كثيرة هي الملتقيات والمؤتمرات التي تعقد في عالم الناس، لكن كم هي تلك التي تهتم فعلا بالنظر في مشكلاته، بل كم هي تلك التي تبحث فعلا عن حلول لتلك المشكلات، ثم ما علاقة هذه الملتقيات وتلك المؤتمرات بالدوائر السياسية الفاعلة في عالمنا المعاصر؟ ثم بعد ذلك ما موقع ملتقياتنا في عالمنا الإسلامي الذي لم يعد كبيرا بمؤتمراته بقدر ما هو مثقل بمشكلاته منهك بمأساته؟ مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير هي التي تدفعنا إلى الدخول من بابها لنسأل سؤالنا في ملتقياتنا ومؤتمراتنا، ومنها تحديدا سؤالنا في الملتقى الذي عقدته جمعية العلماء المسلمين في الجزائر.

* المرجع: جريدة البصائر لسان حال الجمعية، رقم 812 بتاريخ 07 ـ 13 رمضان 1437 هـ / 13 ـ 19 جوان 2016.

* تاريخ انعقاد الملتقى: الخميس 03 رمضان 1437 هـ / 09 جوان 2016

* عنوان الملتقى: المنظومة التربوية برؤية استشرافية للفوز بالحاضر والمستقبل

لأهمية الموضوع يمكن أن نذكر أنفسنا ونذكر القارئ الكريم بأهمية الملتقيات ومنها ملتقى الفكر الإسلامي الذي كان يعقد سنويا بالجزائر، لا أدري لماذا غاب الملتقى؟ هل هو الذي ضاق بنا أم أننا نحن الذين ضقنا به، لا أدري فعلا لماذا غيبنا مثل ذلك الملتقى؟ ثم كم هي الملتقيات التي احتضنتها الجزائر، هل سجلنا بعضا من آثارها، هل نذكر بعضا من أعمالها، وما هي المساهمات التي تركت أثرا طيبا بيننا؟ إن تاريخ ملتقياتنا جزء من تاريخنا الذي يبقى شاهدا على حضورنا أو غيابنا، وعينا أو تيهنا.

أعود لملتقى جمعية العلماء عندنا، فأقول إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولدت ولادة، ويا لها من ولادة، إنها حلقة في سلسلة الولادات المتصلة من خلال حبلها السري بحبل الرسالات السماوية التي تحلت بحلتها وتزينت بزينتها وأشعت بنورها الأرض في فلكها وأنشد نشيدها أبناءها البررة من الأنبياء والرسل وتوارثه بعدهم العلماء الأطهار والمفكرون الأنوار، ولذلك ليس غريبا أن تزهو أرض الجزائر بميلاد جمعيتها وتردد بعد ذلك أنشودتها الخالدة المخلدة من خلال ثلة من علمائها ومفكريها الذين شربوا ماء زمزم الإيمان والحرية، ولذلك ليس غريبا أن يردد أبناء الإبراهيمي وابن باديس أنشودة الوفاء ويحفظوها جيلا بعد جيل:

شعب الجزائر مسلـــــــــــــــــــــــم * شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب * أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب
يا نشئ أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب * خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل والإحسان واصدم من غصب * واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
وأذق نفوس الظالمين سما يمزج بالرهب * واهزز نفوس الجامدين فربما حي الخشب
من كان يبغي ودنا فعلى الكرامة والرحب * أو كان يبغي ذلنا فله المهانة والحرب
هذا نظام حياتنا بالنور خط وباللهب * حتى يعود لقومنا من مجدهم ما قد ذهب  
هذا لكم عهدي به حتى أوسد في الترب * فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب
   
إن ميراث جمعية العلماء هو ميراث جميع الجزائريين، تسعهم بفكرها ومواقفها وتاريخها وحكمتها جميعا، الجمعية ليست حزبا ولا يمكن أن تكون كذلك، لأنها لا تتحمل ضيق الأحزاب ولا تحتمل الفرقة والخصومات، ليست جمعية جهة بعينها ولا عرقا ولا لونا ولا مذهبا، أو فئة دون فئة أو قوما دون قوم، وهي بذلك لا تضيق سوى بالرداءة وبأهلها وبالجهل وبأهله، وهي بذلك ولذلك لم يصدق عليها ولا فيها قول الله سبحانه: “من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون” الآية 32 من سورة الروم. والقصد من الاستشهاد بهذه الآية ليس من باب نفي العمل السياسي في إطار الأحزاب السياسية، أو الإساءة للعمل السياسي في حد ذاته، ولكن هو من باب التذكير بأهمية المبادئ والأسس التي اعتمدها علماء الجزائر عند تأسيس جمعية العلماء، الذين حرصوا على وحدة الجزائر ووحدة شعبها ووحدة مصيرها في حاضرها ومستقبلها.

إن جمعية العلماء في أرض الشهادة والشهداء يمكن أن تكون بنا ولنا صمام أمان لنا جميعا حكاما ومحكومين، عصاة ومنيبين، إنها تستحق منا كفاءاتنا جميعا ومساهماتنا جميعا، إلا أنها لا تتسع شبرا واحدا لرداءتنا النابعة من عدم رضانا وقلة حيائنا وشراسة جزعنا فينا.

جمعية العلماء هي فضاء داخل فضاء، فضاء للعلم والعمل والبناء من خلال مشاريع العلماء، يشملها فضاء الحرية في كنف وحدتنا وعزتنا وكرامتنا واستقلال رؤيتنا التي تشكلت وارتوت بأنهار من دماء الشهداء الأبرار.

أعود لملتقى الجمعية في أيام الناس هذه، في شهر رمضان، شهر الله الذي تعلمنا منه الكثير في سكوننا وفي حركتنا، في حلنا وفي ترحالنا، في قراءتنا وفي نظرنا. هذا الشهر الذي ضاق أفق قلة من الناس لقدومه، وجزعت قلوب فئة منهم بحلوله، أولئك الذين راحوا يتسابقون لإنهاء بعض من جليل أعمالنا ذات البعد العلمي والتربوي قبل الأوان، وكأن رمضان لا يصلح لمثل تلك الأعمال، أو كأنه يتعارض حلوله مع ما جل من الأعمال، لا أدري ما السبب؟ القراءة وحدها يمكن أن تدلنا على العلة أو على منبعها، إن رمضان هو شهر القرآن والرحمة واليسر والغفران: “شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون” الآية 185 من سورة البقرة.

لا أدري كيف تحول شهر القرآن والرحمة والهداية والجد والمثابرة إلى مصدر خوف وقلق بالنسبة لقلة منا هداها وهدانا وأجبر كسرها وكسرنا الله إنه سميع مجيب الدعاء آمين.

إن شهر القرآن يدلنا من خلال القرآن على علة الجزع عند قلة منا من حلول شهر الفرقان، يقول الله سبحانه: “إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا  ،وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، إن عذاب ربهم غير مأمون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم بشهاداتهم قائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون، أولئك في جنات مكرمون.”  الآية 19 من سورة المعارج.

إذن المسألة هي مسالة هلع في شقه السلبي، لأن الشق الإيجابي من الهلع الذي يولد مع الإنسان ويحفظ كيانه وإنسانيته من خلال إيمانه بالله وتوحيده ورضاه بقسمته ونصيبه في كنف تعظيم أوامر الله ونواهيه، بذلك يكون خوفه من الله نعمة لا نقمة، وأما في جانبه السلبي الذي ينبع من عدم رضاء الإنسان بقسمته ونصيبه مما يتولد عنه خوفه في صورته المعبر عنها بالجزع والمنع الذي يطبع حينا بعد حين مواقف فئة فينا ومنا، لا نجد لذلك مبررا لا في عالم الحساب ولا في عالم القيم، كأن يجزع قوم منا من قدوم شهر الرحمة وحلوله بيننا، وكأنه جاء لقهرنا وخلط أوراقنا أو الحد من عزيمتنا أو طمس بصيرتنا، وهو دون ريب شهر الله كله خير وبركة وشفاء . لقد تسرعنا في تقديم موعد امتحانات نهاية السنة وخصوصا امتحان شهادة البكالوريا في دورتها الأخيرة إلى 29 ماي 2016 لقد هربنا من فسحة رمضان إلى ضيق أنفسنا وشراسة جزعنا فينا، لذلك سرعان ما سقطنا في أوحالنا التي نسجنا خيوطها بأيدينا فتألمنا أشد الألم وضاقت بنا الدنيا حتى لم نعد نميز صورتنا بين الصور وسبيلنا بين السبل فأغلقنا مجال الرؤية في وجه أبنائنا وموظفينا الذين كادوا يفقدون كل حكمة وصواب لأننا أفقدنا مواعيدنا روحها وأشبعناها موتا، قتلناها بسبب خوفنا الذي لم نجد له من مبرر، غير أن الحل جاءنا والحمد لله من داخل رمضان ومن صميم شهر الرحمة والغفران، لذلك لا أدري لماذا جزعنا ومنعنا عن أنفسنا خير رمضان، والحقيقة التي لا يختلف حولها اثنان، بل لقد شعر بها الصغير والكبير، وكلهم شهدوا على أن خلاصنا كان في رمضان بأيامه الخمسة 19 ـ 20 ـ 21 ـ 22 ـ 23 جوان 2016 / 13 ـ 14 ـ 15 ـ 16 ـ 17 رمضان 1437 هـ، لقد كانت من أحسن الأيام بردا وسلاما، كفتنا ببردها وسلامها وخفتها مشقة الأعمال، وكفتنا مساوئ التدخين وكثرة الخروج من حجرات الامتحان، كفتنا قلقنا ووساوسنا وانزعاجنا، لقد غمرنا رمضان برحمته وحنانه حيث سكنت النفوس وهدأ البال وسلمت الأبدان، كل هذا الخير أتى به رمضان، وكثير منه لم نشعر به بسبب هلعنا وجزعنا ومنعنا الذي لازمنا قبل رمضان وخلال رمضان، لقد وصف لنا القرآن في شهر القرآن الدواء الذي هو في متناول من قرأ القرآن ورضي بالقرآن وتداوى بالقرآن وهو يعلم أن رمضان هو شهر الله الذي دل عليه الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قال  الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أيطب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه.” متفق عليه.

نعود لملتقى جمعية العلماء:

المنظومة التربوية برؤِية استشرافية للفوز بالحاضر والمستقبل

ماذا هناك؟
* رؤية ـ * استشراف ـ * فوز بالحاضر ـ * فوز بالمستقبل

1/ ماذا يمكن أن نقرأ من خلال هذا العنوان؟
2/ ما هي الصورة أو الصور التي يمكن أن تتشكل في أذهاننا؟
3/ ماذا يمكننا أن ننتظر بعد انتهاء أشغال الملتقى؟
4/ ما هو الموقع الذي سوف تحتله جمعية العلماء بملتقاها في عالم الأفكار؟
5/ ما هو الأثر الذي سوف تتركه أعمال الملتقى في واقع الناس، وتحديدا في واقع المدرسة الجزائرية؟
6/ ما هي طبيعة العلاقة التي تربط جمعية العلماء بالدوائر الفاعلة من خلال وظيفتها الاجتماعية والحضارية في أيام الناس؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير تجعلنا نستند في قراءتنا قبل كل شيء إلى المرجع الذي دخلنا من بابه وسألنا في سؤاله، ألا هو لسان حال الجمعية: جريدة البصائر في صفحتها الـ 20.

أبدأ بكلمة رئيس الجمعية، الدكتور عبد الرزاق قسوم:

“وبعد فقد تشابكت في الواقع الوطني عوامل عديدة هي التي دعت إلى عقد هذا اليوم الدراسي الخاص لمعالجة هذا الموضوع الخاص من علماء ذوي اختصاص، ويمكن على سبيل المثال التأكيد على أمثلة منها:

1/ أهمية الطفل في كل مجتمع بوصفه لبنة المستقبل والضامن لتحديد معالم هذا المستقبل.
2/ أهمية المدرسة بوصفها الموقع التي فيه تصاغ شخصية الجيل الذهبي الأبي الذي إذا أحسنا بناءه ضمنا أسس المستقبل الوطني بكل مقوماته ومتطلباته.
3/ كون التفاعل بين الطفل والعلم والمؤسسة هو الذي أحدث هذا التجاذب الوطني حول نمطية المنظومة التربوية التي نتوق إليها والكفيلة بالاستجابة لتطلعات شعبنا في صنع المجتمع الأنبل والغد الأفضل الذي فيه يجد كل مواطن وكل مواطنة ما يصبو إليه من آمال وما يتطلب من أعمال.
4/ وفي بلادنا كانت المنظومة التربوية ومنذ عهد ابن باديس ولا تزال إلى اليوم الناس تتوق إلى البحث عن صياغة لها تستوحي مقوماتها من أصالتنا وهويتنا مع الاستعانة بكل ما هو مفيد من تجارب الأمم الحية مما لا يتناقض مع ثوابتنا العقدية والوطنية والإنسانية.
5/ ولا يجادل أحد في ضخامة التحديات التي واجهت منظومتنا التربوية منذ القديم لعل أبرزها يتمثل في الغزو الثقافي الذي كان همه طمس معالم وجودنا وإذابة خصائص حدودنا.
6/ ولئن نجحت المنظومة الباديسية في إثبات وجود جيلنا بما تميزت به هذه المنظومة على قلة إمكانياتها من إيجاد تعليم عربي اللسان جزائري الانتماء إسلامي القيم إنساني الأهداف.
7/ ولئن عززت المدرسة الأساسية هذا التوجه بالتأكيد على هذه الثوابت مع تعزيزها بالانفتاح العلمي الإنساني الناجح، فإنه قد أتى على هذه المنظومة من الانتكاس والانتقاص ما شوه مقاصدها وأبرز مفاسدها وكشف عن هشاشة معاهدها.
8/ إن ما نعيشه يا إخوتي وأخواتي من فضائح تمثلت في سوء التشخيص وقلة التمحيص وقبح التنصيص، وهو ما جعلنا نبعث بنداء الاستنجاد والاستغاثة، وأنتم أطباء وأساتذة المنظومة من أجل إخضاع منظومتنا للفحص الدقيق والتحليل العميق لإيجاد الحل العلمي الذي يليق.
9/ لقد سبق وأن نبهنا في جمعية العلماء بندائنا إلى الأمة إلى فساد المقدمات التي أدت إلى سوء النتائج والغايات، فوصفنا يومها بالأوصاف المشينة الجاهزة كالبعثية والعصبية والرجعية ومعاداة الحداثة والتقدمية … يعلم الله أننا في ما دعونا إليه من نداء إلى الأمة تنبيها لها عن التلاعب بهويتنا التي لا تقبل المساومة وعقيدتنا التي هي دليل المقاومة ووطنيتنا التي أقوم المبادئ وأثبت المداومة، ويعلم الله أن في ما ندعو إليه لا نناوئ العداء لأي أحد، إنما هدفنا الأسمى، هو إطلاق الإشارات والتنبيهات لما يحاك بمشروع مجتمعنا من أجل صياغته وحمايته من الغزو والانسلاب.
10/ ها هي الأمة تضع أمام ضمائركم النبيلة قضية مستقبل أجيالنا الجليلة، وكلنا أمل في أنكم ستولونها بثاقب حكمتكم وحصافة خبرتكم ما تستحقه منظومتنا من عناية واهتمام حتى تنبثق عن يومكم هذا توصيات واقعية وعلمية دقيقة وعميقة كفيلة بوضع مشروع مستقبلي يجنبنا الزلل ويصحح الخلل ويحقق الإجماع حوله بالأمل والعمل. إن التحديات ولا شك جسيمة وكل ما تتمتعون به من إيمان وطني وعزيمة لكفيل إن شاء الله بتجنيبنا الهزيمة واللطيمة.
إن من المهام المنوطة بعاتقكم النأي بمنظومتنا عن التوجه الإيديولوجي الانسلابي السخيف وإبعادها عن التسييس اللامسؤول الخفيف.
11/ كما أن أي تعليم يفصل مناهجه عن المقوم الخلقي هو بمثابة فصل الجسد عن القلب في الإنسان، وهيهات أن يستقيم مثل هذا البنيان، وهيهات أن يتوازن مثل هذا الإنسان.

إنكم بما تملكون من جزم وعزم وحزم ستتمكنون إن شاء الله من تجاوز الصعاب لتحقيق المآب لأنكم ذوو النهى وأولو الألباب.

سدد الله نضالكم وحقق مبتغاكم وعين الله تحفظكم وترعاكم والسلام عليكم ورحمة الله.”

هذا نص الكلمة التي ألقاها رئيس الجمعية كما جاءت به جريدة البصائر.

1/ الطفل هو الأساس في الحاضر وفي المستقبل، إذا كان ولا بد أن نبحث عن حلول لمشكلات اليوم التي يمكن أن تكون هي نفسها مشكلات المستقبل، ينبغي أن نحدد موقع الطفل من اهتمام جمعية العلماء قبل أن نبحث عن الطفل ضمن اهتمامات أي جهة أخرى، وكأنما الجهة الوحيدة التي يقع عليها هذا الواجب هي جمعية العلماء، وعلى هذا الأساس يمكن أن نبحث عن طبيعة هذا الاهتمام من حيث مجهود الجمعية، الطفل في مدرسته مهمل إلى درجة أن كل ما يقوم به المشرفون على المنظومة التربوية هو نشاط خال من أي مضمون والدليل على ذلك أن كل اللقاءات أو الاجتماعات، المركزي منها والجهوي أو المحلي على المستوى الولائي أو على مستوى مقاطعات التفتيش، ينتهي مفعولها بانتهاء أيامها التكوينية التي تقتصر في مجملها على بعض الأوراق التي لا يهمها الطفل في مدرسته أو في بيته أو في محيطه الاجتماعي، السبب في ذلك هو تمييع العملية، لأن تمييع العملية المسماة عملية تكوين يزيد في عمر زمن الرداءة الذي يخدم الفئة المشرفة التي يصدق عليها : فاقد الشيء لا يعطيه، إن الطفل الذي تبحث عنه جمعية العلماء في مدرسته هو الحاضر الغائب الذي لم يصله للأسف الشديد شيء مما يسمونه إصلاحا، والغريب في الأمر أنهم يذكرون على رؤوس الأشهاد أننا وصلنا إلى الجيل الثاني من الإصلاحات، ولئن سألتهم عن الجيل الأول فسوف تصاب بخيبة أمل لأن القوم إن سألتهم فسوف تعثر عندهم على كل شيء سوى ما يطلقون عليه إصلاحا، وإن شئتم فالسبيل إلى إدراك طبيعة ما يسمونه إصلاحا أن تبحثوا عن الطفل في المدرسة وتبحثوا عن المدرسة في حياة الطفل، إن الغائب الأول هو الطفل في مدرسته، وإذن فما قيمة كل عملية لاتصل آثارها إلى الطفل، وحتى تتضح الرؤية يمكن أن نسأل المشرفين على منظومتنا عن موقع الطفل في مهام فئة المشرفين التربويين ، هذه الفئة هي في الأصل فئة المساعدين التربويين الذين تمت ترقيتهم إلى مساعدين رئيسيين تحت ضغط النقابات، ثم سرعان ما تمت ترقية الفئة ذاتها تحت الضغط إلى مشرفين تربويين، حيث خصصت فترة تكوينية لهذه الفئة دامت ثلاثة أسابيع أو أكثر حضر فيها كل شيء وغابت عنها مهام المشرفين التربويين، ولئن سألت المشرفين أو المساعدين التربويين أو حتى مستشاري التربية عن المهام وعن العلاقة بين هذه الفئات فإنك ستصاب بخيبة أمل من جديد، وفي كل هذا فالغائب هو دائما الطفل الذي تبحث عنه جمعية العلماء بصفته الأساس في المنظومة التربوية حاضرا ومستقبلا . مثال آخر، فقد تمت ترقية فئة من الأساتذة إلى أساتذة مكونين، ليس على أساس الكفاءة وإنما على أساس الأقدمية، ومنه فقد حضرت الترقية وحضر معها العنوان وغابت للأسف الشديد الكفاءة والمهام، والعجيب أنك تجد في المؤسسة الواحدة أستاذا واحدا في المادة الواحدة أعطوه رتبة أستاذ مكون، كما تجد أيضا أستاذين أو أكثر في نفس المادة أعطيت لهم نفس الرتبة أي رتبة أستاذ مكون، وإذا سألت من هو المكون، أي المؤطر، ومن هو المكون، أي المتربص أو المستهدف بعملية التكوين، فلن تجد لذلك إجابة، والغريب في الأمر أنك تجد الأستاذ ( المكون) هو أيضا في حاجة إلى تكوين، وكذلك إن سألت عن مهام هذه الفئة التي لم تخضع إلى أي تكوين فإنك لن تعثر على أي إجابة، هذا من ناحية الموظف، أما من ناحية الطفل الذي هو أساس الحاضر والمستقبل فهو رقم مهمل في مثل هذه العمليات المتصلة بالإصلاح ( جيلا بعد جيل ) . أما المناهج والبرامج فيمكنكم البحث عنها جيلا بعد جيل لدى الجيل الجديد من هيئة التفتيش، غير أن الجميع متفق أن الجديد فقط هو بعض العناوين التي نحصل عليها بين الحين والحين كما نحصل في حياتنا على بعض السلع المعلبة التي لا نعرف عنها سوى عنوانها والسعر الذي ندفعه في مقابلها، أما الطفل كأساس وكلبنة للمستقبل وكضامن لتحديد معالم المستقبل وفق كلمة رئيس جمعية العلماء، فهو المثقل بمحفظته والمثقل كذلك بالحجم الزمني الذي تتزاحم عليه المادة الدراسية التي تفتقر إلى منهجية بناء ذهنية الطفل في مدرسته وفي بيته وفي محيطه الحيوي وفق ما تسمح به قدراته واستعداداته التي لا نلتفت إليها إلا يسيرا . مثل هذا الطفل يمكننا البحث عنه أيضا في دائرة اهتمام جمعية العلماء في علاقتها بالأسرة وبالمدرسة فأقول:

 الجمعية مشكورة بطبيعة الحال لأنها فتحت من خلال فروعها على مستوى البلديات مقرات لتحفيظ القرآن الكريم، إلا أن الملاحظ في أغلبها غياب منهجية التحفيظ والسبب في ذلك حضور الأطفال من مختلف الأعمار في وقت واحد حتى أننا صرنا لا نكاد نميز بينها وبيد دور الأطفال الأخرى، مما انعكس سلبا على عملية التحفيظ، ضف إلى ذلك نقص تجربة بعض المشرفات على مقرات الجمعية لتحفيظ القرآن الكريم، أما بخصوص المناهج الدراسية فإن جمعية العلماء، على أقل تقدير لم تخبر جمهورها العريض بمساهماتها في هذا المضمار. هذا من ناحية، أما من حيث البديل الذي يمكن أن تقدمه الجمعية كنموذج يحتذى به فإن المتتبع للشأن التربوي لا يقف على مساهمة واحدة من هذا القبيل، وإذن فما هي المحاور التي اشتغل عليها ذوو الاختصاص الذين عقد عليهم رئيس الجمعية كثيرا من الأمل قصد إيلاء منظومتنا التربوية بثاقب حكمتهم وحصافة خبرتهم ما تستحقه من عناية واهتمام؟

أما بخصوص التوصيات المنتظرة من الملتقى، التي وصفها رئيس الجمعية بالواقعية والعلمية الدقيقة والعميقة الكفيلة بوضع مشروع مستقبلي يجنبنا الزلل ويصحح الخلل ويحقق الإجماع حوله بالأمل والعمل، أهي توصيات موجهة لوزيرة التربية والقائمين على شؤون التعليم، أم للبرلمانيين في مجلسهم، أم هي توصيات للمعلمين في مدارسهم، من هو الكفيل بتحقيق الإجماع وترجمة التوصيات إلى عمل؟ على كل حال يمكننا الانتظار، لعل جريدة البصائر تأتينا بشيء من الأمل.

2/ أما بخصوص صياغة المنظومة التربوية، فقد أكد رئيس الجمعية عدم وجود صياغة تفي بالغرض المطلوب، وعند هذا الحد سيصاب المرء بشيء من الذهول، لأن الدكتور عبد الرزاق قسوم نفى وجود الصياغة المطلوبة منذ أيام ابن باديس إلى غاية أيام الناس هذه، كما أنكم سوف تتساءلون عن السبب، أو ربما عن طبيعة الصياغة التي بحث عنها السيد قسوم ولم يجدها، وإلا فما معنى أن يقول بعد ذلك: (ولئن نجحت المنظومة الباديسية في إثبات وجود جيلنا بما تميزت به هذه المنظومة على قلة إمكانياتها من إيجاد تعليم عربي اللسان جزائري الانتماء إسلامي القيم إنساني الأهداف).

سؤالنا في هذا الباب بالذات هو: ما هي المسافة التي تفصل حضورنا من خلال جمعية العلماء في واقع الناس اليوم عن حضور منظومة ابن باديس في عالم أفكارنا وفي حياة أجيالنا، فهل غبنا نحن أم أن الغائب هو منظومتنا في أفكارنا وفي رؤانا في حاضرنا مع أطفالنا في مدارسنا وطلابنا في معاهدنا وأئمتنا في مساجدنا وتقنيينا في مصانعنا وفلاحينا في مزارعنا.

3/ أما بخصوص المدرسة الأساسية فإنها فعلا أضافت من عوامل النهوض ما شهد به واقع المدرسة حينها، حيث برز إلى الوجود الربط بين النظرية والتطبيق من خلال تجهيز المتاقن بالوسائل العلمية والتكنولوجية التي مهدت الطريق لتعليم وتكوين عال في مستوى تطلعات المجتمع لبناء نفسه بنفسه غير أن العملية لم تدم طويلا، إذ سرعان ما تم الالتفاف حول التجربة الرائدة التي تعاملنا معها للأسف الشديد على منوال: (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)، فلم يبق للمتاقن سوى اسمها ولتلك التجهيزات سوى صورتها الشاهدة على فضاعة المؤامرة، لا أدري لماذا لم تتحرك جمعية العلماء في وقتها وتقدم ما أمكن من نصح إلى الدوائر الفاعلة، وفي الوقت نفسه تبعث بنداء الاستنجاد والاستغاثة، خصوصا أن الذي حدث هو من فساد المقدمات الذي ترتب عنه سوء النتائج.

4/ أي توصيات يمكن أن يقدمها ذوو الاختصاص الحاضرين في ملتقى جمعية العلماء، ثم لمن تقدم مثل هذه التوصيات التي يتحتم على جريدة البصائر أن تبلغها إلى الأمة، أهي توصيات تتضمن صياغة جادة لمنظومتنا التي تعذر قيامها منذ أيام ابن باديس كما أشار إلى ذلك رئيس الجمعية، أم هي توصيات في صورة لوم للطفل لأنه لم يعد طفلا، وللمدرسة لأنها لم تعد مدرسة، وللفلاح لأنه لم يعد منتجا، وللخطيب في المسجد لأنه لم يعد إماما. لعل أهل الاختصاص في جمعية العلماء الذين خاطب فيهم رئيس الجمعية ضمائرهم النبيلة، يقدمون الرؤية الاستشرافية للفوز بالحاضر والمستقبل، يمكننا الانتظار، لعل جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء تأتينا بالجديد بخصوص التوصيات في سؤال رؤية استشرافية للفوز بالحاضر والمستقبل.

تحية إجلال وإكبار إلى شيخنا وقائدنا عبد الحميد ابن باديس وإلى كل العلماء الذين صنعوا من الأطفال في قرانا ومدننا ومداشرنا وجبالنا أسطورة القرن العشرين، وقلعة وحصنا لكل الأحرار في العالمين، تحية إلى أستاذ منظومتنا في أيام عزها علي بن محمد الحاضر دوما في قلوب الحائرين وعقول المجتهدين، تحية إلى مدرستنا التي احتضنتنا جميعا رغم السنين العجاف وشراسة الاستخفاف، وقلة الحياء، والإصرار على الخطيئة في حق أطفالنا جيلا بعد جيل، إن القابلية للاستعمار قائمة، وأطماع المستعمر لم تبرح مكانها، إلا أن الأمل لا ينفك يلوح بأشعته  ليشع عقولنا وقلوبنا وبصائرنا، أملنا لا ينقطع في القائمين اليوم على شؤوننا، كثير هو الأمل الذي سكن ابن مهيدي ورافق كل شهيد.

إن التبعية والقابلية للتبعية تضيق بنا ذرعا في مدارسنا وتضيق ذرعا بتفوق أساتذتنا وتضيق ذرعا بتاريخنا وتضيق ذرعا بتسامحنا فيما بيننا، وتضيق ذرعا بكل ما هو جزائري فينا، فهي في حيرة من أمرها خصوصا لما يلحق إلى مسامعها صوت أطفالنا في مدارسنا يرددونها بصوت مزلزل:

جزائرنا يا بلاد الجدود نهضنا نحطم عنك القيود
ففيك برغم العدا سنسود ونعصف بالظلم والظالمين
سلاما سلاما جبال البلاد فأنت القلاع لنا والعماد
وفيك عقدنا لواء الجهاد ومنك زحفنا على الغاصبين
قهرنا الأعادي في كل واد فلم تجدهم طائرات العماد

إلى أن يقول أطفالنا والأمل يلوح من داخلهم:

نعاهدكم يا ضحايا الكفاح بأنا على العهد حتى الفلاح
ثقوا يا رفاقي بأن النجاح سنقطف ثماره باسمين

بشير جاب الخير
29 جوان 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version