“الثمن الذي يدفعه الطيبون لقاء لا مبالاتهم بالشؤون العامة هو أن يحكمهم الأشرار”، أفلاطون

الصراع الذي شهدته الساحة السياسية الجزائرية قبل الانتخابات كان في حقيقته بين فريقين: فريق المقاطعة ورفض النظام والتشكيك في مصداقية المنظومة السياسية القائمة وآلياتها والمطالب بمرحلة انتقالية تأسيسية وفريق ثان يؤمن بالمنظومة القائمة بغض النظر عن بعض التموقع هنا أو هناك. المتتبع للشأن السياسي الجزائري يدرك جيدا أن من خرجوا وشاركوا في انتخابات الخميس صوتوا في أغلبيتهم للمرشح عبد العزيز بوتفليقة ومن يدعي غير ذلك فهو واهم . فما عدا بعض المناطق التي صوتت لبن فليس بأغلبية بسيطة وللأسباب جهوية للأسف وجاءت كردة فعل فإن باقي جهات الجزائر صوتت لبوتفليقة بشكل كاسح. لهذا فإن ما يحسم الصراع القائم ليس النتائج التي تحصل عليها بوتفيلقة بل نسبة المشاركة في هذه الانتخابات وهنا نحن أمام احتمالين.

الاحتمال الأول وهو أن نسبة المشاركة التي أعلن عنها وزير الداخلية صحيحة وأن عدد من شاركوا في هذه الانتخابات يزيد عددهم عن 11 مليون بنسبة 51%. وإذا سلمنا بهذه النسبة والتي تعتبر مقبولة إلى حد كبير مقارنة بأية ديمقراطيات عريقة أو ما شهدته دول الربيع العربي (في مصر مثلا لم تتعد نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بين مرسي وشفيق 50% ونفس الشيء في تونس في انتخابات المجلس التأسيس 50%)، فإننا أمام رئيس ونظام لهما شرعية وقاعدة شعبية قوية، وأنه حتى في ظل انفتاح سياسي حقيقي سيكون من الصعب إزاحة مرشح السلطة وسيظل مرشح النظام هو الرقم الصعب في أية استحقاقات انتخابية، فبعدد أصوات يتعدى 8 ملايين يصبح حديث المعارضة عن شرعية النظام لا يعدو كونه مزايدة سياسية وحديث عن شعب آخر، لأنه وحسب هذه النتائج فإن اغلب الشعب الجزائري يؤمن ببوتفليقة رئيسا أكان على كرسي متحرك أو ممدا على سرير، وهو ما يدفعنا للتساؤل: لماذا لا يقوم النظام الجزائري بعملية انفتاح ديمقراطي حقيقي وترك أمر تنظيم الانتخابات للجنة مستقلة يثق بها الجميع وتمثل فيها المعارضة وهكذا كما يقول المثل الشعبي “يتهنّ الفرطاس من حكان الرأس” ويستريح النظام من تهم التزوير وتسكت المعارضة، على الرغم من أن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات ولكن من باب أضعف الإيمان.
 
الاحتمال الثاني هو أن نسبة المشاركة المعلن عنها هي نسبة غير حقيقية وتم التلاعب بها وتضخيمها بشكل كبير. في الحقيقة كثير من الجزائريين أصبحوا يشككون في النتائج المعلنة من طرف السلطة في ظل تجارب تزوير سابقة شهد بها مسؤولون سامون في الدولة وآخرهم الوالي السابق بشير فريك. لهذا فإننا أمام معضلة معرفة حقيقة عدد الذين شاركوا في الانتخابات وكم هو عدد المسجلين في القوائم الانتخابية وعدد من يحق لهم التصويت في الجزائر. معرفة حقيقة هذه الأعداد هو المقياس الحقيقي للشرعية الشعبية لبوتفليقة ومعه النظام. حسب كثير من المحللين هناك أكثر من مؤشر على أن نسبة المشاركة تم تضخيمها بشكل كبير والقرائن على ذلك كثيرة. فلو عدنا إلى آخر انتخابات أجمع الكل على أنها كانت حرة وشفافة في الجزائر سنة 91 بلغت نسبة المشاركة فيها 55% بعدد ناخبين في حدود 6 ملايين، في هذه الانتخابات امتدت الطوابير لعشرات الأمتار وطيلة اليوم، بل إن هناك عدد كبير لم يتمكن من التصويت حتى إغلاق المكاتب. أما اليوم فنحن نتحدث على ضعف هذا العدد ( 12 مليون) وبنسبة تقل بقليل عن نظيرتها سنة 91 ولكن لم نشاهد طوابيرا ولا استمرارية لتكدس الناس في مكاتب التصويت وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة العدد 12 مليون.

لا أحد يستطيع أن يجيب عن سؤال نسبة التصويت وعدد الحقيقي للمصوتين سوى المرشح علي بن فليس. فلقد توعد هذا الأخير أنه سيمنع أية عملية تزوير وأن لديه مراقب أو مندوب في كل مكتب تصويت، وإذا صدق بن فليس فإنه من المفترض أن لديه محاضرًا من عمليات الفرز تحوي عدد المصوتين والنسب الحقيقية التي حصل عليها كل مرشح، ولو قام السيد بن فليس بنشر هذه المحاضر فإن جميع الجزائريين سيعرفون النسب من جهة أخرى غير وزارة الداخلية مثل ما فعل الإخوان المسلمون في مصر، بحيث كانوا الوحيدين الذين يمتلكون مندوبا أمام كل صندوق انتخابي يراقب عملية الانتخاب والفرز ويحصل على نسخة من محضر الفرز وبهذه الطريقة وباستعمال برنامج كومبيوتر متطور تمكنوا من استقبال النتائج بشكل فوري من كل مندوب وحصرها ونشرها بحلول الفجر بل ونشر كتاب يحوي هذه المحاضر بعد يومين أو ثلاث من الانتخابات.

لهذا فإن أمام بن فليس اليوم فرصة يقدم من خلالها خدمة عظيمة للرأي العام الجزائري والنخب السياسية إن أستطاع كشف نسب المشاركة من طرفه والعدد الصحيح للمصوتين بدل إلقاء تهم تزوير بشكل جزافي وغير مؤسس وموثق ضدّ بوتفليقة، اللهم إلا إذا كان بن فليس نفسه يعتبر أن نشر نسب التصويت الحقيقية تعتبر أيضا انتقاصا من شعبيته ومدى إيمان الشعب ببرنامجه وفي هذه الحالة يكون شريكا في التزوير والتغطية عليه كما فعلت العديد من الأحزاب السياسية التي تقاطع الانتخابات اليوم وتعارض العهدة الرابعة عندما سكتت عن نسب التصويت في الانتخابات البرلمانية السابقة وهاهي اليوم تُسقى من نفس الكأس.

بغض النظر عن صحة كل احتمال إلا أن هناك حقائق على المعارضين للنظام أن يدكوها وهو أنه مهما كان فساد أو استبداد أية نظام فإنه يمتلك أنصارا وقد يشكلون أغلبية انتخابية في مراحل معينة فما بالك بنظام كالنظام الجزائري أستطاع أن يوظف المال والأمن وما آلت إليه أوضاع الثورات العربية كفزاعة وسنوات الدم وحالة اللامبالاة والتجريف السياسي لجعل نسبة عريضة من الشعب تلتف حول إستمراريته، ولهذا كان الإصرار على ترشيح بوتفليقة على الرغم من حالته الصحية لما يمثله ذلك من رمزية لاستمرارية الأمن والإستقرار في أذهان شريحة اجتماعية يستهدفها النظام والتي كان حضورها بارزا في الانتخابات، على الرغم من أن هذا يشير أيضا إلى ضيق الخيارات أمام النظام عندما يرشح رجلا مقعدا.

أخيرا، من أهم دلالات الانتخابات الرئاسية الأخيرة هي أن النظام الجزائري فهم المزاج العام للشعب الجزائري بشكل أفضل بكثير من المعارضة وأن هذه المعارضة فشلت في التفكير ولو مرة واحدة خارج الصندوق وبقيت حبيسة نفس المنطق والرهان على سيناريوهات لا تصلح في الحالة الجزائرية، وكان حريا بها أن تتدبر في تجربة في ذلك الرجل المغترب نكاز الذي أتى من بعيد واستطاع أن يجبر دوائر السلطة على إقصائه واستطاع أن يجمع قطاعا عريضا من الشباب حوله وهو أمر فشلت فيه جميع النخب السياسية خلال سنوات من المعارضة مما يدل على أننا أمام أزمة سياسية واجتماعية عميقة وافتقاد للخيال والرؤية مما قد يجعل الجزائر تنتحر ببطء.

جمال ضو
19 أبريل 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version