إبراهيم ابراش
إن كان هدف روسيا الاتحادية من حربها مع أوكرانيا والغرب إعادة ترسيم حدودها مع أوكرانيا ومنع هذا الأخيرة من أن تكون قاعدة لحلف الأطلسي فهذا هدف مشروع ويمكن تحقيقه حتى وإن كان بثمن باهظ، أما إن كان هدفها تغيير النظام العالمي بقوتها العسكرية فهذا أمر مستحيل وعير واقعي ولا عقلاني لأن النظام العالمي ليس مجرد موازين قوى عسكرية.
روسيا تقول إنها دخلت الحرب دفاعاً عن الروس القاطنين في أوكرانيا ولإعادة ترسيم الحدود وضد النزعة النازية الأوكرانية وأن أوكرانيا تحوّلت إلى قاعدة للغرب والحلف الأطلسي الذي يسعى لتدمير روسيا واستنزافها، وهو قول لا يخلو من وجاهة، أما أوكرانيا فتتحدث عن غزو أراضيها و مواجهة النزعة التوسعية لروسيا، أما الغرب فيساند أوكرانيا كما يقول في مواجهة عدوان روسي يتعارض مع سيادة الدول والقانون الدولي والشرعية الدولية، وهو أيضا قول فيه بعض الوجاهة.
ولكن، و بالنسبة لطرفي المعادلة فإنهم لا يفصحون عن كامل دوافعهم وأهدافهم من الحرب. فروسيا ليست الاتحاد السوفيتي بل دولة رأسمالية لها مصالحها وتسعى لتوسيع مناطق نفوذها وتجد أن النظام العالمي الذي تهيمن عليه أمريكا والغرب يتعارض مع مصالحها وأهدافها القومية ولا يسمح لها بالتمدد عالميا، أما أهداف الغرب من الدعم المهول لأوكرانيا فهو أبعد ما يكون عن مجرد نصرة دولة تدافع عن سيادتها، ولو كان الأمر يتعلق بانتهاك سيادة الدول فواشنطن أكثر الدول انتهاكا لسيادة الدول، فمن تدخلها وحروبها في دول أمريكا الجنوبية إلى احتلالها لأفغانستان والعراق، كما أن إسرائيل انتهكت سيادة ثلاثة دول عربية في حرب 1967 وما زالت تحتل فلسطين وأراضي سورية وهناك قرارات دولية تطالبها بالانسحاب من هذه الأراضي -قراري مجلس الأمن 242 و 383 – هذا بالإضافة للغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
تدخل الغرب يرجع لرغبة الغرب وخصوصاً واشنطن إضعاف روسيا والصين كقوتين صاعدين تهددان النظام العالمي، بأبعاده الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والثقافية وهو النظام الذي هندسته أمريكا والغرب طوال عقود وجاءت العولمة لتعزيز هذه الهيمنة، فالغرب وعلى رأسه واشنطن يرى أنه ليس من حق دولة من خارج المنظومة الغربية التقليدية أن تشارك في هندسة النظام العالمي والحضارة الحالية التي تُنسب للغرب حيث غالبية الاختراعات والاكتشافات العلمية ترجع له، أن تأتي هذه الدولة و تحاول تغيير النظام العالمي وزعزعة مرتكزاته وهزيمة الغرب أو مشاركته الهيمنة على العالم.
توجد بعض الوجاهة في هذا الأمر، فما تسمى بحضارة القرن العشرين بكل مكوناتها ومرتكزاتها العلمية والصناعية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية هي من صناعة الغرب ومراكمة لانجازاته التي بدأت منذ عصر الانوار في القرن الثامن عشر، ومساهمة بقية المجتمعات والدول الأخرى محدودة وخصوصا مساهمة شعوب روسيا والاتحاد السوفيتي سابقا والصين، وهذا ما يفسر جزئيا ما يبدو وكأن روسيا في مواجهة كل دول الغرب.
بالإضافة الى العسكر الغربي فإن كثيرا من دول العالم تشعر بأن وجودها واستقرارها مرتبط باستقرار النظام العالمي الراهن حتى وإن كان يفتقر للعدالة وتهيمن عليه واشنطن، فهذه الشعوب والدول غير معنية بالدخول في حرب عالمية غير مضمونة النتائج، كما أنها غير متأكدة أنه في حالة إزاحة أمريكا كقطب مهيمن على العالم سيكون حالها وحال العالم أفضل لو انتصرت روسيا وأصبحت القطب المهيمن عالميا.
وهناك سبب آخر يقف وراء الموقف المتشدد لواشنطن تجاه روسيا، فمن المعروف أن الولايات المتحدة دولة مهاجرين وهي تضم خليطا من كل الجنسيات وما يجمع هؤلاء ليس الانتماء القومي بل المصلحة المادية حيث توفر الدولة لساكنيها حياة رغيدة لا تتوفر لهم في دولهم الأصلية وبالتالي فإن تراجع الاقتصاد الأمريكي سيؤدي لتفكك المجتمع حيث يزول السبب للانتماء إليه وهو الاقتصاد والحياة المرفهة، وعلى هذا الأساس فواشنطن مستعدة لخوض حروب عالمية وليس حرباً واحدة ولا مانع عندها بتدمير أوكرانيا واضعاف أوروبا وكل حلفائها حتى تحافظ على مكانتها الدولية واستقرارها الاقتصادي.
إذا كانت إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية شرطا لازدهارها واستقرارها الاقتصادي بسبب خصوصية نشأتها وتركيبتها الاجتماعية ودورها في هيكلة النظام العالمي، فالأمر مختلف بالنسبة لروسيا التي تشعر أن دورها في التأثير في النظام العالمي محدود وخصوصا بعد انهيار النظام الاتحاد السوفيتي، بالرغم من دورها في الحرب العالمية الثانية ومشاركتها الفاعلة في مؤتمر يالطا 1945 الذي أسس لترتيبات الأمن الجماعي العالمي لمرحلة ما بعد الحرب. وبالنسبة لعلاقة السياسية الخارجية بالتركيبة السكانية فروسيا تغلق أبوابها تاريخيا أمام الهجرة ومواطنوها منتمين لوطنهم قومياً مهما تدهور الوضع الاقتصادي، ولكن قوة الانتماء القومي قد لا يستمر طويلا إن زادت الحالة الاقتصادية تدهورا،
ما تسمى حرب أوكرانيا تخفى الكثير وهي حرب مرتبطة بالاقتصاد والنزوع نحو الهيمنة بدرجة أولى، ولأنها كذلك فقد تصل لكسر العظم وقد تنزلق لحرب نووية تكتيكية محدودة، وإن كنا ككثيرين من شعوب الأرض نتفهم التخوفات والمطالب الروسية ونأمل إضعاف الهيمنة الأمريكية على العالم والحد من غرورها وعربدتها، إلا أنه لا يبدو أن النظام العالمي سيتغير بالقوة العسكرية الروسية فقط، ومراهنة بوتين على تغييره عسكريا مراهنة محفوفة بالمخاطر وأقصى ما سيحققه بوتين هو الحفاظ على الأراضي الأوكرانية التي ضمها لروسيا (مناطق لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون).
عاملان يمكنهما اضعاف قدرة الولايات المتحدة الامريكية في الهيمنة على النظام العالمي في جانبه الجيواستراتيجي وهما :
1- دخول الصين عسكريا واقتصاديا إلى جانب روسيا في مواجهة الغرب.
2- تفكك وحدة الموقف الاوروبي وتحالف أوروبا مع الولايات المتحدة
Ibrahemibrach1@gmail.com

4 تعليقات

  1. بشير بتاريخ

    فعلا ، الرهان على حسم الصراع عسكريا مغالطة تخدم بالدرجة الأولى الولايات المتحدة التي تحتاج إلى مزيد من بؤر التوتر و الحروب على مستوى قارتي إفريقيا و آسيا خصوصا رغبة في تفعيل التبعية للهيمنة الاقتصادية الأمريكية ، و على هذا الأساس وجدت روسيا (بوتين ) نفسها ، بعد غزو اوكرانيا، في مازق لم تحسب عواقبه و نتائجه الوخيمة ، المواجهة العسكرية لا تؤدي إلا لاضعاف روسيا و فقدان توازنها على أكثر من جبهة .
    و المفيد أين تكمن مصلحة محور : طنجة – جاكرتا؟ من مصلحة هذا المحور تركيز الجهود على موضوع الحد من سطوة الانظمة الاستبدادية و حرمانها من اخطر سلاح ، ألا و هو الصراعات الداخلية المفتعلة ، السلمية تقلق هذه الانظمة كثيرا ، و هي السبب الرئيسي الذي يسهل مهمة انتزاع الشعوب حقها المشروع في اختيار حكامها .
    الرهان على روسيا أو أمريكا لن يخدم سوى الاستبداد داخل حدود بلداننا المتخلفة ، و غياب البديل الحضاري في ظل الصراع بين روسيا و الغرب يحتاج إلى كثير من التأمل و التدير لاستخلاص العبر و تبين الطريق .

  2. بشير بتاريخ

    امريكا باتت اليوم تدرك أكثر من أي وقت مضى أن مجابهة قوى مثل الصين و روسيا لن يتم عسكريا ، و ليست تجربة توريط روسيا في اوكرانيا إلا واحدة من تجارب اختبار آثار و نتائج العقوبات الاقتصادية التي يمكن توسيع مفعولها مع مرور الأيام بهدف تأليب الرأي العام الدولي من جهة ، و زعزعة الجبهة الداخلية الروسية من جهة ثانية . و ستكشف الأشهر القادمة مزيدا من عورات روسيا موازاة مع اختبار الموقف الصيني الذي يفضل مراقبة الاوضاع بكثير من الهدوء ! أما انظمة مثل السعودية و الإمارات فستقدم على مناورات غير محسوبة و غير محمودة العواقب ، و الأيام دول .
    و لعل أكبر درس يستخلص هو أهمية تحقيق الأمن من الجوع الذي يقود بالضرورة إلى تحقيق الأمن من الخوف .

  3. بشير بتاريخ

    و من منطلق الأمن من الخوف وفق منظور سنني شامل و متوازن كالذي تحدث بخصوصه المفكر الجزائري الأستاذ الطيب برغوث ، كيف يمكن تقييم مسار السياسة التركية تجاه الأنظمة الاستبدادية الجاثمة على صدر الشعوب العربية تحديدا ضمن عمقها الحضاري الذي ميز الحضور العثماني قبل قرن و نصف على أقل تقدير ! كيف تتعامل تركيا اليوم مع منهج السلمية الذي يتشبث به المستضعفون هذه الأيام ، و هل يمكن أن تراهن على ود الأنظمة القائمة المترامية في أحضان الغرب الذي يراهن على استدامة فسادها و وهنها؟ إن عالم الأفكار في عملية البناء أغنى من كل احتياطات البترول و الغاز ، و لن تنفع الدبابة و المسيرات حاكما استهان بما يسكن قلوب الأحرار من أحزان و حسرة و آلام .

  4. بشير بتاريخ

    العمق الحضاري لتركيا ليس بالضرورة تلك المصالح الآنية المرتبطة بارضاء أنظمة الاستبداد العربية ، نعم يمكن التواصل مع أي نظام قائم تماشيا مع الواقع الدولي و العالمي حيث تتسابق القوى الكبرى لملء الفراغ مثلما يحدث في مالي و بوركينا فاسو و غيرهما ، لكن ليس على حساب حراك الأحرار من أجل إسترجاع الشرعية و كرامة الإنسان. يقال مثل هذا الكلام لأن تركيا باتت وحدها من دون منازع الجهة التي يمكن أن تساهم في تغيير موازين القوى مستقبلا .

Exit mobile version