شهدت تونس منذ أيام مصادقة المجلس التأسيسي على دستورها الجديد وتمت العملية في ظل شبه توافق وطني والذي جاء ضمن حزمة من الإجراءات المتوازية في إطار ما يعرف بخارطة الطريق التي أشرف عليها بشكل رئيسي الإتحاد العام للشغل. اللافت للانتباه أن عملية تمرير الدستور واستقالة حكومة الترويكا لاقت ترحابا كبيرا من الدوائر الغربية الرسمية وغير الرسمية وأشاد بها الجميع هناك وأعتبرها نموذجا يحتذى به. أما لدى النخب الجزائرية المعارضة وحتى على المستوى الرسمي اُعتبرت العملية تعبيرا عن رقي الشعب التونسي وقدرة نخبته على تجاوز خلافاتها وإعلاء المصلحة الوطنية عن المصلحة الحزبية وتفادي السيناريو المصري الدموي.

القراءة التي سنحاول تقديمها تختلف عن القراءة السائدة التي تبنتها كثير من النخب السياسية. الأمر لا يتعلق بترويج أو تبني نظرية المؤامرة بل بإبراز خلل كبير شاب خطاب ما يعرف بالثورات أو بالأحرى الانتفاضات العربية وكذالك خطاب النخب السياسية التي تصدرت المشهد، سوى التي وصلت إلى الحكم أو في المعارضة، أكان ذلك عن قصد أو تجنبا لعدم إثارة القضية الجوهرية لحسابات مرحلية.

إذا كانت قطاعات الشعوب التي ثارت على الاستبداد وعلى رأسها النخب مدركة لطبيعة الصراع والقضية الجوهرية والمتمثلة في “استرجاع القرار والسيادة الوطنيين” أو “استكمال الاستقلال الوطني” فإن ما يحدث في تونس أبعد ما يكون عن ذلك. ما حدث في تونس ليس “توافقا داخليا ” بل هو “توافق نخب سياسية في الداخل مع الخارج” بشكل يُبقي تونس ضمن المنظومة الإقليمية ويؤجل حصولها على استقلال قرارها الوطني وفي نفس الوقت يستعيد جوهر نظام بن علي ويحفظ مصالح دولته ، وفي نفس الوقت يُجنب النهضة مصير إخوان مصر.

مسألة التوافق حول الدستور في تونس وإنجازه لا تعدو في رأي الكاتب كونها خطوة شكلية لا تقدم ولا تؤخر في حقيقة المشهد ، لأن الدساتير الورقية لا تبني دولا، فهناك دول عريقة في الديمقراطية وعظمى لا تمتلك دساتيرا، مثل بريطانيا وإسرائيل، بل يجزم الكاتب أن الدستور الجزائري وبشكله الحالي كاف لبناء دولة محترمة لو وجدت مواده طريقها للتطبيق. أما مسألة التوافق فهو كما أشرنا توافق نخب وليس توافق الشعب، وأكاد أجزم أن هذا الدستور لو عرض على استفتاء شعبي فإنه لن يحصل على أكثر مما حصل عليه دستور 2012 في مصر بل وربما بنسبة مشاركة أقل، كما أن وجود دستور 2012 لم يحم الديمقراطية في مصر في شيء.

ما حدث في تونس في حقيقة الأمر هو انقلاب ناعم أو ربما يمكن أن نصطلح عليه انقلاب توافقي أو عملية احتواء للثورة أعادت بموجبه الترويكا وخاصة النهضة دواليب الدولة مرة أخرى لنظام بن علي التي لم تستطع حكومات الترويكا الوصول إلى نواتها أو مجابهتها بشكل مباشر لسياساتها المرتعشة وانعدام هامش مناورتها لأسباب معقدة وظل رجالات بن علي متواجدين ومتحكمين في الاقتصاد ومنافذ السلطة والمؤسسات الأمنية، وربما كشاهد على ذلك عجز قوات الأمن (أو هكذا أدعت) عن إحضار رجل الأعمال الشهير كمال اللطيف وهو مشهد يذكرنا بعجز قوات الداخلية المصرية أيام مرسي عن إلقاء القبض عن أحد الإعلاميين ومالك أحد القنوات المقرب من مبارك.

لا يمكن لمن تابع أحداث تونس أن يستسيغ رواية التوافق أو أن ما تم كان من أجل تحقيق أهداف الثورة، فمن قتل البراهمي وبلعيد ومن تاجر بدمهما لم يفعل ذلك من أجل كتابة دستور توافقي ديمقراطي أو ليحقق هدفا من أهداف الثورة بل فعل ذلك ليحمي مصالح إستراتيجية ويخلق وضعا ويفرض إرادة معينة، كما أنه من غير المعقول أن عملية توافق وخريطة طريق أشرف عليها الإتحاد العام للشغل، وهو أحد أذرع نظام بن علي والذي أستطاع أن يركب الثورة بشكل مشبوه، ستصب في صالح الثورة وبناء دولة ديمقراطية تعود فيها السلطة للشعب وتستعيد فيها تونس استقلال قرارها والشعب ثرواته المسلوبة. رعاية الإتحاد العام للشغل لعملية تسليم السلطة هو أشبه بتصور رعاية الإتحاد العام للعمال الجزائريين برئاسة سيدي السعيد لمرحلة انتقالية في الجزائر لبناء نظام ديمقراطي ولنا أن نتصور شكل هذه الرعاية.

من سخريات المشهد التونسي أن الراعي الخارجي الرسمي لما تم في تونس هي السلطات الجزائرية والتي أصبحت قبلة الساسة التونسيين وهو ما يشير إلى أن ما تم كان تحت رعاية ورضا جزائريين وهو يطرح تساؤلا حول الدور الجزائري أو بالأحرى الفرنسي في الأحداث ، أكان إرهابا واغتيالات أو عملية التوافق، فلا يعقل أن الجزائر وفرنسا ترعيا بناء نظام ديمقراطي. ما حدث في تونس اليوم والدور الجزائري يذكرنا بما حدث في اليمن والدور السعودي حيث تم احتواء الثورة اليمنية ووأدها في مهدها اختصرت الثورة في جائزة نوبل لتوكل كرمان وليس مستبعدا أن نشهد جائزة نوبل تونسية.

أيضا يلفت الانتباه كثيرا قرار صندوق النقد الدولي بضخ الدفعة الثانية للقرض المقدرة بنصف مليار من قيمة قرض إجمالي يصل لمليار ونصف وهو القرض الذي ظل محبوسا عن الحكومات السابقة. أيضا يمثل الاتصال الهاتفي المباشر لأوباما برئيس الحكومة الجديد ودعوته لزيارة واشنطن وتجاوزه لرئيس الجمهورية المرزوقي إشارة خطيرة.

ليست القضية هنا اعتراضا على فكرة التوافق، لأن التوافق هو أفضل ما يمكن أن يميز أية مرحلة انتقالية، ولكن الاعتراض هو على التصوير الخاطئ لحقيقة ما حصل وتظليل الشعب. التوافق الذي تم في تونس ليس توافقا لأجل تحقيق أهداف الثورة بل هو خيار من النهضة حتى تتفادى العاصفة والسيناريو المصري والذي كانت ستدفع ثمنه كحركة سياسية، وحقيقة الأمر أن الثورة التونسية وأهدافها الآن تم وضعها في الثلاجة وهناك شواهد كثيرة تشير إلى عودة قريبة لدولة بن علي ولا أدل على ذلك من رفع الحظر من السفر على كل من كمال اللطيف ووزير خارجية بن علي كمال مرجان بينما سُجن مدون صحفي لمدة ستة أشهر. قد يرى كثيرون أن ما حدث هو حنكة سياسية من النهضة والترويكا وهو رأي فيه وجاهة ولكنه لا يعني أنهم تجاوزوا المعركة ولا أن الثورة تجاوزت صراعها مع نواة النظام بل تم تأجيل المواجهة لمرحلة قادمة لا محالة وربما المراهنة على الإصلاح بعد الانتخابات.

ما حدث في تونس للأسف يكشف مدى انفصال الثورة الشعبية ومطالبها عن النخب السياسية ويعبر عن عجز النخب السياسية عن التوافق حول مطالب الثورة بدل التوافق حول مسائل لم تكن يوما من مطالب الثورة ولا من شعاراتها ، فلا تجريم التكفير كان مطلبا ولا الشريعة كانت مطلبا، فلو أن النخب التونسية أو الأحزاب التونسية توافقت حول تحقيق مطالب الثورة واجتثاث منابع الفساد وإصلاح المؤسسة الأمنية والقضائية بما يحقق مطالب الشعب الذي ثار والنظر لمعاناة الشعب الحقيقية لكنا جميعا صفقنا.

لسنا هنا بصدد تخوين الترويكا أو النهضة وربما خيار الترويكا كان من باب “ليس في الإمكان أكثر مما كان” لأنه تبين أن الظروف الدولية والداخلية لا تسمح بتحقيق أهداف الثورة أو إرجاع الحق لأصحابه ومحاسبة من ارتكبوا الجرائم وقتلوا ومن الأفضل تأجيل المعركة وتفاديها، ولكن تمنينا أن تخرج علينا هذه القيادات وتصارح الشعب بالحقائق وتبرئ ذمتها أمام الشعب والتاريخ، فسياسة الصمت أو ربما التواطؤ لن تقيهم شر عودة الدولة الأمنية وليكن ما حصل للإخوان عبرة عندما اختاروا سياسة عدم المكاشفة وراهنوا على الإصلاح والتصالح وراحوا يكيلون المدح للشرطة والجيش وهو ما فعلته حكومة الترويكا وعلى رأسها النهضة وراحت تسوق لنظرية مكافحة الإرهاب المزعوم في ظل خلل وتقاعس وتورط أمني واضح وهو ما يمثل رسالة خطيرة لهم تكاد تكون نسخة كربونية لتعامل الأجهزة الأمنية أيام مرسي.

 من ناحية أخرى، مهمة حكومة التكنوقراط قد تطول وستغير كثيرًا من الحقائق على الأرض بحجة عدم تسييس المناصب وحتى بعد إجراء انتخابات فلن يكون لمن يختاره الشعب أية قدرة على تجاوز الدولة الأمنية والصدام قادم لا محالة، لأنه ليس من المعقول أن تستسلم الدولة الأمنية بهذه السهولة والأيام القادمة ربما تكون حبلى بأحداث كثيرة وستبقى فزاعة التوافق عصا قائمة حتى بعد الانتخابات القادمة، إن حصلت أصلا، ولا معنى لأية انتخابات في ظل فساد المنظومة الأمنية والقضائية وعدائهما لقيم الثورة.

إن معركة الشعوب هي في استرداد حريتها واستقلال قرارها وهذه معركة ستخوضها الشعوب إما عاجلا أو آجلا وستدفع ثمنها وعلى الشعوب والنخب أن تعي طبيعة الصراع وتعد الشعوب لهذه المعركة، فالدوائر الغربية والأنظمة المتواطئة مدركة تماما لطبيعة كل التيارات السياسية وأهدافها الإستراتيجية والمراهنة على رضا الغرب والقروض للخروج من الأزمات هو رهان خاسر، بل يزيد من التبعية، وقد لا أكون مبالغا إذا قلت أن مصر اليوم أقرب إلى استرداد سيادتها منها من تونس، فالصراع في مصر أصبح مع النواة الصلبة وجدار الصد الأخير لدولة الفساد والاستبداد وفقدان السيادة، أما في تونس فلقد تأجلت المواجهة إلى اجل غير مسمى.

س.ج.
10 فبراير 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version