الفلسطينيون مسؤولون عن وضعهم الحالي لأنهم رفضوا كل العروض التي قُدمت لهم لإقامة دولتهم! تلك هي السردية التي قام على أساسها الكيان المُغتصِب ووّسع رقعته منذ تأسيسه بموجب قرار تقسيم 1947، وعبر مختلف مراحل الضم والاستيطان والتهجير، إلى غاية يومنا هذا، حيث أصبح يجاهر علانية بلا أدنى خجل او خشية، بمساعيه لتأسيس إسرائيل الكبرى، من النهر (الاردن) إلى البحر (الأبيض المتوسط)، حيث لا مكان لفلسطين ولو فيما تبقى منها، في حدود 20 في المائة. الكيان المغتصب لم يعد يقبل حتى بعمالة فيشي في رام الله، بقيادة المنسق الأمني مع الكيان، بل زاد نهمه وغطرسته، معبرا عن عزمه “إعمار غزة” …بمستوطنات لليهود وإخلائها من أي فلسطيني، إما تهجيرا أو قتلا.
هذه البروباغندا التي نشأ على أساسها الكيان، تزعم أن الفلسطينيين (والعرب)، رفضوا كل العروض السخية التي منحتها إياهم “إسرائيل” ولم يفوّتوا فرصة إلا وأضاعوها، وأن إسرائيل “منحت” الفلسطينيين (وليس قرار الأمم المتحدة الذي قسم فلسطين آنذاك تنفيذا لأوامر وإملاءات القوى الاستعمارية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا)، أقل من النصف للفلسطينيين الذين يشكلون غالبية سكان الأرض (أكثر من 80 في المائة)، في حين منحوا اليهود القادمين من أوروبا والفارين من الإبادة الجماعية على يد النازية الألمانية الغربية المسيحية، أكثر من نصف الأراضي الفلسطينية. ورغم هذه القسمة الظالمة التي تقتطع من أصحاب الأرض أكثر من نصف مساحتها، لم تتوقف عمليات قضم الأرضي، حتى أصبحت فلسطين التاريخية لا تساوي أكثر من 20 في المائة من مساحتها الأصلية، فضلا عن غرس آلاف المستوطنات في هذه البقة الصغيرة المتبقية، التي كان يفترض أن تؤسس فيها “فلسطين أوسلو”، مع ذلك كله لا زال الصهاينة يزعمون أن الفلسطينيين مسؤولون عن وضعهم ّلأنهم رفضوا ما مُنح إليهم، ومن ثم ليس من حقهم اليوم المطالبة بأي شيء، وهم مخيرين بين المغادرة تهجير على تحت الركام، لأن أرض فلسطين هي لليهود من النهر (الأردن) إلى البحر (المتوسط).
دعونا نستقرئ التاريخ ونستحضر وقائعه الموّثقة، التي تميط اللثام عن عملية يمنح مَن لا يملك أرض غيره، إلى من لا يستحقها، تنفيذا لوعد بالفور إلى آل روتشيلد.
نشأ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في عام 1947 نتيجة قرار الأمم المتحدة رقم 181، الذي أصدر خطة لتقسيم الأراضي الفلسطينية من أجل إنشاء دولة إسرائيلية.
وكان أمرا طبيعيا أن يرفض المجتمع العربي بأكمله في فلسطين هذا الأمر، في حين يقبله معظم قادة الصهيونية اليهودية بحماسة ودون تردد. وكان الرفض الفلسطيني طبيعيا ومنطقيا، فهل يوجد عاقل على الأرض يوافق على تقطيع أراضيه وتلاشيها لصالح جهة أخرى، خاصة إذا علمنا أن العرب والفلسطينيين لا ناقة لهم ولا جمل فيما تعرض له الشعب اليهودي من معاناة ومحرقة خلال الحرب العالمية الثانية.
قد نتفهم شعور أوروبا بالمسؤولية وتحمل جزء من الذنب عن هذه الإبادة الجماعية من خلال عملية الوشاية والتعاون مع النظام النازي، لكن ما لا يعقل ولا يستقيم، هو تحويل هذه المسؤولية إلى الفلسطينيين البراءات تماما مه هذه الجريمة، في عملية تزوير فج للتاريخ وتصرف إجرامي فاق كل تصوّر.
في 29 نوفمبر 1947، تم تبني حل الدولتين من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بتصويت 33 دولة لصالحه. ومن بين هذه الدول، هناك الكثير ممن لم يكونو
ا معنيين البتة بالمسألة، وبخطة التقاسم هذه، فضلا عن موقفهم للسكان العرب والصورة النمطية التي يشكلونها عنهم، ومن المهم أيضا التذكير أن تلك الحقبة، كان لا يزال عصر المستعمرات مهيمنا فيها ومنتشرا، حيث تمتلك القوى الإمبراطورية مثل بريطانيا العظمى أو فرنسا العديد من المستعمرات وتطبق على سكانها قوانين استثنائية عنصرية وغير إنسانية. ولهذا السبب من اليسير فهم اليوم بشكل أفضل الحالة الذهنية في ذلك الوقت والأسباب التي جعلت بعض البلدان، حتى اليوم، تواصل دعم دولة استعمارية ترتكب مذابح ضد شعب بأكمله دون عقاب.
وليس من المستغرب أن نفهم أيضا السبب الذي يجعل الولايات المتحدة ضمن طلائع الداعمين الرئيسيين لإسرائيل. وكوْن الولايات المتحدة معتادة على زرع الفوضى والانقلابات في أركان العالم الأربعة للدفاع عن مصالحهم بأنانية، كان من الطبيعي أن نجدها منذ ذلك الحين تضطلع بدور الجناح المسلح لهذه المجزرة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت إسرائيل الدولة في العالم التي تلقت أكبر قدر من المساعدات، بمختلف أنواعها، من الولايات المتحدة. وبين عامي 1946 و2023، خصصت الولايات المتحدة أكثر من 260 مليار دولار أمريكي للكيان الصهيوني، بحسب تقرير للكونجرس الأمريكي نشر في مارس الماضي. وأكثر من نصف هذا المبلغ كان مخصصا للمساعدات العسكرية. لكن الدعم الأميركي لم يقتصر دائما على الأعمال المالية.
ومع تكثيف إسرائيل زرع مستوطنات جديدة على الأراضي الفلسطينية المسروقة، بدأ حل الدولتين يتلاشى تدريجياً حتى اقتنع الجميع استحالة تطبيقه، وأن كل الحديث عن دولة فلسطينية، مجرد وعود كاذبة، تسمح لإسرائيل بزيادة قضم الأراضي وبناء المستوطنات، بعيدا عن أي مساءلة أو محاسبة.
ولمن لا يزال يؤمن ويروج لاستئناف العملية وتوفير الظروف المثالية لحل الدولتين، مثل إدارة بايدن ومن سبقها، لنا عرض نقترحه عليها، بما أن الولايات المتحدة ملتزمة جدًا بمستقبل وأمن إسرائيل، فما عليها إلا أن تقرر تقسيم الأراضي الأمريكية (ذات الخمسين ولاية) إلى دولتين، واحدة لها وأخرى لمحميتها، هل ستوافق، أم ستُضيِع الفرصة مثلما “ضيعها” الفلسطينيون؟ والاقتراح ينطبق أيضا على ألمانيا التي تتحمل مسؤولية المحرقة، باعتبار أن النازية الألمانية هي من ارتكبت هذه المحرقة؟ ونقترحه حتى على الدول الغربية، التي ساهمت في معاداة السامية وغضت الطرف عن ارتكاب المحرقة بتعاون البعض منها مع النازية، ورضف البعض الآخر استقبال اليهود على أراضيه؟
فلماذا إذن لم تباذر أي من هذه الدول لتتقاسم أراضيها مع الضحية، التي يعتبرونها، فريدة في التاريخ، ويحصنونها من أي متابعة قضائية على ما تقترفه من جرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟
وهل نسوا أم تناسوا أن ما عانته هذه الضحية التي انقلبت من ضحية على دولة إجرامية، كان بالأساس من صنع أيدي العالم الغربي، وألمانيا في المقام الأول، وليس بفعل الفلسطينيين، لا من قريب ولا من بعيد؟

أرسل رداً

Exit mobile version