الحمد لله القائل في كتابه الكريم "و لا يجرمنّكم شنآن قوم على آلا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى."

أمّا بعد,

منذ مجيء بوش على رأس البيت الأسود الأمريكي قُــرّرت، تحت إمرته، سياسة الحرب الشاملة ضدّ كل من تخوّل له نفسه الخروج عن الهيمنة الأمريكية. في هذا القبيل نزلت النّازلات بأرض الأفغان فقُتِّل وشرد رجال و نساء, شيوخ وأطفال. هذا من غير أن تنقص جرائم سياسة بوش شيئا من جرم حركة طالبان التي كذلك أرت شعب الأفغان ألوان البؤس و العذاب. ذلك أن هذه الجماعة التي تأسست بموجب تمويل و تخطيط أجهزة المخابرات الأمريكية (الأمر الذي لا يعيه إلا جاهل) كانت ترى الإسلام من منظور ضيق. و من جهة أخرى انهالت وبائل النيران الأنكلوسكسونية على أراضي العراق الشقيق, فهُدّت البيوت و يُتّم الأطفال و قتّل و عُذّب الكهول و الشّيوخ و شُرّد الشعب العراقي. وواكب هذه المواقف العسيرة اشتداد المحن و النّكال على الشعب الفلسطيني.

كلّ هذا على مقربة من مسمع و مشهد الحكام العرب, هؤلاء الذين اجتمعوا مؤخرا في العاصمة التونسية تحت دقّ الطبول و وقع المزامير, ليعودوا إلى بيوتهم سعداء بما أقرّه لهم الدّكتاتور بوش : "دَمقرطة أنظمتهم". هذا, بعدما أقسموا جهد أيمانهم أنّهم على حقوق الإنسان محافظون و إلى الدّيموقراطية سائرون! و لا يعجب المرء البتّة حينما يشهد مشهدا كهذا ينهق فيه الحمير عرفانا ببوش, علّه يفضّل في حقّهم مكافأة الجزر على عقوبة العصا. أليس من خيبة الحظّ أن يُهدّد بتهديد "العصا لمن عصى" من عاش مهدّدا شعبه بمثل هذا التّهديد ؟ و هاهو القدّافي, الّذي يقسم لكلّ من يراه أنّه منتخب الشّعب، تستقبله عواصم العالم و تفتح له رحاب ضيافتها بعدما دفع المليار تلو المليار لشفاء غليل الأمريكان و شراء ودّهم. و هاهو يصرّح في أوروبا أنّه سيكرّس حكمه للعمل من أجل السلام في العالم. لا شكّ أنّ الشّعوب العربية, و الشّعب الليبي خاصة, فهمت نيّة القدّافي كما ينبغي فهمها : انضمامه إلى المعسكر العالمي, الحديث النشأة, الذي يقوده بوش في حربه المعلنة ضدّ ما يسميه "بالإرهاب العالمي". كما لا شكّ أنّ العالم بأسره فهم ما فهمناه من معنى الإرهاب العالمي : كلّ ما يخصّ مواقف الجهاد, الدّفاع عن النّفس أو الحيّ و كذا الثّورات ضدّ أوجه البطش و الطّغيان التي أقرّها الدّين بقدر ما أقرّتها الأعراف البشرية بمختلف ألسنتها و إيديولوجياتها. ثمّ لا شكّ أيضا أنّ الحيّز الجغرافي الذي تخصّه هذه الحرب هو, كما فهمه جلّ الخلق, العالم الإسلامي … و ثرواته… فبُشرى للمسلمين!

لا أضنّ أنّ إخواننا في ليبيا, الذين عانوا و سيعانون أنواع و ألوان العذاب و النكال, تشمئزّ فرائسهم اليوم بإعلان القذّافي هذا أكثر من اشمئزازها البارحة. و لا أخشى عليهم بطشا من هذا المهرّج الطاغية المجنون أكثر شدّة لاستعانته بحلفائه الجدد بوش و ذيله الآخر بلير, كونه لم ينتظر الحصول على مثل هذا العون أو موافقة أمثال هذه القوى العظمى ليتفنّن في اختراع أساليب البطش و القهر و التّقتيل و التعذيب بكلّ من تخوّل له نفسه التّنديد بحكمه الجائر. أفادني بعض الباحثين في مجال حقوق الإنسان, عندما كنت أنشط في إحدى المنظمات العالمية لحقوق الإنسان و في القسم المختصّ بالجرائم المرتكبة في ليبيا على وجه التّحديد, أنّ أخبارا جاء بها شهود ليبيون أكّدت بأنّ إحدى الوسائل المعتمدة من قبل النّظام اللّيبي للتّخلص من معارضيه تتمثّل في إدخالهم في عربات شحن البضائع و إلقائها وحمولتها في البحر. غداة الحادثة الفلكلوريّة للحاكم المجنون (أعلم أنّهم كلّهم مجانين و أقصد هنا القدّافي) عندما غادر مهرجان المهرّجين العرب قبيل انتهاء أعماله, حدّثني أحد الصّحفيين اللبنانيين عمّا أصاب أحد قادة الشيعة اللبنانيين حينما زار القدّافي سائلا عونه فجادله في بعض الأمور فحدث ما كان في الحسبان, إذ اختفى الرّجل بعد لقائه هذا! و يضيف صديقي اللبناني أنّ الرّواية تقول أنّ القدّافي قال لجنده :" خذوه فإنّي لا أريد أن أراه." فلمّا سأل رفاق الرجل في أمره القدّافي, نادى جنده سائلا إيّاهم عمّا فعلوا بالرّجل فأجابوا أنّه لقي حتفه. و غضب الزّعيم محتجّا أنّه لم يأمرهم بقتله فتضرعوا له طالبين عفوه متذرّعين بأنّه من عادته إذا أعرب عن رغبته في عدم رؤية شخص أن يندثر من الوجود هذا الشخص و ينعدم إلى الأبد. قلت لصديقي اللبناني :"حدث أن التقى أحد القادة الإسلاميين الجزائريّين بالقدّافي و حاوره لمدّة أربع ساعات و عندما غادر خيمته سأله رفيقه الذي توسّط له عند القدّافي لملاقاته : "ألا تضنّ أنّ اللقاء كان إيجابيّا؟" فأجابه الزّعيم الإسلامي: "إنّ صديقك هذا مجنون!", فانزعج الرّفيق محتّجا بالقول: "أليس الأحرى بك و أنت من رجال الدّين أن تقول ما يجول في خاطرك و تنصح هذا الحاكم المسلم حقّ النّصيحة!" فأجابه الزّعيم الإسلامي: " و أنت كذلك مجنون!" قال أهل الأصول أنّ حفظ الديّن أولى من حفظ النّفس, فلا شكّ أنّه من هذا المنطلق كان يتوجّب على زعيمنا الإسلامي الإدلاء بالنّصيحة و نكران عمل هذا الطّاغوت و أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر في حديثه له. لا بدّ أنّ هذه القراءة في أمور الدّين مختصرة وضيّقة و موقف الزّعيم الإسلامي أكثر شمولا, فقد أدرك أنّه بين يدي طاغية يعي كلّ الوعي خطاب الإسلاميين وحجّتهم و لكنّه لا يتّفق معهم فحسب بل يحاربهم بالوسائل الجهنّمية الّتي يعجز العقل عن تصوّرها, فإمّا أنّه اعتبر أنّه في هذا الصّدد كان الأحرى به اتّقاء شرّ هذا المجرم الذي وإن لم يكن شاهرا سلاحا في وجه ضيوفه فإنّه محيط بهم بجنوده و يُعلم من مناكره الأمر الشّهير… وإمّا أنّ زعيمنا هذا رأى في أفعال و معاملات مستضيفه أنّه أمام مجنون سقط في حقّه التّكليف, فلا داعي بتحديثه بما لا يريد الاستماع له لأنّه لا مسمع لمن لا عقل له, ناهيك على أنّ هذا المرء الذي حقّ فيه من كثيرٍ من الخلق الوصفُ بالجنون يقود جيشا أشاوس رجاله وأشدّهم بطشا أقاربهم إليه وأحوطهم به إذا أمر أذعنوا. أو إلى أبعد و أشمل من هذا ذهبت رؤيا الزعيم المذكور فقضت عينه أنّه أمام المشهدين المذكورين, أي أنّ مستضيفه مجرم و مجنون في نفس الوقت فاتّقى شرّه مرّتين. وفي هذا الشأن قد يدلّنا هذا الأمر أّن حفظ الدّين في بعض المواطن يكفيه حفظا حفظه في القلب, فيصير حفظ النّفس من حفظ الدّين.

إنّ هاتين الحادثتين إنّما تعلّمنا شيئا فهو أنّ الإحاطة بالواقع أمر فطري و لكون الدّين فطرة بالضّرورة بات فقه الواقع من الأمور الدّينية. فكما يجب معرفة أسباب النّزول قبل الاستدلال بالآيات القرآنية يجب أيضا إدراك الواقع الذي ينضر إ ليه في المسائل الشرعية إدراكا شاملا لا جزئيّا. وكما أنّ معرفة الأدوات الجراحية لا تكفي للتّجريح إذا لم يُعرف, من جهة, الجسد الذي تعنيه الجراحة, معرفة شاملة و دقيقة في آنٍ واحد, وإذا جُهل من جهة أخرى أوصاف الدّاء و مكانه ومسبّباته… فكما أنّ الإحاطة بكلّ هذه الأمور حتمي في مسائل الجراحة فإنّ النّضر في المسائل الشرعيّة لا يتطلّب, بعد الإحاطة التّامّة بالعلوم الشرعية, استيعاب كلّ جوانب المسألة فحسب بل يجب كذلك إدراك الواقع الذي يخصّ المسالة و التمكن من كلّ زواياه. فإن كانت مكانة العالم المحدّث عند أهل السنّة مكانة مرموقة لاعتباره المرابط الحافظ لمصدر من مصادر الوحي فإنّ مكانة العالم الفقيه مكانة أرمق من ناحية الشّمول فكما يعتمد قائد الجيش على كل قوّاده و كلّ رجاله, مشاة و فرسانا و رماة, مْيسرة و ميْمنة, مقدّمة و مؤخّرة , يعتمد كذلك الفقيه على علماء القرآن وعلماء الحديث للإحاطة بأسباب النّزول و النّاسخ والمنسوخ و قول و عمل السّلف الصّالح, و يسير إلى الحلّ بحسب المذهب المعتمد فينضر في تدقيق علماء الأصول في هذا الشأن, كما يرى, في ما تيسّر له من المراجع, إذا طرحت المسألة على غيره وما أراء العلماء و إذا وجد الإجماع في الأمر… ويجوز له مخالفة غيره إذا رأى رأيا غير رأيهم وأيقن بحجّة غير حجّتهم, و هذا على نحو مقولة الإمام الشّافعي الشّهيرة : " قولي صواب يحتمل الخطأ, وقول غيري خطأ يحتمل الصواب." و لا بدّ أنّ في قول الشّافعي هذا مفاتيح باب الاجتهاد الذي أراده سُوّاق الجهل مغلقا. و في كلّ الأحوال كانت إحاطةّ الواقع أو الأرضيّة التي تخصّ الأمر عنصرا ضروريا وجوبا, إذا انعدم أو نقص اختّل ميزان النّضر في الأمر اختلالا شديدا يجعل من أمر الفتوى أو الاجتهاد في القضيّة مجرّد مسألة هوى. كأن يأتي المرء بفتوى تجيز قتل اليهود بحجة أنّ هناك آيات أو أحاديث تحثّ على ذلك من غير نضر منه في الموقع الذي جاء فيه الوحي وأسباب النّزول متاجهلا بهذا أن القاعدة السّلام وما جعل القتال إلاّ لحلول هذه القاعدة, ضاربا بجهله أبوابا كاملة من أبواب الشريعة الإسلامية هي حقوق أهل الذمّة. من بين هؤلاء اليهود!

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version