تدخل "هملة" الانتخابات الرئاسية الجزائرية أسبوعها الثالث بعدما طوت مثليه، هرج كبير ووعود أكبر وكلام على عواهنه يحسبه الظمأى – من الجزائريين –  ماء حتى إذا انتهت الحملة اتضح أنها أقوال من يعرف أنه لا يصدق تليت على مسامع من لا يصدق. ومن فرط ما سمعنا منهم، تأكدنا أنّ قصة حملة الرئاسيات تتمحور حول فكرة واحدة، هي فكرة تلك النادرة العربية التراثية التي قرأنا في كتب الابتدائي، قصة صاحب محل الشواء وذلك الرجل الغريب التي تحمل عنوان "واحدة بواحدة"، فوفق فكرة "الواحدة بواحدة" يعد المترشح المواطنين وعودا مكتوبة بدخان على صفحات من ريح، وبها يعطي الريح ﴿الوعود﴾ وينال الصحيح ﴿المال﴾، ولكن تلك الوعود الدخانية يكون منتهاها في وعي السامعين ﴿المواطنين﴾ لا شيء. ذلك أن اللعب في هذه الحملة بين الناخب والمترشح، هو لعب على المكشوف، هذا عن أولئك المترشحين الخمسة الذين تذكرنا أحاديثهم بالحصة التلفزيونية التي كان يعدها للتلفزيون الجزائري في ثمانينات القرن الماضي المرحوم عبد القادر طالبي، حصة "الألغاز الخمسة"، لأنّ مجرد قبول ملفاتهم في مقابل عزوف شخصيات من العيار الثقيل، على غرار زروال الذي راوده الكثير من محبيه عن نفسه لدفعه للترشح فأبى، أو على غرار مولود حمروش وعبد الحميد مهري اللذين غابا غيابا حتى يئس الكثير من المتتبعين من عودتهما ولو عاد مهدي الشيعة وعاد ابن مريم ليصلح ما فسد، أما الرجل الثالث الذي كان يكمل تحالف الرجلين المذكورين حسين آيت أحمد، فإنه قرر ركوب قاطرة المقاطعة.

ومن غرائب الزمن وعجائب السياسة، أنّ هؤلاء الذين أعابوا يوما ما على جبهة الإنقاذ الإسلامية انصياعها للجماهير وتحركها وفق هواها حتى ولو دخلت هذه الجماهير جحر ضب دخل خلفها عباسي وبلحاج، فكانت نهاية ظاهرة حزبية كبيرة تسمى الفيس، حينما فشلت في تأطير جماهيرها ووضعت في عنقها حبلا جرها منه الخصوم والجماهير إلى حتفها. اليوم نفس هؤلاء الذين أعابوا هذه الزلة السياسية التي اقترفها عباسي وبلحاج وصحبهما، يصنعها سعدي عدوهما اللدود الذي عبثا يحاول مع غيره من المقاطعين أن يصادروا أيّ إنجاز تصنعه المقاطعة الشعبية لصالحهم، مموهين الموقف بتسويغ كذبة تافهة، مفادها أن المقاطعين الذين عزفوا عن صناديق التشريعيات والمحليات الماضيتين والذين من المرجح أن يفعلوها مرة أخرى مع رئاسيات التاسع من أبريل إنما فعلوا وسيفعلون ذلك تأييدا لسعيد سعدي وأشباهه، والواقع عكس ذلك تماما وهذه خرافة عارية من الصحة.

المرشحون الذين تعجبك وعودهم إن تسمعهم يدخلون غمار التسابق نحو المرادية، وكلهم يقين بأنّ ترشحهم لا يخرج عن المنطق الانهزامي الذي كثيرا ما كنا نسمعه عقب كل خيبة في المراسيم الرياضية الكبرى، منطق "المهم المشاركة"، وطالما أنه منطق غير سليم لا يقبله ولا يقره المنطق فهو إذا تمنطق "اللا منطق"، وهو الذي بات عرفا وسلوكا  بل أكاد أقول عنه أنه عقيدة عربية صرفة لدى ساسة العرب حتى على أعلى المستويات، فـ"المهم المشاركة" هذه هي شعار القمة الحادية والعشرين للعرب المجتمعين ﴿أقصد المشاركين﴾ في الدوحة، وكانت شعار كل القمم التي سبقتها، على الأقل منذ ثلاثة عقود، منذ باع السادات قضية العرب في كامب ديفيد، وحتى الذين كنا نراهم يصنعون الحدث "بجنب ذئب وجنب ثعلب" ويبدون مواقف زئبقية لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، ويظهرون في ظلمات الدجى السياسي كالخفافيش بجناحي طير وأنياب فأر، ممن كان يسميهم الراحل محفوظ نحناح ويفخر بأنه مؤسس هذا الفكر تحت مسمى "المشاطعة"، أي لا معارض ولا مقاطع، زالوا تماما ولم نعد نسمع لهم ذكرا أو نرصد لهم ركزا، وهذا لا يعني أن هؤلاء – سواء جزائريا أو عربيا لأنّ ما يحدث عندنا يحدث على الصعيد العربي– قلنا أنّ هذا لا يعني أنهم تابوا وآبوا وعادوا وتركوا ما بقي من النفاق السياسي.

مطلقا… إن ذلك في الحقيقة لا يعكس أكثر من أنّ اللعبة السياسية باتت أشبه ما تكون بسفينة نوح – مع فارق نبوة وعصمة نوح وإيمان وإخلاص ركاب فلكه المشحون – وهذه السفينة السياسية هي التي لا يتخلف عنها إلا هالك، أما الذين يركبون رؤوسهم ويأوون إلى جبل ليعصمهم من الماء المنهمر سواء كانوا كحسني مبارك عربيا أو كالدكتور سعيد سعدي جزائريا، فإنّ الجبل الأمريكي بالنسبة للأول والجبل الفرنسي بالنسبة للثاني كلاهما لا يعصمان.

لكن إذا كانت سفينة نوح – عليه السلام – صنعت بأعين الله وهو مجريها ومرسيها وأنّ ركابها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة، فإنّ المصيبة الحقة مصيبة السفينتين السياسيتين العربية والجزائرية، ومصيبة ركابهما ومصيبة الجماهير والشعوب كلها، شعوب باتت في حيرة من أمرها لا نفع بعضهم عمالة حكامهم لأمريكا، ولا شفع لآخرين خصومة الأنظمة لأمريكا! فالمواطن العربي هو الذي يدفع كل الفواتير سواء كان حاكمه الأسد الذي يتشبث بدعم المقاومة ويرفض التطبيع، أو كان حاكمه مبارك المؤمن بأن قبلته البيت الأبغض وأنّ حب إسرائيل من الإيمان وأنّ الجنة تحت أقدام المارينز، وكذلك حال الجزائريين البؤساء، فهم دائما دافعي الفاتورات سواء فاتورة الجهاد ضد المستعمر أو فاتورة البناء والتشييد الاشتراكي أو فاتورة محاربة الإرهاب، أو حتى فاتورة العزة والكرامة، ومن هنا نفهم لماذا يقاطعون الصناديق فطالما هم الضحايا لا يهمهم من يكون الجاني والجلاد، كما لا يهمهم من يرأس  الجمهورية. حنون كرباعين، محمد السعيد كجهيد يونسي، وبوتفليقة كتواتي. والكل سواء "كي حمو كي بن عمو"، وإذا لم يكن مهما عندهم  من يحكم البلاد فأحرى ألا تبقى أية أهمية لمعرفة من يحكم البلدية، فضلا عن التصويت لفلان بدل علان، وحتى نتائج الانتخابات قد لا تعني لهم شيئا، ولهذا لا يهمهم الانتخاب نفسه، كما لا يهمهم سعيد سعدي أو غيره من دعاة المقاطعة، الذين أرغمهم الشعب على تبني فكرته فهرولوا يستنون بسنته آملين أن "يقرصنوا" نتيجتها كما قرصن الذين من قبلهم نتائج و أنفال جهاد المجاهدين في ثورة نوفمبر، ولم يكونوا هم من أقنعوا الشعب بذلك، لأنّ ما يكنه الجزائريون من محبة لسعيد سعدي المقاطع هي نفسها تقريبا درجة حبهم لأويحيى المشارك.

عبد الله الرافعي
30 مارس 2009

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version