لحظة تعقل واتعاظ
من المسلم به أن حراك 22 فبراير 2019 شكل حدثا مفصليا، سواء بالنسبة لعامة الشعب الذي علق عليه أملا واسعا، للتخلص من هيمنة عصابات السلطة، أو بالنسبة للعصابات الحاكمة، التي أفزعتها هبة الشعب، وشعرت بزعزعة عرشها من الأعماق، فراح كلٌ منها، يناور بطريقته لكسرها ولو اقتضى لأمر، التظاهر بالانخراط فيها إلى حين، ريثما تتاح الفرصة لإعادة الأمور إلى “نصابها”.
كان الحراك حداثا هاما، أيا كانت القراءات لحيثياته، سواء اعتقد المرء بعفويته، بعد أن ضاق الشعب ذرعا بجرائم وفساد العصابات، أو اعتبر آخرون أن انطلاقته، جاءت بوحي أو إيعاز أو مساعدة أطراف في السلطة، حاولت ركب موجة الشعب للتخلص من خصومها في عملية تصفية حسابات، بما يذكرنا بأحداث أكتوبر 88 التي لا زالت تثير الكثير من الأسئلة بشأن اندلاعها. كان الحراك مفصليا لأن حتى في هذه الحالة، أي احتمال توظيفه من قبل طرف في السلطة، لقد تجاوزت الأمور سيطرة وتحكم من يُفترَض أنه سعى إلى استغلال الوضع، والدليل على ذلك، رغم الإعلان الاحتفالي عن “انتهاء مبرراته”، لا تزال كل العصابات في الحكم، بمختلف أطيافها، وكل المنتفعين من الوضع السائد، والذين يرعبهم تغيير جذري يضع حدا لمصالحهم غير المشروعة، يرتعدون لمجرد فكرة عودته، بما يفسر تلك الوحشية التي تمارسها السلطة، لمنع عودته، وسنها القوانين والتشريعات الجائرة، التي تصنف مجرد الإشادة به والحث عليه، عملا إرهابيا يعاقب عليه القانون بأشد العقوبات.
كان الحراك مبعث أمل لاقتلاع منظومة الفساد بشكل نهائي وشامل من جذوره إلى لأبد، وكان بمثابة فضاء ساهم في توّصل كافة فئات المجتمع، بمختلف مشاربها، إلى قناعة، بأنه ما لم يوضع حدا لهذه العصابات وإقامة دولة مدنية، لن يتمكن للشعب أبدا من بناء دولة العدل والقانون، بسواعده وإرادته، وهو ما يفسر ذلك التلاحم والعمل المشترك، وضرورة التوصل إلى أرضية وضمانات تسمح للجميع بالتعبير الحر دون خوف. أحد أبرز نجاحات الحراك أنه انتزع من العصابة ذريعة استخدام العنف “لمحاربة الشغب”، وأبطل مبرر “عصاها” الأبدية، بما أبهرت العدو قبل الصديق، بالنزر إلى سلميته وحضاريته، الممتدة على مر 14 شهرا متتالية.
هذا التلاحم عرف للأسف، شرخا وتباينا في الرؤية، بين من جهة، فئة رأت في خريطة طريق قائد لأركان سابقا، قايد صالح، حلا وفرصة للتخلص من منظومة توفيق والدولة العميقة، ومن جهة أخرى، فئة اعتبرت ذلك مجرد مناورة وامتطاء موجة الحراك للتخلص من مطالبه العميقة، وإعادة تنظيم منظومة الحكم بشكل مخادع للالتفاف على مطلب الدولة المدنية، التي تؤسس لدولة العدل والقانون، فتعمق الشرخ بعد الانتخابات التي فرضتها خريطة طريق قايد صالح وأتت بتبون، رئيسا على الشعب، رغم اعتراض غالبية المواطنين مثلما تبينه أرقام المشاركة في الموعد، بعد اضطرار السلطة تأجيله مرتين.
تفاقمت موجة الاتهام المتبادل، وراح كل طرف يحمل الطرف الآخر المسؤولية، أحدهم يتهم الطرف الآخر بشرعنة انقلاب قايد صالح على مطالب الشعب، وينعته بـ”بوصباع”، الآخر، ينعت خصمه، بـ”الزواف” وعبيد توفيق والعلمانيين، ويحملهم المسؤولية عن عودة الدولة العميقة إلى سدة الحكم. وفي ظل استفحال الوضع وتعفنه، ما نشاهده، هو أن العصابات، بكافة تنوّعها وصراعتها الظاهرية، قد لمت شملها واجتمعت على كلمة وكرمت بعضها البعض ليظل الشعب، بكل أطيافه، سواء الذي وثق في خريطة طريق قايد صالح، أو الذي اعترض عليها، هو الخاسر الأكبر، بما كرس ورسخ قبضة العصابات وعزز قبضتها بعد أن نجحت، عبر منابرها وأقلمها وسياسيها ومثقفيها في دق أسفين بين فئات الشعب وتثبيط عزيمتهم وبيع السراب الذي زرع اليأس في النفوس.
إذا أمعنا النظر، نجد أن يد مديرية الأمن والاستعلام غير بعيدة عن إذكاء فتن التطاحن بين فئات الشعب، وتعميق الهوة بين رؤاهم للوضع والحلول الضرورية، ووقوفها وراء حملة التنابز بالالقاب، كعادتها دائما، في سعيها إلى إجهاض كل محاولات اجتماع كلمة الشعب، وتفننها في نشر نعوت “بوصباع” و”الزواف” للتطاحن المتبادل الذي يضعف الطرفين، تماما مثلما ساهمت في إحراق الغابات، لإشعال فتيل النعرات بين الاشقاء، وفي كل مرة الشعب، هو من يدفع فاتورة صراع العصابات، التي تنتهي دائما بلم شملها وجبر كسرها، وفق القاعدة لتي تؤكد لنا أن الذئاب تتحرش ببعضها البعض لكنها لا تأكل بعضها البعض.
لم يَعُد مهما أن يكون هذا أو ذاك على حق أو على خطأ، لأن الجميع خاسر والجزائر تنجرف كل يوم أكثر نحو دمار مؤكد، والجميع مسؤول عن استمرار الوضع على حاله، حان الوقت لتدارك الوضع والتيقن بأن الوقوف على هامش ما يحدث والتفرج عليه وامتهان سياسة تبادل التهم لإراحة الضمير، يكرس حكم العصابات ويعيدنا إلى ما قبل 22 فبراير أو أسوء منه.
كلنا يشرب اليوم من نفس الكأس الذي تسقينا منه العصابات المستنسخة، لقد حان الوقت لوقفة مع الذات واستخلاص الدروس لعلها تفيد الجميع، وطنا وشعبا وقضية. رغم الفرص التي ضيعناها، إلا أن الوقت لا زال أمامنا، لمراجعة مواقفنا، بعيدا عن النرجسية والمكابرة، لم يعد من المفيد تحميل الذين صوّتوا في انتخابات 12 ديسمبر مسؤولية ما نعيشه، ولا في اتهام الذين قاطعوا تلك الانتخابات، بأنهم مكنوا الدولة العميقة من العودة، فلا هذا ولا ذاك يجزي، لأن النتيجة في كل الحالات، أننا نعيش نفس المأساة، ويدفع جميعنا فاتورة هذه القرارات والمواقف العقيمة، التي تفيد أولا وأخيرا، جلادو الوطن ومدمروه. إن ما يجمعنا هو حرصنا وسعينا الصادق لبناء دولة القانون، التي تتيح للجميع التعبير بحرية وسيادة عما يؤمن به، لانتشال الجزائر من مستنقع العصابة ووضعا على شاطئ الأمان.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version