مثل الأمطار الموسمية عاد الحديث عن اتحاد المغرب العربي إلى الواجهة بمناسبة أول زيارة رسمية قادت الرئيس التونسي الجديد محمد منصف المرزوقي إلى دول المنطقة. الحديث كان عن ضرورة إعادة القطار المغاربي إلى السكة بما يخدم مصالح شعوب البلدان الخمسة المشكلة لهذا الاتحاد الذي مضى على تأسيسه ربع قرن تقريبا لكنه في حالة موت إكلينيكي منذ 15 سنة على الأقل.

الخلاف الجزائري المغربي حول قضية الصحراء الغربية (أساسا) كان المعطل الرئيسي لاستمرار هذا التكتل الإقليمي الذي يضم الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، وقد صرح المسؤولون الجزائريون مرارا أن استئناف العمل المغاربي المشترك ولقاءات القمة المفروض أن تعقد سنويا لن يتم ما دامت قضية الصحراء الغربية لم تجد لها حلا نهائيا، والحل النهائي عند السلطات الجزائرية يعني ميلاد دولة الصحراء الغربية المستقلة تماما عن المملكة المغربية. وبما أن الجميع يدرك أن الجزائر والمغرب هما الدولتان الأكثر وزنا في المنطقة فإن الرأي الأسلم لباقي الدول أن تختفي عن الساحة وتنتظر تصالحا يبدو مستحيلا في ظل الأوضاع الراهنة بين المملكة والجزائر. الكلام المعسول المزخرف بعبارات الكذب والنفاق حول أهمية دور الاتحاد المغاربي في تحقيق الرخاء لبلدان وشعوب المنطقة لم يتوقف في تصريحات المسؤولين المغاربة وفي الرسائل البروتوكولية المتبادلة بين قادة المنطقة في المناسبات والأعياد الرسمية الخاصة بكل بلد، لكن الواقع الصادق يخالف ذلك تماما، فالحدود البرية بين المغرب والجزائر لا تزال مغلقة منذ عام 1994 والتعاون التجاري بين بلدان المنطقة لا يكاد يساوي شيئا يضاف إلى ذلك كله حالة الجفاء واللامبالاة التي تسود نفوس أبناء الاتحاد وقد نجحت الأنظمة الشمولية في المنطقة إلى حد بعيد في زرع بذور الفتنة بين الشعوب وتكفي لمن لا يصدق جولة خاطفة على أهم المواقع الإخبارية والمنتديات في كل بلد ليقف على مدى النجاح الباهر الذي حققته هذه الأنظمة في نشر الكراهية والبغضاء بين أناس يفترض أن يكونوا إخوة بحكم دينهم الذي يأمرهم بذلك أولا ثم بحكم المواثيق والخطابات الرسمية المتداولة هنا وهناك، سب وشتم وتنابز وإصرار على الاستمرار في حالة الخصومة وتأكيد من هؤلاء وهؤلاء على أن الأفضل لهذا الشعب أو ذاك أن لا يتصالح ولا يلتقي أبدا مع الآخر، الحالة المزرية نجدها بين المغاربة والجزائريين قبل أن تنضم ليبيا الجديدة إلى القائمة.

الدكتور منصف المرزوقي يحاول أن يظهر كالمبشر الجديد والحريص على إعادة القطار المغاربي إلى السكة وهو الآن يكثف من تصريحاته ودعواته من أجل تحقيق هذا الهدف، وقد دعا من الرباط قبل أيام إلى عقد قمة مغاربية هذا العام تكون محطة رئيسية لبعث الروح في جسد هذا الكائن الميت، لم يرد أحد من القادة المغاربيين الآخرين مواجهته بالحقيقة المرة، بل تركوه يحلم، وما دام الكلام ببلاش كما يقال، فإنهم أغدقوا عليه خلال محادثاتهم معه أو من خلال تصريحات جانبية بما يطمئنه ويشجعه على الاستمرار في مشوار يعلمون جيدا أنه سينتهي به إلى طريق مسدود.

الوحدة المغاربية كانت حلما تحمله شعوب المنطقة ونخبها منذ أن كان المستعمر مهيمنا على المنطقة، وهو حلم مشروع ومنطقي لا أحد يمكنه أن يتعرض له بسوء، ولو تحقق ذلك ولو جزئيا لما وصلنا إلى حالة الضياع التي نحن عليها الآن، لكن الأنظمة التي سيطرت على الحكم في بلداننا رأت أن تحقيق ذلك الحلم يتناقض مع مشاريعها ويفسد عليها أحلامها الأنانية ويهدد عروشها التي بنتها على جماجم الشعوب وضد إرادتها. تحقق الحلم كان ممكنا في السنوات الأولى التي تلت استقلال بلدان المغرب العربي لو لم تستول الديكتاتوريات على مقاليد الحكم، ومع ذلك فإن جذوة الأمل لم تنطفئ تماما في قلوب الصادقين والمخلصين في بلدان المغرب الكبير لكن أي عمل جاد في سبيل تحقيق الحلم مستقبلا لا يمكن أن يكون إلا بعد أن تتحرر شعوب المنطقة كلها من مستعمريها الداخليين ويتكفل أبناء المنطقة ببناء صرح هذه الوحدة بدلا من ترك الحكام يقررون بدلا عنهم متى يتحرك قطار الاتحاد ومتى يتوقف ومتى يخرج عن السكة ومتى يعود إليها.

لست هنا مشككا في صدق نوايا الرئيس التونسي وحرصه على تشغيل القطار ووضعه في الطريق الصحيح، لكنني أعتقد أن التطورات التي حصلت وتحصل في المنطقة والتي حملته إلى قصر قرطاج بعد أن كان مطاردا منبوذا في بلده لا بد أن تكون القاعدة التي ينطلق منها في عمله وإلا فإنه لن يكون مختلفا عن أي حاكم ديكتاتوري آخر وصل إلى الحكم إثر انقلاب أو ضد رغبة شعبه. فالجزائر مثلا يحكمها حاليا نظام شمولي فاسد لا علاقة له أبدا بالمبادئ والأفكار التي كان المرزوقي يناضل من أجلها وهو يعلم جيدا أنه عندما يتعامل مع هذا النظام وفق الطرق التقليدية الطبيعية السائدة فإنه لن يكون غير واحد من اثنين، إما منافقا متزلفا وخائفا أو منسلخا مرتميا في أحضان أنظمة كان إلى وقت قريب يندد بها ويحرض من أجل الانقلاب عليها. أعلم أن قواعد العمل الدبلوماسي تقيد الرجل السياسي وأن هناك فرقا بين الواقف على منصة المعارضة والجالس على كرسي الحكم حيث يتعين على الأخير التقيد بالتزامات المنصب والتضحية بكثير من القناعات والمبادئ الشخصية لمصلحة البلد الذي يمثله وشعبه، لكني لا أرى أن الحرص على إعادة بعث الحياة في جثة هيكل ولد ميتا يشكل أولوية في أجندة رئيس تونس وشعبها في الوقت الراهن. لا بد لشعوب المنطقة وحكامها أن يشعروا أن ما طرأ من أحداث في المنطقة منذ عام مضى إنما هو أمر جدي لا بد أن تكون له آثار ونتائج على الأرض، ولا بد لأمثال المرزوقي أن يحرصوا على أن يكونوا فاعلين مؤثرين على الأحداث في منطقتهم وإلا فإنهم لن يكونوا مختلفين عن زين العابدين بن علي الذي طردته ثورة الياسمين إلى مزبلة التاريخ. الشعب الجزائري لا يزال يرزح تحت وطأة نظام ظالم فاسد يحاول الآن جاهدا أن يغير جلده بقرارات فوقية يسميها إصلاحات عميقة وجذرية، وإذا لم يستفد الجزائريون عاجلا من دعم إخوانهم من الشعوب المتحررة ولو بكلمة حق فإن أقل ما يمكن أن يقدم لهم هو أن لا يرتمي حكام المنطقة الجدد في أحضان الدكتاتوريين ويغدقوا عليهم بالثناء من قبيل ما نقل على لسان زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي خلال زيارته الأخيرة إلى الجزائر أو ما صرح به المرزوقي في مختلف محطات الجولة التي قادته إلى هناك هو أيضا. ما جرى في تونس أو ليبيا لم يكن أمرا عاديا، بل هو ثورة شعبية قلبت الأوضاع رأسا على عقب ولكي يكون ورثة هذه الثورة في مستوى الحدث عليهم أن يحدثوا هم أيضا ثورة على العمل السياسي والأعراف الدبلوماسية السائدة وسيلمسون نتائج ذلك سريعا، إذ لا يعقل لمناضلين قضوا أعز وأبهى سنوات عمرهم في محاربة الفساد والطغيان أن يتحالفوا مع رموز الفساد والطغيان بحجة أنهم صاروا هم أيضا حكاما وأن عليهم أن يتعاملوا بحكمة ودبلوماسية مع محيطهم. لا نطلب منهم أن يخوضوا حروبا بدلا عن الشعوب المضطهدة، لكن عليهم أن يطيلوا من عمر الديكتاتوريات المتبقية وأن لا يثيروا حنق تلك الشعوب.

وليعلم الدكتور المرزوقي أن بعث الاتحاد المغاربي لن يكون بعقد القمم والاجتماعات الوزارية وتبادل الزيارات والتقاط الصور وتوزيع الابتسامات بين الحكام، بل يكون بقرارات عملية تكون نتائجها الإيجابية ظاهرة في الواقع والحياة العملية وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت تلك القرارات صادرة عن هيئات ومؤسسات ورجال يمثلون حقا إرادة شعوبهم. وإذا أراد المرزوقي فعلا الخير لشعوب المغرب العربي وإقامة هياكل لتعاون حقيقي بين بلدان المنطقة أن يبدأ أولا بتقييم حقيقي شامل لمؤسسة اتحاد بلدان المغرب العربي ويدرس الأسباب التي جعلت القطار يخرج عن سكته قبل أن يفكر في إعادته إليها، فلعله يكتشف أن القطار لم يكن أصلا قطارا أو أن السكة مهترئة وعندئذ لا مجال لتحريك القطار إلا بإصلاح السكة أو إقامة سكة جديدة تضمن لسائق القطار أن لا ينحرف به عند أول منعرج. الخارطة السياسية الجديدة بدأت تتشكل ولا بد للحكام الجدد أن يؤسسوا عملهم المستقبلي وفق معطيات صحيحة وحقيقية لا نفاق فيها ولا كذب، علينا أن نتأكد أولا أننا فعلا بحاجة إلى هيكل يسمى اتحاد المغرب العربي ثم نهتم بأمره، فربما يثبت لنا خبراء العهد الجديد أن الذي يليق بشعوب المنطقة هو شيء آخر غير هذا الاتحاد أو ربما نكتشف أن نهضتنا لن تكون بمثل هذا التكتل بل بتكتل آخر غيره أو بخطة عمل مخالفة تماما للنمط القديم، ولنا في الأزمات التي تعصف حاليا بالاتحاد الأوروبي خير مثال على أن هناك رهانات وتحديات جديدة علينا أن نأخذها في الحسبان لننطلق في سكة صحيحة تخدم مصالح شعوبنا ومنطقتنا بالأساس.

خضير بوقايلة
14 فبراير 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version