور الطيب برغوث مدير مؤسسة “السننية والدراسات الحضارية” يقول بعد خلاصته الشيقة، دائما بخصوص الشأن التركي، أو النموذج التركي:
لقد استطاع المجتمع التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية، ومعارضته السياسية، ومجتمعه المدني، ونخبته الفكرية عامة، رغم التباينات المختلفة فيما بينها، أن يستجمع الكثير من شروط نهضته، وأن يضع نفسه بذلك على طريق النهضة الصحيح، وأن يقدم نموذجا مقبولا لغيره من المجتمعات الأخرى في العالم الإسلامي خاصة والعالم الثالث عامة، التي تتلمس طريق نهضتها الحضارية المتوازنة، المؤسسة على أصالة فكرية وروحية وأخلاقية متينة، وعلى معاصرة أو حداثة راشدة، تجنبه مخاطر الاستلابية المرضية سواء لماضيها الذاتي المشرق، أو لحاضر الآخرين المزدهر.

والسؤال ضمن مسار حزب العدالة والتنمية، أو مسار هذه الحركة الإصلاحية، كيف توصلت إلى بناء جسور الثقة بين أطياف المجتمع التركي بمختلف مرجعياته، وآماله وتطلعاته، وحافظت على تماسكه وقللت من ملامح التنافر داخله، كتربة وطينة لازمة ومطلوبة لغرس ونماء شروط نهضة المجتمع في طريقه إلى عتبة الإقلاع الحضاري، إن مثل هذا الانجاز يذكرني بموقف سيد الأنام نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كيف حافظ على كيان المجتمع القرشي، كيف مد الجسور بين أطرافه، كيف حافظ على تماسكه، ثم كيف تواصل معه بعد هجرته إلى يثرب، أين أسس حركته الإصلاحية، أو مجتمع الشهادة، الذي تعذر قيامه بادئ الأمر في مكة، كيف تواصل مع كيانه الأم في مكة وكان أحرص الناس على سلامة الجسد الواحد، وحريصا على عدم فقدان هذا الجسم لمقومات الحياة؟
لعل الدكتور الطيب برغوث من المهتمين بتفسير هذه المسألة تفسيرا سننيا، خصوصا ضمن مجهود التفسير السنني للقرآن الكريم.

وإذن فالنموذج التركي في غاية الأهمية بالنسبة لعالمنا الإسلامي خصوصا، والعالم المتخلف عموما، فهو نموذج اجتهد في عملية هدم الضلال مقترنا بعملية البناء، وحرص أن يكون الهدم من مقتضيات البناء وضروراته، بل جعل عملية الهدم ضمن عملية البناء ذاتها، بوسائلها وأدواتها السليمة والصحيحة والفعالة، بكثير من الحزم والنعومة التي تقتضيها حركة الإصلاح في تناغم تام مع قوله تعالى: ” قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب” الآية 88 من سورة هود. كيف تم التوفيق بين الماضي والحاضر تجسيدا لما جاء في الحديث النبوي الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.

وإذن فإن بناء جسور الثقة بين أبناء الجسد الواحد و/أو الكيان الواحد، ذات أهمية قصوى في حياة الشعوب والأمم.

يواصل الدكتور الطيب برغوث رؤيته بقوله: لهذا فإن الانقلاب الدموي الذي حدث في تركيا يوم 15/07/2016 يعتبر جريمة في حق هذه الجهود الجادة، التي تبذل من أجل إنجاز المرحلة الأساس في مسار النهضة الحضارية الطويل، وهي مرحلة الإقلاع الحضاري، التي سترتكز عليها بقية مراحل المسار التالية، وتتأثر بها إلى حد كبير، لأن ما حدث يضر بمسار هذه النهضة ويربكه ويشتت جهده ويضاعف متاعبه، كما يبدو ذلك من المؤشرات الأولية الخاصة بالأرقام المنشورة عن المعتقلين والمبعدين، والمتحفظ عليهم، والموتى.. وما يحمله ذلك كله من دلالات مستقبلية معقدة على الصعيد الاجتماعي والسياسي.
من ناحية تجريم الانقلابيين فإن المسألة صارت محسومة على جميع المستويات، أما من حيث كون العملية الانقلابية مضرة بمسار النهضة تشتيتا للجهود ومضاعفة للمتاعب وإرباكا للقائمين على عملية البناء والإصلاح، يبقى الحكم على ذلك نسبيا، خصوصا أن حكومة العدالة والتنمية كانت محترزة إلى أبعد الحدود، وكانت تتوقع مثل هذه التحديات، ولذلك يمكن أن تكون هذه العملية في توقيتها وفي طبيعتها ونتائجها جد مفيد لصحة المسار النهضوي، ونستطيع القول أن العملية هذه أجهضت مخطط المتربصين بحركة الإصلاح، الذين كانوا يهدفون إلى ضرب المسار ضربة موجعة لا تبقي ولا تذر، لذلك تصوروا، لا قدر الله، في حال سيطرة الانقلابيين على البلاد، الإجراءات التي كانوا سيقومون بها في حق المجتمع والدولة التركية. ولذلك فإن المؤشرات الخاصة بأعداد الموقوفين والمبعدين والمتحفظ عليهم تصب كلها في مصلحة المسار النهضوي، وذات دلالة على انسجام عملية الهدم والبناء في حزم ونعومة تامين، وإلا فما هي البدائل التي كان من الأفضل الاعتماد عليها في التصدي لمثل هذه العملية الانقلابية الشرسة؟ أما المتاعب والتحديات في طريق الجهود النهضوية فهي من صميم: ” يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم، وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ” الآيتان 29 ـ 30 من سورة الأنفال.

 لقد تابعت مسار العملية الانقلابية بكثير من الترقب والتأمل في وقتها من خلال قناة الجزيرة الإخبارية التي تابعت باحترافية فائقة الحدث المؤلم، وتابعت حالة الرئيس التركي وهو يوجه كلمته وكأنه يبعد عن تركيا بآلاف الأميال، أو كأنه صار معزولا ينتظر مصيرا مجهولا، وتساءلت عن مسار العملية برمتها، عن وقتها الذي سوف تستغرقه، والنتائج التي ستسفر عنها ن ومصير المجتمع والدولة التركية ن وموقف أعداء الحرية من المستبدين، وخصوصا السيسي وإسرائيل، وعروش الاستبداد في عالمنا العربي، لم أستطع التلفظ بكلمة واحدة، إلا أنني استحضرت صورة الرئيس التركي باكيا يمسح على المباشر دموعه، ليس لأن نسبة الأصوات التي تحصل عليها حزبه غير حاسمة في الانتخابات، أو لأنه فقد أحد أقربائه، أتدرون لمن ذرفت تلك الدموع، وكم أبكت معها من النساء والرجال، كانت بسبب استشهاد تلك الفتاة المصرية البريئة التي قتلها السيسي وزبانيته. حضرتني أيضا صورة تلك السفينة التي بعث بها إلى غزة أواخر شهر الرحمة والغفران، ليس إرضاء لإسرائيل ولكن، رغم أنف إسرائيل، إرضاء لإخواننا المرابطين الذين يدافعون حفاظا على عرض المسلمين. عندها قلت: يا رب لا تخيب مجتمع تركيا ودولتها، ولا تخيب رئيسها، إنها القلعة الوحيدة المتبقية شعرة موجهة في حلق الظالمين، وحمدت الله بعد سويعات فرج الله فيها كربة المستضعفين.

يواصل الدكتور الطيب رؤيته بقوله: إن المجتمعات التي تخوض معتركات النهضة الحضارية الجادة، تحتاج إلى شحذ فعاليتها الاجتماعية التكاملية، وإلى التقليل من الجهد التنافري الاهتلاكي الوطني إلى حد كبير، والتركيز على الأولويات الوطنية الحقيقية، وتوجيه الأولويات الفردية لخدمتها، والعمل الدائب على توسيع المشترك الوطني وتعميق الوعي به والحرص عليه لدى كل أجيال المجتمع، وتعزيز منطق وروح الشراكة الوطنية الحقيقية، من خلال تحقيق المزيد من شروط التواصل والحوار المجتمعي، وتعميق ثقافة الاستماع والتسامح والرحمة والإحسان، وإعلاء منطق احترام القانون والاحتكام إليه.

مثل هذا الكلام وغيره مما ذكره الأستاذ، تم تداوله كثيرا، وبصيغ مختلفة، فلمن هو موجه بالذات في الوقت الحالي، وكيف يمكن ترجمته إلى أرقام ذات دلالة، ثقافيا، اجتماعيا وسياسيا، خصوصا على مستوى المجتمع والدولة في مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص، والمجتمعات المسلمة عموما، ما هي الإكراهات الحقيقية التي حالت دون تحقيق مسار نهضوي كالذي تشهده تركيا مجتمعا ودولة؟ وإذا كان المقصود بهذه التوجيهات هو الحالة التركية، فما الذي تحقق، وما الذي لم يتحقق بعد، حتى يتداركه إخواننا الأتراك في أوانه؟

أهم ما ذكره الأستاذ في توجيهاته، قوله: إن الخبرة السننية المتصلة بإدارة الأزمات خاصة، والمجتمعات عامة، تعلمنا بأن توسيع نطاق الضرر أو دائرة المتضررين من الأزمة الاجتماعية، يشكل خطرا كبيرا على السلطة المديرة للمجتمع، وعلى المصالح العليا للمجتمع نفسه ، لأن الإحساس بالظلم يؤسس لظلم مضاد، يظل متربصا ومتحفزا للانتقام بدوره، بحق أو بغير حق، وهكذا دواليك يعيش المجتمع دوامة الاهتلاك الذاتي المنهك، ويستنزف جزءا عزيزا من ميزانيته التسخيرية في الانتفاض والانتفاض المضاد إلى ما لا نهاية، وهو ما يعيق بل ويعطل تحقيق النهضة الحضارية للمجتمع، التي يجب أن لا يشغل الناس عنها أي شيء من الأولويات الجزئية أو الذاتية الأخرى.

إن ما ذكره الدكتور الطيب برغوث ضمن الفقرة الأخيرة، هو من التحديات الخطيرة في حياة المجتمعات والدول، خصوصا إذا أدركنا اهتمام الدوائر المخبرية في عالمنا المعاصر، بتنمية بذور الصراعات المصطنعة داخل المجتمع الواحد، معتمدة في ذلك على الاستثمار في نتائج الأزمات التي يعيشها عالمنا الإسلامي خصوصا، والعالم المتخلف عموما، فهي تنطلق من داخل عقول المستضعفين أنفسهم وتتحدث إليهم باللغة التي يفهمون، وترفع أحيانا بعض الشعارات التي يحبذون وما إلى ذلك من أساليب المكر والخداع من باب الغاية تبرر الوسيلة، خصوصا في ظل ظروف الاستبداد الذي ضربنا كثيرا في عقولنا وفي أنفسنا وفي أعراضنا وفي أموالنا وحتى في معتقدنا.

سؤال أسأله في سؤال ما ذكره الأستاذ الطيب برغوث بقوله: ولأن التجربة التركية في الديمقراطية والتنمية والنهضة، مهمة للمجتمع التركي ولغيره من المجتمعات التي تعيش عسرا وإخفاقا في العبور نحو الديمقراطية الحقيقية المتصالحة مع الهوية الذاتية للمجتمع، ومع رشد الخبرة البشرية المعاصرة فإن الحرص على نجاح هذه التجربة أمر يهمنا جميعا، ويدعونا إلى تفعيل منطق المناصحة.

في هذا الباب بالذات أتساءل في مقاربة موضوع الديمقراطية من خلال قول الأستاذ: (العبور نحو الديمقراطية الحقيقية المتصالحة مع الهوية الذاتية للمجتمع)، ما معنى متصالحة؟ ماذا حملت الديمقراطية من مخاطر شكلت تهديدا على هوية المجتمع؟ وإذا أمكن تحديد مثل هذه المخاطر، ما هي البدائل التي تجعل الديمقراطية حقيقية ومتصالحة مع هوية المواطن؟ إن كثيرا من الغموض صاحب مقاربة موضوع الديمقراطية، خصوصا في العصر الحديث وحتى أيام الناس هذه، إن ممارسات (الغرب) المتباهي برأسماليته ليست حجة سوى على الغرب، خصوصا ما تعلق باستقرار المجتمعات وحياتها في إفريقيا وآسيا، وحتى في أمريكا وأوروبا، قديما وحديثا، أما الديمقراطية فقد حملها (الغرب) ما لا تحتمل، إلى الحد الذي جعلنا نحمل الديمقراطية أوزار السياسيين المغامرين الذين أساءوا كثيرا إلى حقوق الإنسان باسم منظماتهم، وإلى أمنه باسم مجلس أمنهم. إن الديمقراطية بريئة من كل التهم، لقد عرفها أحد حكام دولة المدينة الأثينية المنضبطين وأحد فلاسفتها خلال القرن الرابع قبل الميلاد، ألا وهو (بريكليس) بقوله: “على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون، وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن” ( 1).

 لقد جعلوا من الديمقراطية كبش فداء، حتى قالت إسرائيل عن نفسها أنها دولة ديمقراطية، وأظهروا بن يمين نتنياهو على أنه ديمقراطي، وهم أخوف الناس من الديمقراطية، إن الديمقراطية واحدة، ومعناها واحد، لا توجد ديمقراطيات، هناك ديمقراطية واحدة، ولكم أن تبحثوا عن السر الذي جعل (جان جاك روسو) يقول: ” الديمقراطية في معناها الحقيقي والصارم لم توجد قط ولن توجد أبدا ” (2). ولكم أن تتأملوا في تأملات فيلسوف الحضارة الأستاذ مالك بن نبي في كتابه (القضايا الكبرى) كيف استخلص ملامح الدولة الديمقراطية، وكيف حدد من خلال ذلك ملامح الإنسان الديمقراطي، الذي وصفه بالإنسان الجديد أو الإنسان الحر، وضبط ملامحه بأنه: الحد الفاصل بين نافية الـ (أنا) ونافية الـ (آخر)، ثم كيف كشف حقيقة إنسانية (الغرب) التي عبر عنها بالإنسانية الجذبية.

الديمقراطية واحدة، الذي يمكن أن يتعدد هو ممارساتنا، وقربنا أو بعدنا عن معناها الحقيقي الذي يجعلنا نكيل في قضايانا الإنسانية بمكيال واحد، لا نكيل بمكيالين، إن الرئيس رجب طيب أردوغان طيب الله روحه وأحسن إليه، هو المؤهل كي يعطينا اليوم دروسا في الديمقراطية، أما ساسة (الغرب)، فأرى أن السيدة المحترمة أنجيلا ميركل هي الأقرب من أن تقول شيئا جديدا في الديمقراطية في باب قضايا الإنسان وحقوقه بشرط أن تتخلص من جذبية (الغرب) في إنسانيته.

الفرصة مواتية لعالمنا الإسلامي خصوصا وللعالم المتخلف عموما، كي نتجاوز أنانيتنا وتنافسنا للدنيا فنصطف وراء تركيا في شموخها ورسالتها الحضارية، وإلا فلن تنفعنا عروشنا ولا أموالنا ولا أحزابنا ولا شعاراتنا ولا تنظيماتنا بأسمائها وألقابها، وإذا تأخر الساسة والحكام، فالجماهير يمكن أن تثبت مصداقيتها، والبداية يمكن أن تكون من أرض الشام ومع أبناء الشام رغم الجراح والآلام، إنهم الأقرب إلى إدراك أبعاد الفتنة، وأبعاد ما يريده ( الغرب ) بشامنا وعراقنا ويمننا ومغربنا، إن الساعة ساعة نكران وعرفان، نكران الأنا الذي طمس بصيرتنا، وعرفانا لصبر أمهاتنا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا وإخواننا وآبائنا الذين أحرقتهم نار الفتنة، وشردتهم من أرضهم لغتها، إنها ساعة تأمل والتحام، فأما التأمل ففي المأساة وفي أبعادها ومآلاتها، وأما الالتحام فهو بين جميع الفصائل المسلحة المعارضة التي يجب أن تسلم مقاليد القيادة العامة سياسيا وعسكريا إلى من هم أقرب انسجاما مع القيادة التركية، لأنها هي وحدها المؤهلة للحديث بكل مسئولية مع النظام السوري، وإيران، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، بلغة مصلحة بلاد الشام واستقرار بلاد الشام وبقاء سوريا موحدة لأبنائها وبأبنائها جميعا.

واختم بالقول أن فيلسوف الحضارة وأستاذ الثقافة، المفكر مالك بن نبي، وفق تقديري المتواضع، كان يتجنب إعطاء حلول جاهزة، ويرفض أن نتعامل مع الأفكار كما نتعامل مع السلع المعلبة والمستوردة، إنه كان أحرص الناس على أن نتعلم كيف ننطلق من داخل عقولنا، ومن داخل مشكلاتنا فنهدم صورنا المشوهة، لا لنستبدلها بصور أقبح، ولكن كيف نخلصها من سيئها ونحافظ على مقومات حياتها وبقائها، كيف نجعل هدم الضلال استثناء، بل ضرورة من ضرورات البناء.

إن (الغرب) اليوم، ليس أفضل وأحسن ـ اللهم إلا شكلا وزخرفا ـ مما كان عليه الروم قبل مجيء المسيح عليه السلام وبعده، كما أن عالمنا الإسلامي خصوصا، والعالم المتخلف عموما، من زاوية الأسس التي يقوم عليها الشعور الديمقراطي، ليس أفضل و/أو أحسن مما كانت عليه الإنسانية قبل مجيء خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، أي قبل مجيء الإسلام. خصوصا إذا أدركنا أن الديمقراطية سلوك حضاري ينظم نشاط الحاكم والمحكوم في المجتمع على سبيل الإلزام.

إن مثل هذه المقاربة تقتضي التفسير الآتي:
 
*سلوك حضاري من حيث أنها لا يمكن أن تتحقق سلوكا وممارسة في واقع أي مجتمع إنساني بالمعني الإيجابي، إلا إذا رسمنا خطها البياني وفق أحكام السماء، أي على أساس التكريم الرباني للإنسان، نتيجة تسليم الجميع بعدم كفاية العقل، وقصوره وعجزه أمام الأهواء، ويقتضي ذلك ضرورة اعتماد أي مشروع ديمقراطي عالم المجتمع الثقافي وعمقه الحضاري أي صب الحريات في هوية المواطن. أساس التكريم الرباني غاية إنسانية من متطلبات الفطرة السليمة، وتعدد المعتقد ليس حجة إلا على الإنسان في حد ذاته، والقول الفصل ما صرح به القرآن الذي تكفل الله بحفظه:” قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي ديني ” سورة الكافرون *وهي بهذا المعنى، تلغي السلوك البدائي ولو بصفة تدريجية، لا تنظر للإنسان وحيدا منعزلا في الطبيعة، فهي تنتقل بالإنسان من دائرة الفرد في القبيلة، أو الطائفة، وما شابهها من تنظيمات اجتماعية، إلى دائرة الإنسان الشخص في المجتمع، الإنسان الحر ( بتعبير مالك بن نبي )، الإنسان الذي يقف حدا فاصلا بين نافيتي الشعور الديمقراطي كبذور محفوظة في ضمير الإنسان، تتحول تدريجيا عن طريق العمل المؤسساتي إلى طاقة فعالة تترك أثرها في حياة الفرد والجماعة، كل ذلك في نطاق عملية التقويم التي تستمر ما استمرت الحياة.
*وهي بهذا المعنى تخدم الإنسان بغض النظر عن معتقده وجنسه ولونه ولغته.

*وهي بهذا المفهوم تحرر المجتمع تدريجيا من دائرة ردود الفعال، وتخرجه من حلبة الصراعات المصطنعة، القديمة والحديثة والمتجددة، ومن شعاراته المزيفة، لتضعه على طريق الفعل الحضاري فكرة وتطبيقا.

*وهي بهذا المدلول تثمن القدرة والكفاءة والتواضع والقبول، كخلاصة لاستثمار الإمكانات والقدرات الذاتية من خلال العمل المؤسساتي والمجتمعي، في نطاق تنمية المهارات وتنويع الخبرات وتفعيلها.

* هي سلوك ملزم بسبب تسليم الجميع بقصور العقل البشري وعدم كفايته في مواجهة الأهواء والنزعات النفسية، والأغراض الفئوية ، وحاجة الإنسانية إلى معلم يحدد علاقة كل من الحرية والإخاء والمساواة في تناغم تام يحفظ للإنسانية رأس مالها وأمنها وأمانها، فتتحدد العلاقة في صورة تشبه إلى حد بعيد حركة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، فلا تعارض ولا تداخل بينها، بل كل منها له فلكه، وكل له حدوده، فيصدق عليها هي الأخرى قوله سبحانه: ” لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ” الآية 40 من سورة يس. فمن ذا الذي يستطيع تحديد منازل كل من الحرية والإخاء والمساواة وكثير من المسائل الأخرى المتصلة بحياة الناس، أهو الفكر الغربي الذي أثبت محدوديته في تدبير علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ أهي الكنيسة التي خاطبها الغرب بالأمس القريب: (لا نريد ربا ولا سيدا)؟ أم هو الفكر الشيوعي الذي أبدع في مخاطبة إنسان القرن العشرين بقوله الفصل: (لا إله والحياة مادة)؟ من يستطيع ضبط مثل هذه المنازل حتى يمكن القول: لا الحرية ينبغي لها أن تدرك الإخاء، ولا المساواة تلغي الحرية، وكل في فلك يسبحون.

* وهي بهذا المفهوم، تهدف إلى بناء مجتمع إنساني صالح، خصوصا إذا أدركنا ما يلي:
1/ استحالة الفصل بين الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية، أي بين ما هو روحي وما هو فكري وحسي.
2/ استحالة الفصل بين الحقوق والواجبات.
3/ استحالة وعبثية الفصل بين العدل والحرية والإخاء والمساواة.
4/ حاجة الإنسان إلى القانون كضرورة من ضرورات الحياة.
5/ التعيين في مناصب إدارة الشأن العام مجتمعا ودولة، هو واجب وتكليف، أكثر منه حقا وتشريف.

تركيا اليوم وأكثر من ذي قبل في حاجة إلى كل الأحرار، من مواقعهم وثغورهم وخصوصياتهم، أن يتخلصوا من شعاراتهم المزيفة، وانتماءاتهم الضيقة، وأفكارهم الميتة والقاتلة، ومواقفهم المثبطة.

بشير جاب الخير
31 جويلية 2016

الإحالات:
( 1 ) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دار الفكر المعاصر ـ بيروت ـ لبنان ـ ص 135
(2 ) د. عبد الله شريط، مع الفكر السياسي الحديث والمجهود الأيديولوجي في الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 3 شارع زيغود يوسف ـ الجزائر ـ ص 12.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version