بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

عالم الشهادة عالم مشهدي، عالم الشهادة يتطلب الحضور، والحضور قائم بشقيه، الحضور في دنيا الناس والحضور يوم القيامة، أو الحضور بين يدي الله.

يقول الله سبحانه: “وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” (الآية 73 من سورة الأنعام).

وقوله عز وجل: “يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الآية 6 من سورة المجادلة).

الشاهد في دنيا الناس، يمكن أن يحضر فيشهد، ويمكن أن يغيب فيمتنع عن الشهادة، والحضور نوعان، حضور سلبي، وحضور نافع، فالشهادة من باب الإحسان، وليس من باب الإساءة. الشاهد حينما يحضر، يشهد بما رأى أو سمع أو علم، كأن يطلب للشهادة أمام محكمة قصد الفصل بين طرفين متخاصمين، هذا نوع من الشهادة، أما النوع الثاني فهو حضور من نوع آخر، نابع من موقف الشاهد، كموقف سيدنا موسى عليه السلام أمام فرعون، حيث شهد بما آمن وبما علم، شهد بوحدانية الله أمام الحضور وعلى رأسهم فرعون.

يقوا الله عز وجل: “وقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن، إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (الآيتان 104 ـ 105 من سورة الأعراف).

ومثل ذلك الحضور أو الشهادة جسدتها مواقف كثير من الرجال والنساء مثل الذي حدث لسيدنا ياسر والد الصحابي الجليل عمار وأيضا الذي حدث لوالدته سمية، كل منهما حضر وشهد واستشهد. كذلك الموقف الذي وقفه البطل الجزائري العربي بن مهيدي إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، لقد كان حاضرا وشاهدا، وهو الذي قال لمن أراد أن يذكره بلفظ الشهادة: “أتذكرني بالشهادة وأنا أموت من أجلها”. لاحظوا هذه المواقف وغيرها، كيف أن الشهادة تضمنت الموت والاستشهاد.

يقول الله سبحانه: “وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ” (الآية 158 من سورة آل عمران).

وقوله عز وجل: “وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ” (الآية 157 من سورة آل عمران).

وإذن فالاستشهاد وليد الشهادة، أو هو نابع من الشهادة، أليس كذلك؟ هذا ما ينبغي الاتفاق عليه من البداية، وإذن فالشهادة هي مصدر الاستشهاد في دنيا الناس، أما الإنسان الذي يفجر نفسه في سوق أو في حي سكني، أو في تجمع لقوات أمن، هل هو من باب الشهادة؟ أهو سلوك فيه حضور وفيه شهادة؟ أين هي الشهادة وأين هو الحضور وأين هو الموقف المعبر عن الاستشهاد؟ إن مثل هذا السلوك لا يبرره دين ولا عرف، لم يشهد به نبي ولا رسول، ولا عبد صالح في دنيا الناس، إن مثل هذا الموقف أو الفعل، إن عبر فإنما يعبر عن غياب وعن تغييب، غياب عن عالم الشهادة من دنيا الناس، وتغييب للناس عن عالم الشهادة، غيب نفسه وغيب معه أبرياء بغير وجه حق عن عالم الشهادة، أما هو فقد غاب عن دنيا الناس، وأما الناس الأبرياء فسيشهدون عليه بين يدي الله يوم القيامة.

إن المشكلة في موضوعنا هذا، هي في سوء فهمنا وسوء تقديرنا لعالم الشهادة، وهي نابعة من غياب السياق الذي ينبغي أن نبني عليه فهمنا، والسياق هو قراءة القرآن وقراءة السنة العطرة، ليس قراءة عابرة، ولكن القراءة التي أمرنا الله بها في سورة العلق، وهي أن نقرأ بسم الله، أي نقرأ لله وفي سبيل الله، قراءة شهادة من بداية السورة إلى نهايتها.

وهل مرت بنا قراءة الآية التي يقول فيها الله سبحانه: “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الآية 117 من سورة المائدة).

كم هو واضح وجلي لمن أراد أن يقرأ ويفهم ويشهد، ماذا يعني “ما دمت فيهم”، أهي تتصل بدنيا الناس، أم بالآخرة؟

وقوله: “كنت أنت الرقيب عليهم” تتصل بدنيا الناس أم بيوم القيامة؟ هل يمكن أن نقرأ مرة ثانية ونفهم قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (الآية 143 من سورة البقرة).

إننا في حاجة إلى التواصل مع الأستاذ مالك بن نبي من خلال فكره وتفكره وتدبره، إذ يمكن أن نتساءل رفقته عن سر حزنه يوم انفصلت باكستان عن الهند.

 إنكم إن أحسنتم القراءة وتفكرتم وتدبرتم، لوجدتم المسألة متصلة بعالم الشهادة.

 لقد قرأ أستاذنا بن نبي المسألة يومها وهو ـ دون ريب ـ في حالة نفسية ووجدانية وعقلية وسلوكية جد ممتازة، لعل السر في ذلك تحرره من نوازع دنيا الناس ومن شهواتها المتصلة بالشجرة التي نهى الله أبانا آدم أن يقترب منها.

 لقد أدرك أستاذنا بن نبي أن المسألة متصلة بعالم الشهادة، وإلا فما معنى قوله سبحانه: “فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد”؟ لقد قرأ بن نبي ثم قرأ وتدبر في سؤال الشهادة المتصل بدنيا الناس، فأدرك أن جوهر الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان متصلة فعلا بعالم الشهادة المتصل بدنيا الناس، خصوصا بالنسبة للإنسان الذي أسلم وجهه لله الواحد القهار واقتدى بخاتم الأنبياء والرسل عليهم سلام الله.

وأقول في هذا المقام بالذات أن من لم تنصلح شهادته في دنيا الناس فلا معنى لشهادته يوم يقوم الناس بين يدي الله.

أعود لموقف الأستاذ مالك، وأتساءل من جديد، لماذا أحزنه انفصال باكستان عن الهند فبدل شعب واحد صار شعبان، وبدل كيان واحد صار كيانان، ومن منا تساءل، كيف أمكن الفصل بين الإخوة وبين الجيران؟ هل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف تعامل مع بني جلدته من مشركي قريش؟ كيف حافظ على كيان المجتمع الواحد؟ إن مثل هذه الأسئلة تحتاج منا مزيدا من القراءة ومزيدا من البحث والتأمل والتدبر.

إن موقف مالك نابع من حضوره وشهادته، فماذا عن باكستان بعد الانفصال؟  ماذا عن الناس وعن دنيا الناس هناك؟ ثم ماذا عن الهند بعد انفصال باكستان عنها، ماذا عن دنيا الناس هناك؟ ما علاقة هؤلاء وأولئك بعالم الشهادة بعد الانفصال؟ الناس في باكستان ما بعد الانفصال وباكستان اليوم في حيرة من أمرهم، لم تسعهم أرضهم بسبب بعدهم عن مركز الدوران، وليس مركز الدوران إلا الوسطية التي حدثنا عنها القرآن من قبل، لم يسعهم وطنهم الموحد، واليوم لم يسعهم وطنهم بعد الانفصال، أتدرون لماذا؟ إن المسألة متصلة بمركز الدوران المعبر عنه في القرآن الكريم بالوسطية أو مبدأ الشهادة، لقد اختاروا خطا صاعدا في اتجاه واحد، ليس حدا وسطا، الخط الذي لا يقبل بالآخر، حتى وإن كان الآخر من القبيلة الواحدة، أو الشعب الواحد، أو حتى الدين الواحد، خط يقترب من العبودية تارة، ومن الاستعباد تارة أخرى نعود لباكستان، المساجد بالآلاف، دور العبادة لا تحصى ولا تعد، كتب الفقه والتفسير والوعظ بالملايين، أما الغائب ـ للأسف الشديد ـ فهو مبدأ الشهادة، من الذي غيبها، أهو الاستعمار؟ أم هي القابلية للاستعمار وفق تعبير بن نبي؟ ننام ونقوم على مزيد من الأخبار، تفجير في مسجد هنا، وانتحار في سوق هناك، الضحايا من الأبرياء يوما بعد يوم بالمئات، الفاعل في كل الحالات غائب، فهو إما عبد، وإما مستبد بعيد كل البعد عن الحد الوسط، بعيد عن مركز الدوران، إما إلى العبودية وإما إلى الاستبداد، الفاعل غائب عن دنيا الناس، غيب نفسه وغيب معه آلاف الأبرياء عن دنيا الناس، فبدل أن يكون حاضرا وشاهدا، صار غائبا ومغيبا، هذا في باكستان.

 أما دنيا الناس في الهند، فكما حرمت من نور الشهادة بالأمس، فهي في أمس الحاجة إلى نورها اليوم، كم كان طريق الشهادة ميسورا قبل الانفصال، العرق واحد، واللغة واحدة، والعادات جد متقاربة، سهولة التواصل حاضرة، أسباب التفاهم حاضرة، عوامل التواد والتراحم كلها حاضرة.

أما اليوم بعد عشرات السنين، كم تباعدت المسافات، وكيف هي الموانع والعقبات؟

سبحانك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي.

أيها الناس عودوا إلى سنة خاتم الأنبياء والمرسلين وسيرته صلى الله عليه وسلم، تأملوا بعد القراءة وتدبروا، ستدركون ـ دون ريب ـ كيف هي المسافة بين أقواله وأفعاله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، لقد انعدمت المسافة، فهو المثل الأعلى في الوسطية التي حدثنا عنها القرآن الكريم، قال الله تبارك وتعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (الآية 143 من سورة البقرة).

فكيف ستشهد أيها المسلم، وعلى من ستشهد، وأين ستشهد وبماذا ستشهد؟ هل أنت حاضر في دنيا الناس؟ ما موقفك من نفسك، وما هو موقفك من الآخرين؟ كيف هي المسافة بين قولك وفعلك؟ هل خطوت خطوة في عالم الشهادة؟ أم أنك خطوت خطوات في عالم التغييب؟ عند هذا الحد فقط أفهم لماذا حزن يومها مالك وفرح الكثيرون، وعند هذا الحد أعود لـ مالك مستفسرا عن مركز الدوران، أو الوسطية التي عناها القرآن؟ لقد أجاب عن مثل هذا التساؤل قبل عشرات السنين عندما سئل عن الديمقراطية والإسلام، أو إن شئت عن موقف الإسلام من الديمقراطية، أو موقفه هو من الديمقراطية وفق فهمه للإسلام، لقد قدم الحجة من خلال تحديده لمركز الدوران، أو الوسطية في الإسلام، فاعتبرها بمثابة الحد الفاصل بين نافيتين، نافية العبودية ونافية الاستعباد، حيث يقول: “فالإنسان الحرّ أي الإنسان الجديد الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحد الإيجابي بين نافيتين، تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية ونافية الاستعباد.” (من كتابه القضايا الكبرى).

وإذن فالأمة الوسط هي الأمة الحرة التي تقف حدا فاصلا بين نافية الـ “أنا” ونافية الآخرين.

هذا هو مبدأ الشهادة الذي يحكم فكرة الاستشهاد، وهو على علاقة جد وثيقة بـ “فكرة اللاعنف تحكم فكرة التدافع”.

إن أخطأت فمن نفسي وإن أصبت فبتوفيق من الله.

بشير جاب الخير
4 ماي 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version