متشددون، متطرفون، إرهابيون، فلنسمهم ما شئنا لكن ذلك لم يمنعهم من اكتساح الخارطة السياسية العربية بشكل صارخ. دارت الدائرة وجاء دور الإسلاميين العرب لتولي شؤون الحكم في بلدانهم، والغريب أن هذا التحول لم يأت جراء انقلابات عسكرية أو بحد السيف، بل تم كل شيء بسلاسة وفي أبهى صور الديمقراطية التي افتقدتها الساحة العربية لعقود طويلة في عملياتها الانتخابية. الشعب في تونس اختار الإسلاميين لخلافة نظام دموي ديكتاتوري طغى في البلد وتجبر، كذلك فعل المغاربة ولن يختلف الأمر كثيرا عن هذا المسار في مصر وليبيا ولا في سورية عندما تتحرر.

الخلافة الإسلامية للأنظمة الشمولية قد لا تعجب كثيرا من الناس في المنطقة العربية وخارجها، خاصة إذا ظل هؤلاء المتخوفون محافظين على تلك الصورة التي كرستها أنظمة القمع العربية عن الإسلاميين، حتى أصبحوا رديفا تلقائيا للإرهابيين والمتطرفين. الحكام العرب نجحوا تماما في نسج هذه الصورة المرعبة عن الإسلاميين انطلاقا من تقديم النموذج الأفغاني الطالباني، وبدرجة أخف المثال الإيراني، كدليل واضح على أن النتيجة الحتمية لتولي الملتحين مقاليد الحكم في أي بلد هي الفوضى والخراب والتهديد الدائم لكل العالم، وحتى عندما هبت نسائم الربيع العربي لم يجد الطغاة ما يستجدون به دعم وتضامن الغرب في مقاومة الانتفاضات الشعبية إلا التلويح بالخطر الأصولي الإرهابي المتطرف، ولعل التصريحات الشهيرة لمعمر القذافي ونجله عن ‘القاعدة’ والظواهري وبن لادن لا تزال ترن في آذان كثير من الناس، وما كلام وزير الخارجية السوري وليد المعلم أول أمس والشريط الذي تضمن لقطات مزيفة إلا دليل آخر على أن ‘البعبع الملتحي’ لا يزال ورقة التوت الأخيرة التي يحاول الطغاة العرب التلويح بها للتشبث بكراسي استولوا عليها بغير وجه حق.

قبل عشر سنوات كنت ضمن حفنة من الصحافيين الذين حظوا بإجراء مقابلة صحافية مع الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد، وكانت تلك أول مرة يدلي فيها بحوار صحافي منذ استقالته أو دفعه إلى ذلك، تمهيدا لتوقيف المسار الديمقراطي الذي أسفر أواخر عام 1991 عن صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ وفوز مرشحيها بأغلب مقاعد البرلمان. خلال وجودنا ببيت الرئيس بن جديد سجلنا كلاما للنشر وكلاما آخر على الهامش، وكان منه أن الرئيس الشاذلي كان مع إكمال التجربة وفسح المجال لممثلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ كي ينفذوا برنامجهم في البرلمان وفي الحكومة، هي فرصة لهذا الحزب حديث العهد بالعمل السياسي العلني ليجرب الحكم ويخوض في تفاصيله، وفرصة أيضا أمام الشعب الجزائري لكي يختبر هؤلاء ويتأكد واقعا إن كانوا صالحين لتولي مقاليد الحكم أم لا. لم تكن الصورة مشوشة عند الشاذلي بن جديد، فإما أن يثبت إسلاميو جبهة الإنقاذ جدارتهم ويكونوا في مستوى آمال القاعدة الشعبية العريضة التي اختارتهم، فيستمروا في الحكم أو أن يتعثروا وتتجاوزهم الأحداث وهنا يتدخل الرئيس باستعمال صلاحيته الدستورية في إقالة الحكومة وحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة يصوت فيها المواطنون وفق ما عايشوه واقعا. حينها لن يكون تهميش الجبهة الإسلامية للإنقاذ عملا انقلابيا، ولن يبقى أمام أي أحد إغراق البلاد في أتون التطرف والعنف الدموي الأعمى. لكن جنرالات الجزائر كان لهم رأي آخر ففضلوا الحل الراديكالي الذي أوصل الجزائر إلى ما يعرفه الجميع، ربما كانوا متأكدين أن لا جدوى من منح الإسلاميين فرصة لتولي الحكم لأن الفشل أكيد معهم أو لعلهم كانوا يخشون نجاح التجربة وضياع مجدهم الأكيد.

الإسلاميون ظلوا لعقود طويلة ‘البعبع’ الأمثل لإخافة الشعوب والحكومات الغربية بهم، وقد صدق جزء كبير من شعوب المنطقة الأمر تماما كما فعلت الأنظمة وكثير من المنظمات الأجنبية، بعضها فعلت دون طرح تساؤلات وأخرى أدركت أن في الحكاية كثيرا من التطاول والافتراء لكن ما كان عليها أن تفعل شيئا آخر غير مجاراة الأنظمة العربية ومدها في كثير من الأحيان بالمال والسلاح والخبرات العسكرية المختلفة المباشرة وغير المباشرة، من أجل ترويض هذا ‘البعبع’ وشل حركته. وما الحكايات التي نسمعها هنا وهناك وآخرها ما تعرض له إسلاميو الجماعة الليبية على يد نظام القذافي بدعم مباشر من المخابرات الغربية، إلا جزء يسير من مسلسل طويل وقاتم من الحكم الديكتاتوري المدعوم من الخارج، ولا نتحدث هنا عن كارتل وزارء الداخلية العرب الذي أبقى وجه التعاون العربي ناصعا وسما فوق سحب الخلافات السياسية والدبلوماسية العربية العربية. لم تكن أمام الإسلاميين فرصة للعمل السياسي العلني وتقديم تجربتهم عمليا ليقيمها الآخرون، وحتى لا تختلط الأمور على القارئ الكريم فإنني هنا أتحدث عن الإسلاميين الحقيقيين وليس الذين تسلقوا بلحاهم على سلالم السلطة وتحالفوا مع أنظمة طاغية متجبرة لا علاقة لها أبدا بالمبادئ التي يدعون الانتماء إليها، والجزائريون مثلا يعرفون هؤلاء جيدا.

طيلة سنوات الاضطهاد والمطاردة كان الإسلاميون يقاومون ويعملون مدفوعين بعزيمة الصمود وغريزة البقاء، وعندما أتيحت لهم الفرصة للنشاط العلني لم يجدوا صعوبة كبيرة في اكتساح قلوب الشعوب ونيل أصواتها. ربما ليس كل الذين صوتوا لصالح الإسلاميين متدينين بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل قد يكون منهم ناخبون لا يتفقون مع ‘الحل الإسلامي’ لكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين في اختيارهم، وقد برز ذلك في الانتخابات الجزائرية الموؤودة قبل عشرين سنة عندما وجد كثير من الناخبين الجزائريين أنفسهم مخيرين بين التصويت لصالح نظام فاسد ظالم منبوذ أو تزكية مرشحي حزب تبين لهم أنه الوحيد الذي يمكنه أن يشكل بديلا قويا وقادرا على الإطاحة بنظام يسوسهم بقوة الحديد والنار.

أسمع وأقرأ هذه الأيام انتقادات للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي (تحالفت مع الشيطان) وساهمت في صعود الإسلاميين المفترض أن يكونوا أعداءها على حساب حلفائها التقليديين. انتقادات قد تكون مفهومة إذا سلمنا جدلا أن الثوار الليبيين والإسلاميين في مصر وتونس هم فعلا إرهابيون همهم الوحيد هو إشعال فتيل الفتنة وتهديد الأمن العالمي، لكن هنا أيضا يكون أصحاب هذه الانتقادات مخطئين لأنهم لم ينتبهوا إلى أن حكومات الغرب ليست بتلك الدرجة من الغباء والجهل حتى تسمح لأناس يشكلون خطرا مباشرا عليهم وعلى مصالحهم بقيادة بلدان قريبة منهم. إذن إذا استثنينا عنصر الغباء فسنجد هناك مبررين على الأقل يفسران سر دعم الغرب للإسلاميين أو على الأقل السكوت عنهم، أحدهما اقتناع الغرب أن مجيء الإسلاميين إلى الحكم لن يكون أشد ضررا من بقاء الأنظمة الفاسدة، والثاني أن قيادات التيارات الإسلامية المحظورة كانت مجتهدة لإقناع الحكومات الغربية أنها ليست بالسوء الذي يصوره عنهم الحكام العرب، وهنا أيضا لا بد أن نعترف بأن الحكام العرب كانوا يحفرون قبورهم بأيديهم عندما كانوا يحاربون الإسلاميين ويجبرونهم على النجاة إلى المنفى، هناك وجدوا متسعا من الوقت للعمل الجاد وتحضير أنفسهم لما صاروا إليه وهناك أيضا كانت الحكومات والاستخبارات الغربية تختبرهم وتتأكد ميدانيا أن ما يقال عن هؤلاء (المتطرفين) شيء وما هم عليه شيء آخر قد يكون مختلفا تماما.

أعود إلى الجزائر لأختم وأقول للذين يروجون أو يتوقعون أن يبتسم الحظ هناك أيضا للأحزاب الإسلامية الموجودة على الساحة في أول فرصة انتخابية قادمة، إن ذلك سيكون حلما بعيد المنال، ولا أقول هذا تأييدا للذين يرون أن الجزائر جربت الإسلاميين والشعب قد اكتوى بنارهم ولا يمكنه أبدا أن يختارهم لحكمه، فهذه للتاريخ كذبة كبرى لأن الإسلاميين لم يحكموا البلد من قبل والشعب لم يجربهم ولا يعرف عنهم إلا ما روجه عنهم النظام، وهذا لا يعني أنني أزكيهم أو أصر على أنهم ملائكة. الانتخابات إذا جرت في الظروف الحالية التي تعيشها الجزائر لن تأتي بجديد ولو نال الإسلاميون المسموح لهم بالمشاركة السياسية كل مقاعد البرلمان المقبل، ذلك أن هؤلاء لا يختلفون في شيء عن سياسيي الأحزاب الأخرى وهم يتحملون جميعا وزر إطالة عمر النظام وتسخير مبادئهم وقواعدهم لخدمته والاستمرار في نشر الفساد. كما أن حكمي هذا لا يعني أبدا أن حكم الجزائر في مرحلة ما بعد التغيير سيكون بيد الإسلاميين المهمشين والممنوعين من النشاط، بل الأكيد أن حكام الجزائر الجدد سيختارهم الشعب بكل حرية ولن يكونوا من الذين تلطخ تاريخهم وسمعتهم بالتطوع لخدمة نظام فاسد تحت عنوان التحالف والمشاركة والتدرج والتغلغل.

خضير بوقايلة
29 نوفمبر 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version