للعلامة محمود بوزوزو رئيس تحرير جريدة ” المنار” العريقة

محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا

نادرا ما أقرأ للروائيين، وإن قرأت شيئا فغالبا ما يكون وظيفيا، إذ ها هو يستوقفني هذا الأسبوع أحدهم بكلمات معبرة صافية لا غبش فيها، بل أفكار قد تغير من مواقفي نحو هذا الصنف من كتابنا الأفاضل، إنه أستاذنا الكاتب الروائي الجزائري الحبيب السائح – متعه الله بالصحة – ، الذي استوقفتني أفكاره بكلمات هي ذاتها التي كانت ولازالت تدور في خلدي منذ سنوات لكنني دائما أعجز عن الصفح عن مكنونها، أولا لأن التعابير قد تخونني أحيانا، وأخرى لتقصير في نفسي لأنني لم أطلع على كل ما ينشره هذا الكاتب أو ذاك، وهذا مخافة التعليق على عجل والصورة غير مكتملة الوضوح لدي عن المعني أو عن كتاباته، فالتمس لنفسي أيامها عذرا قائلا، لعلى وعسى وما يدريك أنه كيت وكيت !! أو كما جاء في الأثر، المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم:” التمس لأخيك سبعين عذرا فإن لم تجد له عذرًا فقل له عذرًا”!!

الكتابة التزام أخلاقي وإنساني، لتعرية القبح وكشف التضليل وإجلاء الحقيقة:

ومما يقوله الكاتب الجزائري الحبيب السائح في منشوره الأخير، هذه الأيام:” إننا لا نكتب، في نهاية الأمر، إلا عن أنفسنا! نقول قناعاتنا الفلسفية. نقترح رؤانا الجمالية، إننا نكتب، أيضا، شيئا من غضبنا وكثيرا من إخفاقاتنا وخوفنا وحزننا، فنحن، في فعل الكتابة، حصيلة هذا الشتات والتبعثر، الذين نحاول لملمتهما في نص، هو الرواية: ملحمة النثر المستمر وشِعر البشرية المعاصر. في انتقالنا من “لغاتنا الأخرى”، المتداولة، إلى لغة الكتابة، يحدث فعلٌ عجيب هو الذي يشكل هذا العالم من المشاهد التي تبني كلمة كلمة، جملة جملةً لإنشاء الوهم الذي يطفو على سطح الزمان حياةٌ أخرى باقية ما بقي الانسان وبقيت الحروف.. إنها الكتابة التي تعوّض الإنسان عن ماضيه الضائع! فماذا كتبت النصوص الإنسانية الكبرى غير الفقد والضياع؟ ذلك، لأن الرواية، فعل لغوي يؤسس للزائل ويمجد آثار الموت. من ثمة – يقول الكاتب- : ” أجد علاقتي بلغة الرواية، تحديدا أشبه بهذه الحال التي يخترق فيها الكاهن أو الصوفي الحدود الاصطلاحية للغة لتكون قابلة للتأويل. فحين أدخل مع اللغة، في مثل تلك العلاقة، أجدني مأسورا بسطوتها فأروح أنحت لها مقتضياتها الجميلة، في بحث دائم ومؤلم عما يعطي النص لباسَه الأنيق وحركته السحرية. فالكتابة الأدبية التزام أخلاقي وإنساني، لتعرية القبح وكشف التضليل وإجلاء حقيقة كون الانسان جاء إلى هذا الكون ليعمره من منتجات عقله ويزيّنه من عطاءات روحه. بمثل هذا يكتسب النص الأدبي إبداعيته، لأنه نابع من حلم الإنسان بأن يعيش حرا. نعم! أريد قارئا متواطئا، بشرط أن يقول لي، بين حين وآخر: هنا لا أعرفك!” على حد تعبير الأديب الفيلسوف المبدع الحبيب السائح، في جولاته الفكرية الروحية تلك !!

:” إذا عرف السبب بطل العجب”
هذه الاعترافات المحبوكة بلغة قوية، جرتني الى العودة بذاكرتي الى وقفات سابقة منذ مدة حول الكتابة والكتاب عموما، وتحديدا حول ظاهرة مرضية في صحافتنا العربية الجزائرية تحديدا، إذ لاحظت كما قد يكون قد لاحظ غيري في السنوات الاخيرة، صفحات الثقافة والرأي والمساهمات في الجرائد والمجلات الوطنية خصوصا، تملأ حشوا بتمامها وكمالها يوميا أو أسبوعيا بأقلام أجنبية غير جزائرية، لا تمت بصلة لواقعنا وتاريخنا وتراثنا في معظمها، بل وحتى لمذهبنا وديننا، فتشوّش القناعات لدى القارئ الجزائري الحالم بغد أفضل، كأن الجزائر تكسرت أقلام كتابها أوجف حبر عقولها، فما السبب وما الدوافع ؟؟

قديما قيل ” إذا عرف السبب بطل العجب”، أستسمح القارئ الكريم، للعودة للتاريخ وتراث الجزائر للكشف عن هذه الظاهرة الدخيلة وأعود تحديدا مع معلمنا وصاحب الفضل على جيلنا الشيخ العلامة محمود بوزوزو الذي يُعَد من أعمدة الأقلام الموهوبة المعاصر باللغتين العربية والفرنسية والصحافة الجزائرية الملتزمة تحديدا إبان الاستعمار وبعده لأجد جزء من ضالتي خاصة منها المكتوبة بالعربية..
معلوم أن جمعية العلماء المسلمين في عهد ابن باديس والإبراهيمي وشخصيات أخرى وأحزاب وطنية جزائرية قبل الجمعية او بعدها كانت لها جرائد ومجلات حتى إبان عهد المستعمر الغاصب على قلة أجهزة الطباعة ووسائل التوزيع يومها، ناهيك عن ترسانة منظومة خاصة بقوانين تكميم الأفواه ومقص الرقابة الاستعماري الفرنسي على كل ما له علاقة بالعربية والإسلام واستقلال الجزائر، من هذه الجرائد على سبيل المثال لا الحصر استوقفني قلم الشيخ العلامة محمود بوزوزو في جريدته المعروفة “المنار” التي أسست في مارس 1951 من طرف كوكبة من الوطنيين المجاهدين بالمال والقلم و البيان على رأسهم العلامة محمود بوزوزو صاحب الامتياز في جريدته تلك، التي كانت تصدر في الجزائر العاصمة نصف شهرية على أن تصبح أسبوعية مستقبلا، إن تجندت لها الأقلام الجزائرية على ندرتها بسبب الوضع الاستعماري الخانق للحريات وشح الموارد والوسائل وذات اليد، علما أن عدد صفحات “المنار” لا يتعدى أيامها الاربع صفحات من الحجم الكبير، لكن تصفيف المقالة في الطباعة يحتاج أياما وهي في عمومها جريدة منوعة شاملة – كما هو مبين في عنوانها – أن ” المنار جريدة سياسية، ثقافية، دينية، حرة!!”

” شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب”
إذ بعد صدور اعداد” المنار” الأولى من عام 1951حيث أحبها وتعلق بمواضيعها ومحتواها وبخطها الافتتاحي الإسلامي النضالي التحرري القارئ العربي عموما، فصارت مرجعا لأخبار الجزائر المقاومة وشعبها المجاهد المغوار، وصارت وهي في عامها الأول رائدة بحيث يوّزع منها بضعة ألاف، أي ما بين 3 الى 5 آلاف لكل إصدار- ضعف ما تطبعه اليوم جريدة وطنية مستقلة في عهد الاستقلال- ، منها ما يوزع حتى في الخارج أي في دول العالم العربي خاصة في تونس والمغرب ومصر، وكذا بعض الدول الأوروبية التي بها جالية مغاربية، إذ أضحى القارئ العربي ينتظر” المنار” على احر من الجمر، وما دامت النخبة الجزائرية أيامها كانت محاصرة مشتتة وغير مهيكلة زهدت بعض أقلامها في الكتابة والتدوين باللسان العربي أو كما هو “متوارث عنا تاريخيا في عهد الاستعمار” أن النخبة الجزائرية لا تكتب، بحجة تبدو منطقية وقتها، كما قال بعض مشايخنا: “شغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب”، أي شغلنا بإعداد المجاهدين لتخليصنا من المستعمر الغاصب وإعداد الأجيال الشابة لمرحلة الاستقلال بدل الانكباب على الكتابة والتأليف نثرا و شعرا، كما ينسب ذلك للعلامة البشير الابراهيمي، ولا ننسى أيضا أنه من أسلافنا الكتاب – على ندرتهم – من كان يقدم رجلا ويأخر آخرين سياسيا خاصة لطغيان اللسان الفرنسي على الساحة الإعلامية أو لاعتبارات شخصية عديدة الله أعلم بها وبنوايا أصحابها.

نداء نجدة واستغاثة جريء إلى اخواننا الكتاب:
حينها خاف الشيخ محمود بوزوزو كرئيس لتحرير جريدة المنار، على تعثر تجربته الإعلامية الفتية باللسان العربي المبين وحماية لأقلام المنار خشية وأدها في مهدها، كتب مستصرخا الكتاب الجزائريين في العدد الرابع لجريدة المنار، بتاريخ 15 شعبان 1370 الموافق لـ 21 ماي 1951، نداء نجدة واستغاثة جريء بعنوان” إلى اخواننا الكتاب !!”، محرضا النخبة الجزائرية على التسلح بالقلم لنصرة “المنار” لسان حال الشعب الجزائري الذي يتوق للحرية والانعتاق من براثن المستعمر الجاثم على صدر الجزائر منذ عقود، مبينا أنواع الكُتاب ورسالة الكاتب وأمانة القلم وشرف الكِتابة عند الله والأمة والتاريخ، كما قال الشاعر الحكيم :
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي … بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله … وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
فكتب العلامة الشيخ محمود بوزوزو – رحمه الله -، بإبداع وفطنة المفكر الحكيم والمعلم الرزين والأب الرحيم، كتب لإخوانه الكتاب، بعد التحية والسلام قائلا :”
من الناس من يكتب تزلفا للحكام، ومنهم من يكتب تملقا للعوام، ومنهم من يكتب لإشفاء لحزازة وانتقاما من خصم، ومنهم من يكتب إيقادا للفتنة، ومنهم من يكتب طلبا للشهرة، ومنهم من يكتب رغبة في مادة، ومنهم من يكتب نصرة للحق ودَفعا للباطل، ومنهم من يكتب أداء للشهادة المشار إليها في آية ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، ومنهم من يكتب أداء للأمانة المنوطة بأهل العلم إرضاء للضمير أو إبراء للذمة أمام الله..”
محرضا بقوله: ” والعلم أمانة، حظها من الثقل كحظها من الشرف، ومن آتاه الله القدرة على التبليغ فقد أناط به حملا لا مناص منه، منبها أياهم بقوله :”المسؤولية الملقاة على حملة الأقلام ثقيلة. وهي تتطلب التدرع بالشجاعة، والتحلي بالنزاهة. والحرص على إبراء الذمة. ولا يكون ذلك الا بتسخير الأقلام في خدمة الحق. وهي خدمة لا مندوحة عنها إذا وجدت وسائل القيام بها.”
فلا تقيموا الحجة على أنفسكم بإهمال أقلامكم، وأقيموا حجة الله على عباده بما وهبكم من نعمة فإن العلماء ورثة الأنبياء.”
مرغبا الكتاب بقوله:” والمنار بين أيديكم، وقد بين لكم أهدافه بوضوح، وهو مستعد لمساعدتكم على أداء أمانتكم الشريفة، وخدمة أمتكم بأقلامكم. ويكرر لكم – أي المنار- أنه بعيد عن كل احتكار، فإن دعوته لكم تذكير بواجبكم، ويَسُرُّه أن يراكم قائمين بهذا الواجب كاملا غير منقوص بإنشاء صحف ومجلات ترفع من شأن العرب الجزائريين، وتبرهن على أن الجزائر جديرة بأن تعتمد عليها العروبة والإسلام في الميدان الفكري على الأقل.”
مقسما حانثا بقوله :” إنه – والله – لمحزن أن لا يكون للشعب الجزائري العربي المسلم من الجرائد والمجلات ما لشقيقيه الشعبين التونسي والمراكشي، وأن يسعى الادباء والمفكرون في القطرين الشقيقين في أداء واجبهم نحو العروبة والإسلام في عدة ميادين، فيقوموا ببعض ما على المغرب نحو اللغة العربية والفكر الإسلامي وتكون الجزائر وهي قلب المغرب قليلة الخفقان في هذا الميدان.”
موضحا متأسفا بقوله :”وإنه لا أشد حزنا أن يكون للجالية الأوروبية وهي تعد مليون نسمة في الجزائر، عشرات الجرائد بين يومية وأسبوعية باللسان الفرنسي وأن لا يكون للعرب الجزائريين- وهم عشرة ملايين – العشر من ذلك باللسان العربي!!”
ثم ينهي نداءه مبحوح الحنجرة، كمدير للجريدة ورئيس تحريرها، بقوله لهم:” يقول لكم المنار: قسما باستعدادكم العظيم، وحقكم الهضيم وما تلاقونه من إجحاف لدى الغريب والقريب لفيكم من القدرة على القيام بالمشاريع العظيمة، والمؤسسات ما لو كان عند غيركم لأتوا بالعجب العجاب. فأثبتوا وجودكم وارفعوا رؤوسكم وبرهنوا أن في المخ الجزائري ما في كل مخ كريم من الاشعاع والاشراق، وافعلوا ذلك تحدثا بنعمة الله، وقياما بحقوق الفكر، وأداء لأمانة العلم، وحفظا لإرث النبوة، تبرأوا ذمتكم أمام الله والأمة والتاريخ.”
كما وجه نداءات مقتضبة في الخاتمة لكل من الباعة (الموزعين) والقراء، فقال إلى الباعة
“الرجاء أن توافونا بحساب الأعداد السابقة بمجرد اتصالكم بهذا العدد. وأن ترجعوا لنا الفواضل”
مناشدا حتى القارئ الجزائري بقوله:
“إذا اردت أن يصبح المنار أسبوعيا ويتسع حجمه ويصدر بانتظام، فأرسل له اشتراكا وأحرص على حمل أصحابك على الاشتراك”.
هذا ما نصح واجتهد به الشيخ العلامة محمود بوزوزو ، صاحب المنار وهو أيضا القائد الأعلى والمرشد العام للكشافة الإسلامية في ذات الوقت، ونشر هذه الكلمة كنداء لأصحابه وأقلام الجزائر عموما في خمسينات القرن الماضي حيث كان وضع الصحافة هشا للغاية أثناء الثورة، بلسان أحد أبرز إعلامييها في تلك المرحلة الصعبة والحرجة التي لا يؤتمن فيها الإنسان حتى على حياته ناهيك عن لقمة عيشه، بحيث يعد العمل الإعلامي يومها بحق جهادا من طراز فريد، متعدد السهام والنبال من رجل موسوعي واحد كالإمام بوزوزو، بحيث أدى ما عليه من جهد وجهادا بالحبر والورق والعرق والدموع والدماء. إذ كما يعرف العام و الخاص أن الرجل عذب مرات وسجن مرات أخرى في تلك الفترة العسيرة، أي قبيل وأثناء الثورة رفقة بعض مرافقيه، وحينها كان الشيخ بوزوزو في عنفوان شبابه، كان فعلا على كل الجبهات، إضافة لمسؤولياته كرئيس للكشافة الجزائرية ومرشدا عاما لها عبر الوطن، فكان له متسع من الوقت أيضا ليكتب للبصائر لسان حال جمعية العلماء، كما كان يكتب أيضا بالفرنسية لجرائد أخرى عن قضايانا وهمومنا خاصة منها ثوابت الأمة كالإسلام والعربية و وحدة الجزائر وحقوق الإنسان وغيرها من مواضيع الساعة ..
واليوم و بعد مرور عقود على نداء الضمير هذا للعلامة محمود بوزوزو للأقلام الجزائرية، لايزال قطاع الإعلام الجزائري على حاله، والصحافة تشتكي وتبكي رغم توفر الإمكانيات والحريات، نعم إنه لمحزن في عهد الاستقلال أن تبقى دار لقمان على حالها، عبر الأجيال، لا عذر لنا و لا عذر لأقلامنا ولأصحابها عن المماطلة والتسويف، لا ذنب لنا نحن الذنب.. ولا حول ولا قوة الا بالله
وصدق الشاعر الفلسطيني الحكيم باسل محمود أبو الشيخ في قوله:

الوقتُ يرحلُ والحــياةُ قطـارُ *** يمضي كما شاءت له الأقــدارُ

والكـلُّ فيه مســافرٌ ومُســيّرٌ *** مَن ذا الذي في الركبِ قد يختارُ

إنّا ضيـــوفٌ والحقيقــــةُ أنّه *** لا بدَّ يوماً ينتهــي المشــــوارُ

يا أيّها الباكي على دنياه هــل *** ساءلتها أين الأوائلُ صاروا؟!

كم من ممالك قبلنا قد شُيّدت *** لا رســـمُ عــاد لـهــا ولا آثــارُ

ما نحـــنُ إلّا مثلُ طيفٍ عـابرٍ *** والحــــقُّ أنّــا كـلُّنــــــا زوّارُ

سبحانَ مَن خضعَ الوجودُ لأمره *** وهو المليــــكُ الواحـدُ القهّــارُ

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version