بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وسلم

فكرة اللاعنف التي طرحها الأستاذ سعيد جودت.

تعتمد هذه الفكرة وترتكز حسب الأستاذ على موقف قابيل من أخيه هابيل، أحدهما اعتمد أسلوب القتل خيارا له في مواجهة أخيه، والآخر اعتمد خيار الكلمة والإقناع ورفض وسيلة القتل لحل الخلاف.

استخلص الأستاذ مباشرة فكرة “اللاعنف” وحاول إقناع الناس أنها السبيل الوحيد المشروع في أي عملية تغيير وأعطاها طابعا عاما، أي أنها ملزمة في الصراع بين بني آدم في كل حين، وأن العنف مرفوض جملة وتفصيلا، ولم يستثن، لا الثورة الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي، ولا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي القائم منذ عشرات السنين، حيث اعتبر الطريق الوحيد السليم والمشروع هو طريق اللاعنف.

أول ما ينبغي إدراكه هو وجود نوعين من الصراع، صراع طبيعي وصراع مصطنع، فأما الصراع الطبيعي، فيمكن أن يحدث بين أتباع دين سماوي في مجتمع قائم لهم وكيان خاص بهم، وبين معتدين يستهدفونهم في سلمهم وسلامتهم وأمنهم وأمانهم، أو يحدث كذلك بين غزاة محتلين وشعب يبتغي السلام والحرية. أما أن يتولد الصراع بين أبناء المجتمع الواحد، أو أبناء الأمة الواحدة فهو صراع مصطنع، أي أن مادته الأولية أو تربته هي من صنع الدوائر الفكرية المخبرية التي هيأت ظروف الصراع واستثمرت بذور الغلو والتطرف. وللتبسيط أكثر أقول: إن مبررات الصراع المصطنع لا مكان لها سوى داخل عقول مدبريه، أما مبررات الصراع الطبيعي فهي مبررات ما بين النور والظلام أو الحرية والاستبداد من فروق واختلاف.

إننا إذا فرقنا بين هذين النوعين من الصراع يمكن أن نفهم فكرة اللاعنف، ومن ثم يمكن القول أن الصراع الذي حدث بين قابيل وهابيل صراع مصطنع وبالتالي لم تكن فكرة العنف مقبولة ولا مشروعة لأن الصراع في هذه الحالة قام ونبع من داخل جسم واحد أو كيان واحد، وأن اعتماد أسلوب العنف أو القتل سوف يقضي على هذا الكيان الأسري أو المجتمعي الواحد، ولما اعتمد قابيل أسلوب القتل خرج عن كيانه ومجتمعه وارتكب مخالفة أخبرنا بها القرآن فيما بعد، أما هابيل فقد قدر وفهم طبيعة الصراع فالتزم أسلوب اللاعنف ولم يرض عنه بديلا، ومبررات مثل هذا الصراع، لم تكن مسوغة سوى لدى ابليس والدليل على ذلك ندم قابيل بعد قتله لأخيه هابيل.

أما الصراع الطبيعي فمثله ذلك الصراع الذي دار بين مجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ومجتمع المشركين في مكة، والشاهد معركتا بدر وأحد، إن مبررات ذلك القتال هي مبررات ضرورة وقف خطر المشركين الذين تربصوا بمجتمع المدينة شرا وإذن فالعنف أو القتال صار مشروعا ومبررا لما تحقق وجود جسمين مختلفين، يشكل أحدهما خطرا على الآخر بغير وجه حق، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمد أسلوب العنف قبل الهجرة في مكة لأنه كان ينتمي إلى ذلك الجسم وحينها لم يكن العنف مشروعا ولا مبررا، خصوصا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدرك طبيعة ذلك، أي كان حريصا على سلامة الجسم الواحد وحريصا على عدم فقدان مثل هذا الجسم لمقومات الحياة.

مثال آخر هو اعتماد الجزائريين أسلوب العنف، أي القتال أو الدفع، لقد كان ذلك مبررا بسبب وجود كيان مستقل بذاته له مكوناته المتجانسة كضرورة من ضرورات حياته، وفي المقابل وجود جسم غريب ومتطفل، ألا وهو جسم المستعمر الذي كان يحمل خطر الفناء تجاه الجسم الأول، ومن ثم كان العنف والقتال مشروعا ومبررا لبقاء مقومات الحياة بالنسبة للمجتمع الأول. نفس الشيء ما يحدث في فلسطين، فنحن أمام جسمين متنافرين الأول قائم بذاته له مجاله الحيوي، والثاني متطفل يتربص بالأول شرا، إن أسلوب العنف والقتل في هذه الحالة مشروع ومبرر.

أما الصراعات التي حدثت وتحدث داخل المجتمع الواحد أو الكيان الواحد، فلا مبرر لها داخل عقول مكونات هذا الكيان، ولا مشروعية لها، كونها تعرض مقومات هذا المجتمع إلى الهلاك والفناء، ويستوي في ذلك الذي حدث في الجزائر إبان تسعينيات القرن العشرين، وما حدث في مصر وليبيا، وما يحدث الآن في كل من اليمن وسوريا. وحتى الذي حدث في الهند وتسبب في انفصال باكستان هو من الصنف نفسه تقريبا، حيث حال ذلك ومنع أهل الشهادة من المسلمين العاملين تبليغ منهج النبوة في دعوة الناس إلى توحيد الله، ولعل ذلك هو سر حزن الأستاذ مالك بن نبي لما حدثت عملية الانفصال. ولعلك تتساءل عما حدث في “صفين” التي هي امتداد لما حدث في موقعة “الجمل”، أهو صراع طبيعي أم صراع مصطنع؟ والجواب معلوم من طبيعة الذي حدث فأين نعثر على مبررات مثل ذلك الدفع؟ هل له مبرر داخل عقول الصحابة؟ إن مبرراته نبتت فقط داخل عقول من كانوا وقتها يتربصون بأمة التوحيد شرا، ولذلك سميت بالفتنة الكبرى، ومن ثم فالقول بأنها صراع أو دفع مصطنع صحيح وسليم. أما طريقة تناول هذه الفتنة في وقتنا الحاضر فهي بعيدة كل البعد عن دائرة الحكمة، إن أسلوب السب واللعن ليس من رصيد أمة التوحيد في شيء، فهو مخالف لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار، فهل كانت السيدة فاطمة بنت رسول الله أو الإمام علي أو الحسن أو الحسين أو غيرهما من آل بيت رسول الله عليهم جميعا السلام، ينتهجون طريق اللعن والسب والتكفير؟ فهل من الحكمة أن يلعن مسلم اليوم زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يسب بعض أصحابه، أو يكفر فريق فريقا آخر؟ إن مثل هذا الأسلوب ينمي فقط بذور الصراع أو الدفع المصطنع، إنه إذا كان ولا بد من قراءة في تلك الفتنة فينبغي أن تؤتى من باب الحكمة، لا غير.

لقد وصلنا ـ دون ريب ـ إلى فك شفرة فكرة اللاعنف، إن هذه الفكرة نسبية ومن ثم فهي غير مطلقة، فإطلاقها أو السعي لتعميمها غير مؤيد، لا وحيا ولا عقلا.

أما قول الله سبحانه: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين” (الآية 251 من سورة البقرة)، فهي تؤكد مشروعية القتال في حدود الحفاظ على الكيان الواحد من الهلاك والفناء، لأن فساد الأرض هو مثل ذلك الهلاك الذي يمكن أن يلحق بالمجتمع الإنساني. وأذكر أن أسلوب العنف أو القتال المعبر عنه بالدفع ليس مطلقا، فهو مشروع ومبرر للحيلولة دون حدوث الفساد في الأرض ألا وهو هلاك المجتمع الإنساني. والدليل على محدودية الأخذ بأسلوب القتال أو العنف هو قوله سبحانه: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” (الآية 8 من سورة الممتحنة)، إن هذه الآية تبين لنا محدودية اعتماد أسلوب العنف أو القتال من ناحية، ومشروعية ومبررات ذلك كمسألة نسبية من ناحية أخرى.

وإذا كان الدفع من خلال اعتماد أسلوب العنف أو القتال مشروعا ومبررا بشكل محدود ونسبي، فإن الدفع بهذا الأسلوب يأتي بعد الاجتهاد في الدفع بالتي هي أحسن مصداقا لقول الله سبحانه: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (الآيتان 33 ـ 34 من سورة فصلت). لاحظ ما هو مقدم على الأخذ بأسلوب العنف، بشرط التمييز بين الصراع المصطنع والصراع الطبيعي أولا، إنه اعتماد الدعوة إلى بيان أساس الاختلاف بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات المتمثل في توحيد الله، هذا مقدم على غيره، إنك إذا أقنعت النصراني ببطلان فكرة التثليث سينتهي الخلاف وسيسلم الجميع، أما إذا خالفت المنهج النبوي ودخلت في معارك غير مبررة، أساسها اللعن والسب والشتم فإن ذلك سيزيد في الهوة، لاحظ أيضا تقديم العمل الصالح على التعريف بكونك مسلما، أو إن شئت ضرورة ارتباط القول بأنك مسلم بالعمل الصالح، فالذي يشفع لك في الدنيا قبل الآخرة بعد توحيد الله سبحانه هو العمل الصالح، وليس هو الكلام المجرد، واعلم أيضا أن الدفع بالتي هي أحسن في هذا المقام بالذات مطلوب مع الأعداء، ومن ثم فإن مشروعية القتال ومبرراته جاءت في نهاية المطاف، أي بعد استنفاذ كل الطرق والأساليب المشروعة الأخرى.

إن الأستاذ سعيد جودت اجتهد في حدود الكلمة التي لم تتسبب في قتل نفس بغير حق كما أنها لم تكلف هذا أو ذاك أي عناء، لقد ساهم في طرح فكرة لم تكن موجودة بالأساس، بأسلوب طيب، ليس للسب ولا للعن ولا للإساءة فيه حظ ولا مكان.

أما قول الأستاذ سعيد جودت: (الديمقراطية تعني توحيد الله لأنها تفيد بألا يكون لدينا آلهة بشرية نعبدها). فهو كلام مبرر من حيث:

1 ـ الديمقراطية ليست نظاما قائما بذاته، حتى يحكم عليه البعض بالكفر أو البطلان أو الفساد.

2 ـ الديمقراطية ليست حكرا على جهة بعينها.

3 ـ الديمقراطية لا تقبل الربط أو الإضافة كي نحدد مفهومها.

4 ـ الديمقراطية هي انشغال إنساني طرحه إنسان المدينة في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، أوضحه بريكليس من خلال تطلع الإنسان إلى الحرية بدل الاستبداد، والسعادة بدل الشقاء، حيث قال: “على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن” (انتهى كلام بريكليس)، فأين الكفر أو الباطل من هذا؟

5 ـ هل أصل العلاقة التي تربط المسلم بالأمم والشعوب غير الموحدة وخصوصا أهل الكتاب، هل هي علاقة عداء؟ الأصل في العلاقة هي علاقة شهادة، أساسها الدعوة إلى توحيد الله والدفع بالتي هي أحسن، أو لم نقرأ قوله سبحانه: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون” (الآية 64 من سورة آل عمران).

6 ـ جاء في الحديث الشريف: “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها”.

الحكمة، لا يمكن أن تختلط بعمل فاسد أو مفسد وإلا ما كانت حكمة، ومن ثم فإن الأصل في الحكمة هو المنفعة المرتبطة بالإصلاح، والحكمة كما قيل، تعني الوعي بما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، وهذا المطلب ليس في متناول الجميع، فهي لا تباع ولا تشترى، وإنما تؤتى من قبل أولي العزم المهتدين الهادين.

والخلاصة إن قول الأستاذ سعيد جودت، نفهمه على وجهه السليم من حيث أن جو التفاهم والحريات بالمعنى الحقيقي والصارم، يسهل على المسلم تبليغ رسالة التوحيد إلى الآخرين ويساعـد على تضييق دائرة الظلم والاستبداد، ومن ثم يسهل الطريق أمام اهتداء الناس إلى توحيد الله. إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي الأمارة بالسوء.

بشير جاب الخير
20 أبريل 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version