في زمن فُتح فيه باب الترشّح للعهدات الرئاسية المتعدّدة في الجزائر على مصراعيه، وظلّ حقّ تظاهر المواطنين مُوصدًا بجميع أقفال القمع والترهيب، حدث في إحدى الجامعات أنّ أُستاذة عُرف عنها نزاهتها وكفاءتها في مجال تخصصها، أثناء إلقائها إحدى محاضراتها توقّفت لتُصارح طلبتها أنّها لا تفهم سبب إدراج مادة التربية المدنية في مقرّر التعليم الابتدائي والمتوسّط، إذ أنّها مهما حاولت مع ابنها في المنزل تلقينه إيّاها، لم تُفلح في ذلك، وهذا على عكس المواد الأساسية الأخرى كالحساب واللغة واضـحتي المغزى، التي في نظرها يجب فقط الاكتفاء بها. لتُبدي بذلك اعتراضها على ما طال مناهج التدريس من تغيير حينها وخلط كل المنظومة التربوية، والتي كذلك لاتزال! يبدو أنّ هذا الموضوع قد شغل بال الأستاذة كثيرًا وأرّقها، إذ أنّ ابنها لم يستوعب المادة جيّدًا لكي يتحصّل على علامة تُرضي غرور كل وليّ أمر، ممّا دعاها إلى قطع المحاضرة في المنتصف، وإبداء الانشغال، ثم مواصلة المحاضرة إلى نهاية الحصة، لِتكمل الحديث بعد ذلك مع بعض الطلبة حول التربية المدنية التي اتّفق أغلب الجمع أنّها لا معنى لها(!) لنتساءل نحن بدورنا هل يكمُن معنى مادة التربية المدنية التي هي موضوع حديثنا فقط في جودة العلامة بعد الامتحان، أم لها مآرب أُخرى؟ وهل عدم قُدرة المُتمدرس على الاستيعاب ربّما بسبب عدم قُدرة المُدرّس نفسه على استيعاب كُنه المادة التعليمية وإيصالها كما ينبغي أو سوء صياغة البرنامج التعليمي أو الواقع المـَعيش أسباب تُغنينا عن المادة مهما كانت أهميّتها؟

جزء من الإجابة على هذه التساؤلات يُمكن لحاضرنا الذي هو خير مثال أن يُوافينا به. حاليا لابُدّ وأنّ ابن الأستاذة في طور إنهاء دراسته الجامعية، إن لم يكن أنهاها وانتقل إلى الحياة المهنية. بمعنى أنّ جيله هو من كان يقود حراك الطلبة كلّ ثلاثاء قبل أن يتمّ كسر صفوفه، ومن كان يُشارك في مسيرات الجمعة قبل أن يتمّ خنق أنفاسها. بعض من أترابه آمنوا بقضية الوطن المكلوم، فبذلوا حثيث السعي من أجل نُصرتها، لينالهم ما نالهم من نهر وزجر وحبس وتعذيب، فثبتوا وصمدوا.. ولا يزالون. والبعض رُدعوا فخضعوا وانسحبوا.. ولم يلتفتوا. والبعض الآخر، للأسف الشديد، لم يعيشوا القضية لا من قريب ولا من بعيد، يكفيهم ما نالهم من آفات عصرٍ تركتهم مُغيّبين تائهين! هي فئات ثلاث يُحدّدها عامل واحد.. ألا وهو مدى وعي هذا الجيل وسابقيه بحقوقهم المدنية وإدراكهم لها. بمعنى أنّه كلّما كان الوعي بهذه الحقوق كبيرًا، كلّما زاد الإيمان بالقضية ونقُصَ الخوف من مواجهة الظُلام، لتهون بذلك كلّ المصاعب في سبيل النصر، والعكس بالعكس.

لذلك، لا يخفى على كلّ عاقل أنّ اللبنة الأساسية لبناء أيّ مجـتمع قوي متماسك هي بناء الفرد الفكري والسلوكي. ومصادر تكوين هذا المجتمع الواعي بحقوقه المدنية متعددة ولكنّها ليست متكافئة لدى جميع الأفراد على غرار الأسرة. ما عدا المدرسة، أين يخضع جميع التلاميذ لنفس المناهج التعليمية. ومع قيام الدول بمفهومها الحديث القائم على المؤسسات والأنظمة السياسية الديمقراطية، كان الداعي إلى إدراج مادة التربية المدنية، أو ما يُقابلها من مُسميات تختلف باختلاف الدول، في البرامج المدرسية. وذلك من خلال مقررات تهدف إلى تكوين شخصية التلميذ منذ سنوات تمدرسه الأولى ليكون مُواطنا صالحا، له حقوق يتمتّع بها ويُطالب بها إن هي غابت عنه، وعليه واجبات يقوم بها. بالإضافة إلى تعريفه بمعنى المؤسسات التي يقوم عليها نظام الحكم، وكذلك السلطات وصلاحياتها والعلاقة القائمة بينها. ليكون بعد ذلك الحارس على سلامة النظام من كل خرْق والمُصوّب لكل خلل يحيد به عن الجادّة.

من النقاط الأساسية التي تتناولها مناهج التربية المدنية، نذكر التعاريف الآتية على سبيل المثال لا الحصر، والتي هي مستقاة من الكتب المدرسية (1):

ــ حقوق الإنسان: هي مجموعة من الحقوق متأصّلةٌ في البشر ذات طابع سياسي وثقافي واقتصادي تحميها القوانين الدولية والوطنية. من الحقوق المدنية والسياسية نذكر ما يلي: الحق في الحياة، الأمن، اللجوء إلى القضاء، المساواة أمام القانون، الكرامة وعدم التعرض للتعذيب، عدم الاعتقال التعسّفي، حرية الرأي والتعبير، وحرية إنشاء الجمعيات والاشتراك فيها…
ــ لحماية حقوق الإنسان، تمّ عقد اتفاقيات ومعاهدات على المستويين الدولي والإقليمي، تلتزم بمقتضاها الدول في دساتيرها وقوانينها باحترام حقوق الإنسان والعمل على تجسيد مبدأ الديمقراطية. تمّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر 1948 من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليكون وثيقة قانونية تنص على حقوق الأفراد وحرياتهم، تلتزم الدولة الجزائرية باحترامها.
ــ تتكوّن الدولة من سلطات ثلاث: تشريعية يمارسها البرلمان المنتخب، مكلّفة بتشريع القوانين؛ تنفيذية تقوم بتنفيذ البرامج والقوانين، فيما يخص العلاقة بينهما تمارس كلتا السلطتين مبدأ الرقابة المتبادلة؛ والسلطة الثالثة قضائية تسهر على حماية حقوق المواطن وحرياته وهي مستقلّة عن السابقتين.
ــ رئيس الجمهورية: هو رئيس الدولة الذي يتولّى السلطة التنفيذية، ويتم انتخابه من طرف الشعب الذي هو مصدر كلّ سلطة.
ــ المؤسسة الأمنية: هي مؤسسة تتشكل من الشرطة التي من مهامها حفظ النظام والأمن وحماية الأشخاص داخل المدن؛ الدرك الوطني الذي يسهر على حفظ الأمن خارج المدن؛ والجيش الوطني الشعبي الذي يسهر على صيانة وحدة واستقرار البلاد.

لتكون المفارقة بعد ذلك.. خارج دفّتي الكتاب وجدران القسم وأسوار المدرسة، يجد التلميذ ويسمع ويعيش العكس تماما. في الشارع يصيح الشعب ملء فيه أنّ الرئيس مُزوّر عيّنه العسكر، لا توجد الشرعية، فتقمع قوات الأمن جُلّ من عبّروا عن رأيهم وتقيّد حرّيتهم وتزُج بهم في السجون وتنتهك كرامتهم وتُجرّعهم شتّى أنواع التعذيب. في البيت يُداهِمُهم أعوان الأمن كذلك بكل وحشية، ينشرون الخوف والرعب ويعتقلون أباه أو أحد أفراد أسرته تعسّفيا لأنّه مِمّن عبّروا عن رأيهم السياسي، ومصيره بعد ذلك غير معلوم. في المحاكم يؤكّد القضاة عكس معنى استقلالية السلطة القضائية إذ لا يرفضون طلبًا لمن عيّنوا الرئيس غير الشرعي، ولا ينصرون العدل ولا يحمون حقوق المواطن وحرّياته عكس ما تنص عليه أبجديات وظيفتهم، بل يُصدرون أحكاما في حق المعتقلين السياسيين بالسجن لسنوات تُشرّع إقامتهم في السجون؛ أمّا المُحامون الشرفاء مِمّن عقدوا العزم على نُصرة كلّ مظلوم فمصيرهم الإنذار أو الاعتقال أو حتى الاغتيال. في الإعلام الرسمي يوصف كلّ من عبّر عن رأيه بالإرهابي، في الخارج يَخرق النظام المعاهدات التي التزم باحترامها ويُطارد مُعارضيه مِمّن عبّروا عن رأيهم السياسي ويقوم بصفقات مشبوهة بُغية اجتلابهم والانتقام منهم لأنّهم فقط عبّروا عن رأيهم، وهكذا دواليك… لنتساءل بعد ذلك.. ماذا ستكون ردة فعل هذا التّلميذ، وبماذا سيُحدّثه عقله، وكيف يرى هذا الوطن، وكيف ستكون وطنيته مُستقبلا؟!!! ربّما كان كلّ هذا التناقض هو السبب الرئيس في عدم قدرة أجيال المستقبل على استيعاب قواعد هذه المدينة الفاضلة وحقوقهم الافتراضية فيها التي لا تمُتّ بأيّ صلة لمدينتهم الواقعية الموحشة المخيفة، ومن المؤكّد كذلك أنّه من أحد الأسباب المباشرة في عدم النهوض بالحراك من طرف عموم الشعب من جديد والتخلص من جميع الغيلان. هو أمر مؤسف حقّا.. ولكن هذا لا يعني الاستسلام والخُضوع أبدًا، وإنّما نأمل أن يُدرك كلّ وليّ أمر وكل مُعلّم هذه المسؤولية ويعمل ما في وُسعه رغم الصعاب من أجل تكوين نشئ ٍواعٍ بحقوقه مُدرك لها، ليُواصل بعد ذلك النضال حتّى إرساء دولة العدل والحق والقانون، ويكون الحصن المنيع ضدّ أيّ حَيد.

في الأخير سوف نظلّ نُنادي بالحريّة لكلّ مُعتقل رأي آمن بحقوقه المدنيّة وخرج مُطالبا بها بطُرق سِلميّة حضارية، غير آبهٍ بقُبح ولؤم نظام حُكمٍ. والعار والشنار على هذا النظام الذي لم يكُن ولا يزال إلّا جبانا مُتخفّيا وراء قناع النّذالة والإجرام، بدل مُواجهة الحقيقة والاستجابة لمطالب الشعب الذي هو المصدر الحقّ لكُل شرعيّة.

15 ديسمبر 2021

(1) قبل تغيير المنظومة التربوية كانت مادة التربية المدنيّة تُسمّى التربية الاجتماعية، والحقيقة أن المُقرّر حينها كان يتّسم بالبراءة ويهدف إلى تكوين المواطن حقّا. في حين أنّه بعد ما سُمّي بالإصلاح وأجياله المُتعددة، لا يخفى على اللبيب بعض التخبّط في إرساء المفاهيم التي لا يُمكن أن يطالها التلاعب إرضاءً للعابثين بزمام الحكم؛ ومُحاولة ترسيخ الصنم المُتمثّل في الحاكم المُعيّن ساعتها. أمّا وقد استُبدل ذاك الحاكم بحاكم صوريّ آخر فهل سيتم إصلاح الإصلاح؟ أم سيملّ الحاكم الفعليّ ذلك ويُحيلها تربية عسكرية درءًا لكلّ إصلاح إصلاح الإصلاح!

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version