ثلاثة اسابيع من “الهملة” الانتخابية كانت كافية لتسفر عن مستوى الصَغَار الذي أراد حكامنا أن تصل له الجزائر، أيام كشفت مدى التعفن والإفلاس الذي وصلت له الطبقة “السياساوية”، وليست السياسية، في الجزائر. مشاهد وصور جعلت البعض يضحك والآخر يبكي لحال الجزائر، وحتى الذين ضحكوا لم يضحكوا فرحا بل من منطلق “شر البلية ما يضحك”. مشاهد “الهملة” الانتخابية أو الكرنفال في دشرة لا تستحق التحليل أو التعليق كثيرا ويعف القلم عن وصفها، لكن كل مخلص ومحب لهذا الوطن يتمنى أن لا يرى هذه المشاهد مرة وأن يكفي الجزائر هذا الصغار والتقزيم.

انتهى المشهد الهزلي أخيرا بيوم انتخاب أقرب إلى مسابقة توظيف، ولكن الحقيقة التي أراد أصحاب القرار في الجزائر إخفاءها بكل غباء هي نسبة المقاطعة ونوعيتها، وهذا الأمر هو أحد الصور التي يجب الوقوف عندها.

نسبة المشاركة المعلنة من طرف السلطة لا يمكنها أن تصمد أمام الواقع على الأرض، لأن حجم المشاركة أمر لا يمكن أن تخطئه العين، فبالعودة إلى آخر انتخابات نزيهة جرت في الجزائر سنة 91 والتي وصلت فيها نسبة المشاركة إلى أقل من 60% وكان عدد المسجلين آنذاك 10 ملايين صوت منهم ستة ملايين، نجد أن الطوابير استمرت من الصباح إلى غاية غلق الصناديق وبعد التمديد ولم يتمكن الكثيرون من التصويت، فكيف اليوم نجد أن 10 ملايين يصوتون دون أية طوابير تذكر ومراكز شبه خالية وصناديق شبه فارغة عند فرز الأصوات! لهذا فإن نسبة التصويت أقل من هذا الرقم وبكثير، ولكن هذا الرقم لن يختلف شركاء الكرنفال في التلاعب به.

الصورة الثانية هي نوعية المقاطعة، وهذا أمر جد هام ، لأنه ما لم يكن ممكنا إخفاءه هو سن الذين أقبلوا على مراكز الإقتراع، على الرغم من قلة عددهم، هو أن أغلبيتهم من كبار السن والأميين الذين أرهبتهم الآلة الإعلامية وانجرفوا وراء الشعارات الديماخوجية ولغة الخشب ، وهؤلاء في جلهم من الوعاء الانتخابي التقليدي للسلطة وهو ما تدل عليه نسب توزيع المقاعد.

لهذا فإن الشباب الذي قاد الثورات العربية قاد ثورة صامتة في الجزائر وأرسل رسالة بالغة لأصحاب القرار لا اعتقد أنهم يجهلون فحواها.

الأكيد أن أصحاب القرار في الجزائر يعرفون حقيقة نسبة المقاطعة ونوعيتها وهذا في حد ذاته كافيا لمحاصرتهم وجعلهم يدركون حجم القطيعة والغضب الكامن في أوساط الشعب وخاصة الشباب والمثقفين.

الصورة الثالثة هي نسبة المشاركة في منطقة القبائل، والتي على الرغم من مشاركة الحزب العتيد إلا أن الشعب هناك أثبت أنه جزء لا يتجزأ من الشعب الجزائري ولم ينجر وراء القيادة السياسية لهذا الحزب وأعطى صفعة قوية لكل المتاجرين بمشاكله، لأن الذين قاطعوا هناك لم يقاطعوا استجابة لقرار سعيد سعدي (الذي عودنا على المشاركةّ!) أو فرحات مهني، بل قاطعوا استجابة لضمائرهم ووعيهم وإدراكهم أن الأزمة أزمة وطن من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه وأن ما يجمع هذا الشعب أكبر بكثير من دسائس الكثير من حكام الجزائر.

إن الشعب الجزائري في هذه الانتخابات أسقط الجميع، اسقط الشرعية عن هذا النظام دون أن يغادر بيته أو يتظاهر أو يحرق أو يواجه غاز الكريموجين، ودون أن تكون له قيادة سياسية أو تحركه إيديولوجية أو نعرة قبلية.

لقد أسقط الطبقة السياسية بكل وجوهها، فلم يحركه الذين تاجروا بالوطنية ولا الذين تاجروا بالإسلام أو باللغة أو الجهة.

إن الحقيقة الثابتة التي أمامنا هي أن هذا الشعب وعلى الرغم من عدم إدراك الكثير منه لتعقيدات وتفاصيل الأزمة الجزائرية فإنه أصبح محصنا ضد الشعارات الدينية و الثورية والجهوية، وهذا في حد نفسه مكسب تفتقد له الكثير من الشعوب الأخرى.

أخيرا والمؤسف في المشهد السياسي الجزائري أن هذا الشعب مازال يبحث عن قيادة سياسية تأخذ بيده نحو بر الأمان، قيادة يثق بها وتخرج من رحمه، تعبر عن آماله وتطلعاته نحو دولة يسودها القانون، تحفظ فيها هويته، تصان فيها كرامته وينال فيها حقه من ثروته، دولة لا يكون فيها مجرد أسم أو رقم في جداول الانتخاب.

لقد أسقط هذا الشعب الجميع ولكنه أبقى لنا على الجزائر..

سين جيم
11 ماي 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version