نيرون يبعث من جديد

يتمادى “جيش السيسي” في تفكيك مصر، ولا أقول الدولة المصرية. إذ لو كان هذا جرمه -ربما- لهان في خضم ما نعيشه من عملية تفكيك المفكك وتجزئة المجزأ، على غرار العراق الذي فككه الأمريكان وعملائهم وقضوا على مفهوم الدولة، أو على غرار البائد معمر القذافي الذي فكك الدولة في ليبيا منذ وصل إلى حكمها في 1969، ووصنع شيئا غريبا عن عرف البشر فاختزل الدولة في نفسه ومؤسساتها في طيشه ونزواته وغرائزه.

السيسي دخل الشوط الأخير من عملية تفكيك مصر كدولة ومجتمع ومؤسسات، بل ودين وعرف وأخلاق، فقد أحل نفسه محل كل مجرم عبر التاريخ، والأدهى والأمر أن نفوس هؤلاء المجرمين جميعا ممن ذكره التاريخ  أو نساهم هي التي حلت في جسده وتلبسته. بالله عليكم أنا أتحدى أي مخلوق أن يذكر لي جريمة واحدة اقترفها جبابرة الدنيا السالفين لم يفعلها السيسي وجيشه وبوليسه؟ خرب العمران كـ”التاتار” وسجن وعذب كديدن كل استعمار وأحرق المساجد ودنسها وقتل الركع السجود في صلاة الصبح في رمضان، وهذا ما يأنف الصهاينة عن فعله، فحتى يوم أحرق غلاتهم مسجد الخليل انتظروا حتى قضى المصلون صلاتهم فأخرجوهم واحرقوا المسجد. ولا يزال مستمرا في زرع الفتن وبث الكراهية بين أبناء الشعب الواحد.

عبد الناصر خلق الفتنة بين الغني والفقير وأسس جمهورية “الحقد الطبقي” ونقل الأزهر من مكانة “مقدس ديني” إلى “مدنس سياسي”، والسادات حول نصر أكتوبر العربي – وهو آخر ما كان يتباهى به المصريون- إلى مخزاة في “كامب ديفيد”. ثم جاء مبارك ليؤسس دولة الفساد وحول الجيش المصري من عدو الصهاينة الأول إلى حاميهم الأول، وهاهو السيسي يزايد على الجميع بأن جعل الدولة مجموعة إرهابيين يدّعون مكافحة الإرهاب، وحول جيشها من “خير أجناد الأرض” إلى “شر أنجاس العِرض”. وبالإستعانة بـ”الحاخام الأكبر” “بابا الأزهر” شرع في تأسيس دين جديد يدعو لعبادة “الصهيوصليبة”، أئمته إلهام شاهين التي تكفلت بإعطاء “كورسات” للمشايخ في “الإسلام الحقيقي” وشاركتها في الدعوة لدين السيسي فضيلة الشيخة يسرا التي حذرت من مغبة التطاول على آلهة أبي الهول الذي لم يجرأ حتى “الخليفة” سيدنا عمرو بن العاص “صلى الله عليه وسلم” على تحطيمه. أما الشيخة المحجبة صابرين فلأنها أستاذة في علوم القرآن الكريم والتفسير راحت تصحح لنا خطأ درجنا عليه كلنا كمسلمين منذ 14 قرنا – ومن أولئك المخطئين أنا شخصيا- كنت أحسب أن القرآن نزل منذ 14 قرنا، ولكن الشيخة صابرين- جزاها الله ما تستحق- صححت لي خطئي وعلمتني أن القرآن نزل منذ 7 آلاف سنة.

هذا هو السيسي الانقلابي وهذه هي مصر المقلوبة والإسلام المقلوب. صحيح أننا لا نخاف على الإسلام لا من السيسي ولا من عبيده، لأن الإسلام – وإن كان بمصر يقوى- فإنه بلا مصر يبقى. ولا يحزنني كثيرا ما تفعله شرطة “العادلي” بالمصريين الشرفاء، فقد فعلت أفظع منه أيام العسكريين الثلاثة. لكن المصيبة في تفكيك المجتمع المصري وقطع آخر شعرة كانت تربط الشعب بالدولة وهو الجيش الذي استأسد الجمعة الماضي – كما يفعل مع الصهاينة- على حرائر مصر الشريفات إهانة وكشفا لأوجه المنقبات وسوقا إلى السجون في مناظر لم يضاهيهم فيها إلا جيش الصرب الصليبي الذي كان يبقر بطون المسلمات البوسنيات، وأنا شخصيا لا استبعد أن يتطور إجرام جيش السيسي إلى هذا مادام يطالب صراحة بتحصينه لعزمه على ما هو أشر وقد زايد على كل مجرمي التاريخ. فلا بد أن يتفوق في الخسة والإجرام على “نيرون” الذي ضاجع – والعياذ بالله- أمه، فما بقي للسيسي إلا هذا، وإذا علمنا أن أمه يهودية واليهود يستبشر الرجل منهم إن رأى في منامه أنه يضاجع أمه.

الطريق هاهنا

لعبة تبادل الأدوار بين “الجيش السيسي” و “الجيش الصهيوني” ضد غزة و حكومتها تثبت أن مستقبل الغدة السرطانية المتورمة في جسد أرض الأنبياء بات بين فكي كماشة في شكل معركة تشبه إلى حد ما حروبها الأربعة ضد العرب، حيث تواجه جبهتين، شرقية سورية و غربية مصرية، مع فارق ليس بسيطا بل جوهري جدا، وذلك ما تترجمه الصفقة العسكرية منحت من خلالها الصليبية الأمريكية ست طائرات هي الأحدث على وجه الأرض لحليفتها الصهيونية  تحسبا لحرب شعبية مفتوحة متوقعة بين الكيان الصهيوني و العرب، يكون عنوانها هذه المرة “حرب إسلامية يهودية”، هدفها “التحرير الشامل” لا مجرد “التحريك الاستراتيجي”، حرب عقيدية يتوقع لها أنتكون حقا “حرب وجود، لا حرب حدود”. ومن جهة أخرى فالمعركة هذه المرة تختلف من حيث أن الصفوف الأولى التي تحمي الكيان الصهيوني هي قوات “حماة الديار” شرقا و”خير أجناد الأرض” غربا.

إن الفرصة السانحة و غير المسبوقة للقضاء على الكيان الصهيوني قد آنت كما لم تحن من قبل، – و حقيقة- لا أعرف لماذا تتأخر حماس في ضرب الكيان الصهيوني وجره لحرب ستكون لأول مرة برغبتها لا مفروضة عليها ككل مرة. لأن المواجهة اليوم مع الصهاينة لها معطيات على الأرض كلها تصب في صالح المقاومة من جهة، كما أنها تشدد الخناق على نظام “العبث الشركي” و حاكمه النصيري في دمشق، وتخلط أوراق السيسي و تحرق قلوب “عبيدة” من جهة.

إن الصهيوصليبية ما أذلت العرب و المسلمين واحتلت أوطانهم، ولا نهبت ثوراتهم إلا عن طريق عامليها على هذه الأقطار. و هي لا تخشى شيئا أكثر من معركة على التماس المباشر مع الشعوب العربية التي لا سلاح لها غير العقيدة، ولا قائد لها إلا كتاب الله و سنة رسوله ولا غاية لها إلا إحدى الحسنين “نصر أو شهادة”.

إن تكالب أبواق الفتنة في مصر و فتحهم نار الطعن و اللعن ضد التعساء البؤساء في سورية و غزة، دليل آخر على أنهم استشعروا هذا الخطر فبات المطلوب من كل فصائل المقاومة في فلسطين و مواطني الضفة الغربية على وجه التحديد أن “يتحرشوا” – إن جاز التعبير- بقوى الاحتلال من خلال عمليات تجر الكيان الصهيوني إلى ما لا يريد، وهو دخول المواجهة التي ستجره إلى حتفه وتشعل حربا شاملة في المنطقة، تكون فيها تل أبيب أمام نارين شعبيتين شرقا و غربا و نار أخرى بالضفة الغربية. حرب أيا كانت نتائجها فهي بلا شك ستفشل انقلاب السيسي و تقوض أركان نظام الصنم الدمشقي و تنهي فساد “لوردات” الفساد في “كانتون” الضفة الغربية، وتنهي الحصار الجائر على الغزاويين، و قد تقضي نهائيا على الكيان الصهيوني المحمي بأنظمة عربية عميلة تلعنه في العلن و تسبح بحمده و تقدس له في السر و تضحي لأجل بقائه بكل ما أوتيت و لم تؤت من القوة و الخسة أيضا. لأنها نشأت معه و بقاؤه سبب رئيس لبقائها تماما كما أن زوالها يزيلها. إنها معادلة صفرية لا بد من تفعيلها واقعا، و لأن أمريكا لم تسكت عن ذلك ولا بقية أنظمة دول “قمعستان” العربية تغض الطرف عن تساقط بعضها بعضا رغم عداوتها، فلا بد بعد ذلك أن تستشري موجة تحرر شاملة في كامل بلاد العرب، تكون هي الربيع الحقيقي الذي لن تركبه القوى الغربية كما فعلت مع موجة الربيع “البوعزيزي”.  

حديث عن السلطة والمعارضة

نظريا تبدو جمهورية إيران لا تختلف في أغلب الصفات والملامح عن أي جمهورية أو مملكة أو “جملوكية” عربية، غير أنها في الواقع تختلف كل الاختلاف فهي تتحدى الغرب أو تحالفه. و ليس مهما ذلك، المهم أنه لا يجرأ على البطش بها أو إذلال حكامها أو إعدامهم. يحاصرها الغرب ويلعنها في السر والعلن، لكنه لا تسول له نفسه أن يحلق طيرانه في أجوائها أوتدوس أقدام جنده ترابها، ولا تمتد أنابيب شركاته إلى قطرة واحدة من نفطها. إيران تفاوض الغرب بندية ولا تقبل الدنية، والسبب في ما هي عليه هو نفسه سبب اختلافها عن دول “قمع ستان” العربية. وهو أن هذه الدولة تتميز عن العرب في كونها دولة متماهية مع قضاياها  ولها معارضة تعمل في إطار من الضوابط الوطنية. ببساطة شديدة سلطة ومعارضة إيران كلاهما يحرمان أشد الحرمة العمالة للآخر لتحقيق أهداف شخصية ضيقة، وهذا هو وجه الاختلاف الوحيد بينها وبين العرب.

مصيبة العرب أن كلا من السلطة والمعارضة يتنافسان منافسة قذرة في العمالة للغرب وتستقوي به كل منهما على الأخرى. ما يجعل أمريكا وفرنسا وبريطانيا في موافق مريحة أمام خيارات أريح، إذ لا يهمها لمن تدول الدولة ولمن تكون الغلبة مادامت مصالحها مكفولة أيا كان المتسلط وأيا كان من يعارضه. لذلك عملت على عرقلة الثورات العربية ووقف امتدادها لبلاد أخرى، لأن رياح الثورة ليست تكنولوجية بل طبيعية. والغرب الذي تفوق تفوقا خرافيا في التكنولوجيا لم ولن يقدر على التحكم في الطبيعة، فأمريكا يمكنها التعامل مع أعاصير مثل “كاترينا” و”النينيو” و”النينيا” ولكنها ليس بمقدورها – مع ما أوتيت من بسطة في العلم والتكنولوجيا- أن تمنع حدوثها. وكذلك الثورات العربية فهي التي تأتي جارفة تقتلع أنظمة فاسدة عميلة مستبدة وتحرم بسرعتها وعنفوانها وشعبيتها واشنطن من اختيار البديل للحفاظ على مصالحها.

صحيح أن أمريكا تقف على نفس المسافة من السلطة والمعارضة في أي دولة عربية، ولكن ذلك لا يكون إلا في دولة ديكتاتورية كلاسيكية. أما بالنسبة لدولة ربيعية كمصر مثلا فهي ( أمريكا) لن تتوانى البتة في الوقوف مع المعارضة ودعمها وحملها للانقلاب على الشرعية دون خجل أو وجل.

إن روح الثورة الشعبية المأمولة هي أن تكون بعيدة كل البعد عن أي استقطاب خارجي بالأساس وأن يكون هدفها الرئيسي ليس إسقاط الأنظمة الحاكمة فقط، إنما أن يكون لها الموفق نفسه من المعارضة. ذلك أن المعارضة في البلاد العربية ليست معارضة للنظام بل هي “معارضة النظام” التي صنعها في مخابره وأنضجها على عينه. وحقل نشاطها ليس أكثر من مجال محدد مضبوط محصور في منافسة النظام في خدمة القوى الكبرى، وعلى رأسها باريس وواشنطن اللتان قسمتا الأمة العربية إلى مناطق نفوذ كل منهما تستحوذ على دول عربية معينة، لا بوضع اليد بل بوضع العملاء سواء كانوا “متسلطين” أو “معارضين”. بمعنى أبسط مما ذكر نقول أن كل دولة عربية يحكمها نظام عميل فاسد مستبد وتقابله معارضة “طابور خامس خامج”. يحكمها الأول بالوكالة من الغرب ويعارضه الثاني بمباركة من الغرب نفسه. وهذا ما حصنت جمهورية “الملالي” نفسها منه، وهو أيضا الهدف الذي تنشده الشعوب العربية من ثوراتها لأنها شعوب مستعدة لمسامحة من يفشل في التخطيط لإنجاح ثورتها، ولا مبرر لديها لمن يخطط لإفشال ثورة ضحت بأبنائها لأجلها. فالفرق بين محمد مرسي ومحمد حسني ليس لحية الأول و “باروكة” الثاني ولا هو خمار زوجة الأول و”تنورة” زوجة الثاني، بل إن الفرق هو بين خيانة واستبداد “حسني باراك” وعمالته لأمريكا، ووطنية شرعية محمد مرسي و عمالته للمصريين. فالأول كان “متحكما في المصريين” نيابة عن واشنطن و الثاني كان حاكما للمصريين باختيارهم.

السقوط

للوهلة الأولى خلت أن الجنرال السيسي مجرد مغامر انقلابي سبقه العشرات وقد لا يكون انقلابه آخر الانقلابات، لكن ما يحير العقول في غطرسة هذا الكائن أنه ما ترك من شنائع الأفعال ومساخر الأقوال إلا فعل وقال، ولذلك رحت أبحث عن بيبيوغرافيا له فوجدتها شحيحة قبل أن يكرمه مرسي ويتمرد اللئيم على الكريم فيعض اليد التي امتدت له بالخير ونقلته من جنرال دون العادي في الجيش المصري إلى الرجل الأول فيه. غير أنني وجدت في إحدى خطاباته الخرقاء ما عبر به فيه عن نفسه قولا واحدا “كل شيء لا يرضي الله أنا معه وأدعمه”.

هذا هو العنوان العام لما يقوم به السيسي، بل إنه يمكن أن يكون وثيقة هوية له. ورغم عيوبه وجرائمه التي تنوء بحملها الأسفار إلا أنه لم يصدق إلا في وصف نفسه هذا الوصف، الذي باشر يترجمه إلى واقع، حيث عكف منذ انقلابه على تأكيد معاداته لكل ما لله فيه رضا.

وعلى الرغم من أن انقلابه فشل عمليا إلا أنه لا يريد أن يرعوي لعلمه علم يقين أنه إن تراجع سيحاكم بتهم لو قورنت بجرائم مبارك لظهر أمامه – رغم فساده وبطشه واستبداده- وكأنه مجرد “حرامي غسيل”.

أظن أن السيسي أنهى كل الجرائم والأباطيل التي بحوزته، وهاهو يقلّب في زبالة الأولين ككلب شوارع ليعيد إنتاج واستنساخ جرائم وأباطيل أخرى سبقه بها غيره، على غرار ما روج له أبواق الفتنة الانقلابية نهاية الأسبوع حول محاولة اغتيال السيسي التي خرج منها “رومبو” سالما، وهي الفرية التي سيرفع استنادا عليها عسكره وبوليسه وبلطجيته من وتيرة الإجرام إلى ما فوق اللون الأحمر، ويطلق أياديهم لتعيث في العزل بطشا بلا رحمة، لا سيما بعد أن غير عقيدة الجند من حماية التراب المصري إلى حماية حماة الكيان الصهيوني الذي أعاد له السيسي سيناء بتنازل تم في 6 دقائق بعد ما حررها الرجال البواسل في رمضان 1973 في ست ساعات!

إن السيسي لم يثبت فقط أنه مجرد مجرم بل إنه غبي أحمق سلم وعيه و ذمته و قراره للرعاع. وهذا ما يختلف فيه عن كل المجرمين القتلة. فمن عادتهم أن يسخروا الكل لتبييض سود صفائحهم وشرعنة جرائمهم، أما السيسي فإنه يلبي ما يريد له – و منه- فنانو مصر، قالوا “تسلم الأيادي” فأطلق الأيادي الآثمة تنكل بالآمنين في “رابعة” و”النهضة” ومسجد الفتح، ثم قالوا “السيسي رئيسي” فقال “حصنوني”، وقالوا “إن الفلسطينيين والسوريين أعداء مصر” فسلم سيناء لليهود… والحبل في رقبة السيسي (اسألوا المصريين ما معنى كلمة سيسي) وكل من هب ودب – بل ومن لم يهب ولم يدب أيضا- بات يجر السيسي لحتفه وفيه ستكون نهايته مسحولا في الشارع كـ”تشاوشيسكو”. وأكبر آيات غباء السيسي التي تثبت أنه “اسم على مسمى” أنه يعجل نهايته وهو يعتقد أن إجرامه سينجح الانقلاب ويبلغه رئاسة مصر بوهم من خياله المريض. وصدق النبي ﷺ إذ يقول” شر الناس من باع دينه بدنيا غيره”، وهكذا يفعل الأحمق بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه.

الحقيقة والسراب

على الرغم من فضائح حكام العرب ماضيا وحاضرا إلا أننا نقف مذهولين أمام فضائح “سَلَطة عباس” ومن معه من صقور رام الله. فما توشك الناس على نسيان فضيحة حتى تدوي أخرى في سمع الزمان. بعد فضيحة محمد دحلان وطرده من العصبة أولي الفساد في “كانتون” السلطة انفجرت فضيحة نجل عباس المقاول الذي يمون الصهاينة لبناء جدار الفصل العنصري بالقدس الشريف، ومن فضيحة البناء هذه إلى فضيحة المباني، بل فضيحة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية السريرية الساعية إلى إماتة القضية موتا سريا سريريا.

استفقنا هذه الأيام على وقع التحقيقات المتعلقة بوفاة أو مقتل أو تسميم ياسر عرفات، هذه هي العناوين العامة راهنا للأخبار، وعلى الرغم من كونها فضيحة أخرى – بجلاجل- تضاف إلى اللائحة السوداء لأوصياء القضية الفلسطينية، إلا أن تصدر كبار “الدوار والدوارة” من حركة “حتف” وانبرائهم لحمل همها لا يثبت في الحقيقة إلا أمرين. أولهما أن علية القوم هؤلاء ينادون بالحق طلبا للباطل، وأنهم مكرهين على ذلك وليسوا أبطالا، وثانيهما أن ظرفية هذه الفرقعة الإعلامية تتسق زمنيا مع الجرائم المتلاحقة التي تحاصر السيسي موحد الجيشين المصري والصهيوني بغية رفع الحرج عنه وفك خناق الحبل الذي يلف رقبته. وعليه فإن جريمة تسميم “أبي عمار” وإن كان فاعلها هو الكيان الصهيوني ومنفذتها هي أياد فلسطينية من “حتف” عجلت بالقائد إلى حتفه إلا أن الداعي لنبش الملف وإثارة القضية هوالكيان الصهيوني الذين أمنوا العقوبة فتمادى في سوء الأدب و العمل.

إن كل هذه الضجة الكبرى المثارة حول ظروف وملابسات مقتل عرفات ليست أكثر من حوار بيزنطي عقيم يراد له أن يكون عميقا عمق التهاوي السحيق سياسيا والسخيف أخلاقيا الذي اختاره حكام العرب، سواء كانوا على رأس دول أو دويلات. والملف في حد ذاته بات يتخذ شكلا كاريكاتوريا مقززا يذكرنا بجهود بعض المسؤولين في دول عربية أخرى من الفاسدين الذين أرادوا أن يعلنوا حرب طواحين “دونكيشوتية” على الفساد، وهم الذين رضعوا منه حتى شاخوا وأبوا الفطام، فشكلوا لجنة (يقال إن أردت إفشال أي مسعى أو برنامج فخصص له لجنة) سميت المرصد الوطني لمكافحة الرشوة و كان الرشوة عندهم متخفية تحتاج لراصد يكشفها، والرشوة والفساد هي أكبر مؤسسة في تلك الدولة وهي المؤسسة الأكثر تنظيما وذات أكبر رأس مال.

إن الكيان الصهيوني طور تفكيره وتخطيطه حسب ما يلائم ظروف جيرانه وهو يحقق ما يشبه المصادقة العربية النهائية على التنازل عن هضبة الجولان لتل أبيب ومصادقة أخرى على يهودية الدولة العبرية، والتنازل عن قدس الأقداس كعاصمة لأبناء “الهاغانا” الأنجاس، مع إسقاط حق العودة. وبمجرد أن تثبت التحقيقات أن قتلة عرفات هم رفاقه الذين خلفوه على رأس سلطة “رام الله” تقايضهم تل أبيب بالدفاع عنهم وعن مناصبهم وفك رقابهم من حبال المشانق في مقابل تلبية ما تشاء، بدءا بالتنازلات المذكورة ووصولا إلى أخرى سريالية قد تصل لدرجة أن يؤتى بمن سهر مع “تسيبي ليفني” للسهر مرة أخرى مع جنرال صهيوني، وقد لا يمانع صائب عريقات أن يحل محل “تسيبي ليفني” ويقوم بدورها مقابل مفاوضه الصهيوني.

ومن جهة أخرى تهدف إعادة بعث قضية قتل عرفات التي تشغل الفلسطينيين في الضفة وغزة عن قتل القضية في الوجدان العربي بانقلاب جيش السيسي عليها بعد انقلابه على الشرعية في مصر.

القذافيون الجدد

تونس تعاني آلام النفاس الديموقراطي المصحوبة بضعف مناعة الوعي السياسي، ولكنها على الرغم من ذلك ماضية نحو غد أفضل من يوم الضباب هذا وأمس الظلام ذاك. واليمن لا يزال تعيسا بالفوضى كما كان تعيسا بالديكتاتورية، أما مصر فإنها الآن تخوض معركة الحسم الأكبر، أم المعارك بين الشرعية والانقلاب، معركة بين “الشعب” المتصهين والشعب الأصيل. والحقيقة أن كلا من حراك تونس وفوضى اليمن ومعركة مصر تدور حول الدولة، ومن يختطفها من غريمه كما في تونس واليمن، أو من يصادر الدولة لصالح أعدائها ويقضي على أعداء الأعداء كما يفعل السيسي في مصر.

أما في ليبيا فالحديث ليس ذا شجون ولا حتى ذا سجون فحسب، الحديث هناك ذو “ميليشيات”، لكل منها دولة تنشدها على مقاس دولة القذافي. باختصار شديد يمكن القول إن روح القذافي المجنونة المتهورة حلت في أبدان “لوردات الحرب” الليبية. وبعد سقوط القذافي أراد كل منهم أن يكون قذافي هذا الزمان ويقود ليبيا على هواه كما قادها معمر وعمر بين خيمة وقصر إلى أن انتهت زعامته في جحر.

صحيح أن ما يفعله أمراء الحرب – في- وبليبيا جريمة بالمقاييس الوضعية وحرابة بالمقاييس الشرعية، إلا أن ذلك ليس أبدا مدعاة للترحم على القذافي وأيامه، ولا يمكن البتة أن تدفع لمجرد الحنين لأيام ديكتاتورية الجنون و المجنون القذافية أو الثناء عليها أوعليه، لأن ما يحدث راهنا في ليبيا هو الإفراز الوحيد والنتيجة الطبيعية لما بعد نظام عفن عمر 4 عقود من الزمن حتى استولى على بعض الأنفس الضعيفة إحباط استسلامي يمنع المحبَط من تصور ليبيا بلا قذافي. فلما شغر محل القذافي شعر القذافيون الجدد بالرغبة الشديدة لملء الشغور. وكأن ليبيا هذه محكوم عليها بألا تكون دولة تتسع لرجال الدولة، بل مجرد دولة رجل هو الرئيس و الرئاسة والحكومة والبرلمان والمجتمع المدني والجيش والقضاء والشرطة…. وله صلاحيات أخرى أعف عن ذكرها حتى لا أقول ما يغضب رب العالمين من تلك الصفات التي يسدلها لاعقي الأحذية وعبيد السلطان على معبودهم من غير الله في جل بلاد “قمع ستان” العربية.

إن جريمة القذافي الأشنع من الديكتاتورية والفساد والمجون والجنون هي تصحير الساحة السياسية وتسخير الدولة للرغبات الطائشة للآل والصحب وتكريس فكرة أن الزعيم أكبر من إنسان وأقل من إله، مع غفران التطاول على الله فيما لا يضير الزعيم.

القذافي استغل عاملي البحبوحة النفطية الليبية والقلة الديموغرافية فأراد باشتراكيته المقيتة أن يحول البشر إلى بقر، كُل واشرب ولا تتكلم، بل لا تفتح فاك إلا عند طبيب الأسنان. وهناك مسألة أخرى أهم وجب التطرق لها، لو قارننا بين ثروة آل مبارك أو ثروة آل بن علي الذين حكما منذ الثمانينات وبين ثروة آل القذافي الذي حكم قبلهما بعقدين لوجدنا ثروتي الأولين أضعاف أضعاف ثروة الأول فلماذا؟

السبب بسيط، القذافي آمن أن ليبيا ملكه الخاص يفعل بها ما يشاء قبل توريثها لـ”سيفه” أو “خميسه” والليبيين مجرد ملك يمين يفعل بهم ما يشاء وكيف شاء، ولذلك لم يكن في حاجة إلى سرقة أمواله وكان كقط يأكل ما أعطاه سيده في سكينة وتلذذ، أما فاسدي مصر وتونس فكانا يعلمان أنهما لصان يجب أن ينهبا ما غلا ثمنه وخف وزنه قبل أن يطلع النهار ويستفيق أصحاب الدار، والدار هنا هي الدولة وأصحابها هم الشعب.

إن الليبيين لم يستوعبوا بعد أن الدار دارهم وليست غنيمة حرب انتزعوها من القذافي فراحوا يقتسمونها بشريعة الغاب وقانون القوة، أما المصريون والتوانسة فأحسن حالا لأنهم يعلمون أن الدار دارهم لكن بينهم خونة يريدون تأجيرها لعدوهم ليقيم فيها حانة وماخور ويعربد فيها بحرية.

عبد الله الرافعي
11 نوفمبر 2013

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version