أصبح من الخطورة (بل جريمة يعاقَب عليها) أن يُعَبر المرء عن رأي مخالف أو موقف يسير في الاتجاه المعاكس للسلطة القائمة، موقف يُعَرِض صاحبه لحرب هوجاء من كل الاتجاهات، وحتى التي لا يتخيلها. طبعا هذه الجهات لا تواجه صاحب هذا المواقف أو الرأي، ولا تتعامل معه باعتباره صاحب رأي وموقف مخالف أو معارض، وتتصرف معه من خلال دحض رأيه ومناقشة موقفه وتبيان مكمن الخلل في توّجهه، فهذه سبل وأخلاقيات لا تعمل بها الأنظمة الشمولية المستبدة، بل تفضل عليها الطرق التي ألفتها وتحسن إدارتها، من خلال تسخير وسائل الدولة، وماكيناتها المختلفة لاغتيال المعارض لها والمقاوم لاستبدادها وإفلاسها، ومحاربة كل من يعترض طريقها في تكريس هيمنتها وجبروتها. وعلى رأس هذه الوسائل، الاغتيال الإعلامي المعنوي، بالسلاح العهود لديها: تهمة الإرهاب والعمالة أو العدمية. وقد شهدنا مؤخرا آخر إبداعات مراكز هذه القوى، سلاح أسموه “اغتيال الوعي” لدى المواطن. فما المقصود بـ”اغتيال الوعي” بالنسبة لهذه المخابر؟ معناه باختصار، كلُ من تخوّل له نفسه كشف ما يراد التستر عليه، أو تقديم قراءة مختلفة أو معاكسة، معززة بالأدلة لِما يروّجه النظام القائم، أو يقترح حلولا أخرى لا تروق أصحاب القرار، تعتبره هذه المخابر من الذين “يغتالون الوعي”، ويشاركون في زرع الفتنة، بل ويساعدون الأعداء على محاربة بلدهم، إلى جانب رزمة من التهم التي عفا عليها الزمن وأضحت تجترها الأنظمة الفاسدة لمحاربة كل من يطالب ويعمل على التغيير الفعلي الذي يعيد للبلد سيادته ومكانته.
– في قاموس هذه المراكز والمتحدثين باسمها أو نيابة عنها أو المتزلفين لها، أو حتى الذين يسعون إلى اللحاق بالركب، يكون “الوعي الصالح”، الواجب نشره، معناه الرضوخ التام لأوامر منظومة العسكر وإملاءاتها باسم المصلحة الوطنية وبحجة ضرورة التصدي للمخاطر الخارجية وما يتهدد البلد من تحرش على حدوده؛
– ومعنى الوعي عندهم أن تسكت عن ظلمهم واستضعافهم للشعب، وهو أن تعتبر الجهل بما يدور حولك قوة، وتقبل أن حربهم ضد المجتمع والاصلاح هي قمة السلم والسلام؛
– “الوعي”، في قاموس الجنرالات ووكلائهم من مختلف الرتب والفئات، هو أن تكتم جرائمهم ونهبهم لمقدرات البلاد وفسادهم وعدم كفاءتهم وفشلهم وجهلهم، هو أن تكتم كل ذلك باسم “الامن القومي”؛
– “الوعي” في عالمهم الفاسد هو “أن تزدري من هو في الأسفل، وتركع بل وتلعق حذاء من هو الفوق”، سبيلا للارتقاء في السلم الاجتماعي ونيل الرتب ودخول نادي مجتمع السلب والنهب؛
– “الوعي” في قاموس دهاليز المخابرات الإرهابية هو أن تخاف من الحرية (وتتهم المناضلين من أجلها، بالدهماء والعدميين)، هو أن تتجاهل قراءتك لواقعك، بل وتتنكر له وتتعامى عنه، هو أن ترتد عن قيمك ومواقفك، هو أن تجمّد عقلك، هو أن تخدر مشاعرك، هو أن تقبل طوعا أن تكون بطنا مرتعدا يزحف أمام أرجلهم؛
– من الوعي لدى هؤلاء، تَعمُد الخلط بين الفاسدين المجرمين المحتلين لأعلى مناصب المسؤولية في الدولة، وبين الدولة الجزائرية ومؤسساتها الدستورية، فيجعلون من كل انتقاد لفسادهم وكشف جرائمهم، جريمة تعرض للخطر استقرار وسلامة الدولة، يجب معاقبة صاحبها، مثل المادة 87 مكرر ومثيلاتها؛
– يحاولون في إطار “وعيهم الوطني” تجريم شعار “مخابرات إرهابية تسقط المافيا العسكرية”، والزعم بأنه شعارٌ يمس بوحدة الجيش وجهاز المخابرات، وذلك للتستر على الحقيقة التي يكشفها هذا الشعار، وهي وقوع مؤسسة الجيش وجهاز المخابرات رهينتي حفنة من الفاسدين، بما يؤكده وجود عشرات الجنرالات والضباط السامون من الجيش والمخابرات رهن الاعتقال بتهم “غليظة” من قبل نفس النظام الذي يفزعه هذا الشعار الذي رفعه الحراك بعد استفحال أذى ودمار هذه المجموعة من الفاسدين التي استولت على العمود الفقري للدولة واحتكرت أجهزتها ومقدراتها خدمةً لمصالحها. هذه الحقيقة التي رفعها الشعار دفع العصابة إلى تجييش فيالق من الأقلام و”الخبراء” للطعن في الشعار وتجريم أصحابه، محاولة يائسة وعبثية منهم، لطمس حقيقته التي أصابت كبد “العلبة السوداء”، كما وصفها مقال وكالة الأنباء الجزائرية (“سهوا” أبلغ من ألف كتاب) في تبريرها لتقديم موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
الواقع على الأرض أثبت للجميع أن كل التهم الموّجهة إلى الحراك ونشطائه أو المنخرطين في المقاومة السلمية، تنطبق بحذافيرها على كبار المسؤولين في السلطة، المدنيين والعسكريين، من وزراء ورؤساء حكومات ورجال أعمال وضباط سامون في الأمن والجيش والمخابرات، عدد كبير منهم يوجد رهن الاعتقال بموجب هذه التهم منذ حراك فبراير 2019، من قبيل تهمة الخيانة والإرهاب ونهب المال (عقارات بالعشرات، وحاويات بملايير الدينارات وعشرات الآلاف من الدولارات، وتهديد أمن ووحدة التراب الوطني (قبل التفطن إلى خطورة مفعولها، وتكييفها بشكل مغاير).
الاغتيال (بكل أشكاله، وليس للوعي فحسب) مهنتهم، الخداع والتمويه أسلوبهم، إنهم يغتالون الوعي الحقيقي باسم الوعي الزائف، والجدير بالملاحظة أن هذا الخداع المستخدم من قبل النُظم المستبدة محليا لقهر شعوبها وتخديرها، يُستعمل أيضا وبنفس الطريقة من المكر من قبل القوى الاستعمارية في فرض هيمنتها على الشعوب المحتلة، من خلال ليّ عنق الحقائق والوقائع والمصطلحات، وبذلك يصير في قاموس هذه القوى العنصرية:
– مغتصِب الأرض، ضحية من حقه الدفاع عن نفسه، أما المقاوم لاحتلال أرضه إرهابيٌ معتديٌ يجب ردعه بل ومحقه؛
– والمتعاون مع المستعمر، واقعي حريض على دماء شعبه، والمقاوم له، متهور انتحاري لا يبحث سوى تحقيق مصالحه؛
– والشعوب المنتفضة ضد من يحتلها شعوب متخلفة تسكنها الكراهية وتمقت السلم والإخاء، أما المتخاذلين والمتعاونين مع المحتل، فإنهم متحضرون وواقعيون وأهلا للمسؤولة.
“الوعي” الذي يبتغيه هؤلاء وأولئك، هو أن يرضى المرء بالعيش في الحيّز الذي تعرضه له هذه القوى، المحلية المستبدة أو الدولية المستكبرة، وأن يعض عليها بالنواجد دون أن يبرحها ولا حتى التفكير في ذلك، وليس من الصدفة أن نجد هؤلاء (الوكلاء المحليين) وأولئك (الأوصياء الخارجيين) يشتركون في طريقة تعاملهم مع الشعوب وطموحاتها في الحرية والسيادة، ولنا في محيطنا من الأمثلة ما لا يمكن للوعي المغشوش أن يحجبها. وتبقى رسالة نشر الوعي بالحجة، رسالة على عاتق كل حر كريم، لم تثنيه عن أدائها كل البرباغندا التي لم تستطع العصابة تطويرها أو على الأقل تحديثها.

أرسل رداً

Exit mobile version