ثلاثة أشهر، ستة أشهر، سنة، سنة ونصف، سنتان، سنتان ونصف، ثلاث سنوات، أربع سنوات، سِتّ سنوات… وهكذا(!) هي ليست دروس لتعليم حساب الأشهر والسنوات لتلميذ في المدرسة. ولا مجالات زمنية لمخططات ورؤى مستقبلية لشاب طموح، يرسم من خلالها أحلامه وآماله و كل ما يريد تحقيقه وإنجازه في قابل الزمن. و لا مزيدًا من العمر يأمل شيخ كبير أن يعيشه، يرى من خلاله مزيدًا من الأحفاد وأبنائهم، وهو الذي أحنت السنون قامته وألبسته شيبًا و ضعفًا ووهنًا.

لا.. هي ليست كلّ هذا! ولكنّها كلمات يتلفّظ بها جُزافًا صباح مساء مَن هم للقضاء مُنتسبون، رهن إشارة الحُكام مُؤتمرون، ويجعلون منها أحكامًا بالسجن لأُناس. أحكام لم تصدر في حقّ من هُم على أمن المجتمع خطِرون، و لا من هم لثروات وأحلام شعبٍ لصوصٌ ناهبون، و لا من هم على أبناء هذا الشعب طغاةٌ مُتجبّرون. في الحقيقة هي أحكام صدرت، ولا تزال تصدر، في حق أحرار هم على كلّ هؤلاء ثائرون(!) ثائرون آلمتهم جِراح وطن، تزداد غورًا كلّما زاد أنين هذا الوطن جرّاء جور وأنانية زمرة لم ترهُ يومًا كذلك. إنّما بالنسبة لها هو مُلك لها أن تفعل فيه ما تشاء، والبقيّة رعيّةٌ عليها الطاعة و الإصغاء. ثائرون آمنوا بحقّهم في العيش الكريم وعدم شرعيّة الحُكّام المستبدّين، فـخرجوا للظلم رافضين وبالسّلمية مُتسلّحين، ليجدوا أنفسهم في السجون مرميّين. سُجون وُجدت أساسًا للأشرار والمُجرمين، فإذا بِنزلائها من الأخيار و الفاضلين!

في الظاهر ارتبط ظهور السجون قديمًا مع ظهور أنظمة الحكم باختلافها، وما صاحبها من قوانين تُنظّم المجتمعات، فكانت بديلًا لعِقاب من يخرقون القوانين مِمّن لا يستطيعون دفع الغرامات، وهم من الفقراء أساسًا. ولكن مع مُرور الزمن أصبح الحُكم بالسجن عقوبة في حدّ ذاتها، وإن كانت التجارب قد أثبتت أنّ سلب الحرية ليس الحلّ الأنجع لإصلاح من هم على حُرمات المُجتمع مُعتدون.

و لكن لو سُئلت الزنزانات عن أكثر رُوّادها، لأخبرتنا على لسان التاريخ، خـجِلة مُتأسّفة، أنّ مُعظمَهم ليسوا مِمّن أراد الحُكّام وقضاتُهم إصلاحَهم بحجّة خطرهم على مجتمعاتهِم، وإنّما هم أولئك الذين أرادوا إصلاحَ الحكامِ و سياساتِهم بسبب خطرهم على المُلكِ و أنظمتِهم. لنفهم بذلك حرص الحكّام الشديد على بناء هذه المعتقلات التي قطعًا يفوق عددها في بعض المناطق عدد المستشفيات، و لربّما فاق في يوم ما عدد المدارس والجامعات. معتقلات تكتُم صوت الحق وتحبس أنفاس المُنادين به أو توقفها إن دعت الضرورة لذلك. وحُكام نزعوا العدل الذي هو أساس المُلك، وجعلوا السجن له بديلًا. فأصبح مُلكهم هشًا مُتذبذبًا، يُرقب سقوطه في كل لحظة.

أمّا القضاة رهن الإشارة الذين أصبحوا في أيامنا هذه رهن الهاتف الرّنان، يأسف الواحد منّا لما آل إليه القضاء وحالهم، إذ هان عليهم القسم والعدل والحق والوطن، وهانت معها مبادئهم وسنوات دراستهم وتحصيلهم و اختُزلت جميعها في كيفية الإجابة على الهاتف حين يرِن؛ حال بسببها أصبحنا نخشى أن تُصبح يومًا ما الإجابة على الهاتف بنعم مُقرّر دراسة القضاء الأوحد. يأسف الواحد مِنّا لحال قضاة فضّلوا الدنيّة وجعلوا من أنفسهم صمّام أمان لحاكم مُتجبّر زائل، على أن يُعلوا راية العدل والحقّ، ويسيروا في موكب طلب الحرية و استعادة الكرامة.

على الرغم من ذلك، يبقى الأمل قائمًا في أن يستيقظ الضمير يومًا ما، ويتذكّر القاضي أنّ بإصدار حكمه الظالم الجائر على كلّ مُقاوم حُرٍّ ثائر، منْ له أن يشرح لطفل صغير معنى أن يُسجن أبوه من أجل الحرية. و من له أن يسُد فراغ جبلٍ لإحداهُن ترى فيه الأب والأخ والزوج والحبيب. ومن له أن يُطفئ لهيب قلب أُمٍّ أشعله الشوق لرؤية ولدها، فأرْداه جمرة تحرِق كلّ كيانها؛ من له كذلك أن يضمن لها أن تراه رأي العين يومًا وتضمّه إلى صدرها قبل أن تسير إلى بارئها. أمّا البطل السجين، وإن ظلّ بالحق مُناديًا ومن أجله ثابتًا صامدًا شامخًا، من له أن يسترجع له ريعان شباب سرقته ظلمة زنزانة، وأحلام حاضر ومستقبل جمّدتها برودة أرضية مُعتقلٍ وجدرانه. من له أن يحفظ أنوثة امرأة خدشتها قيود معصم وسلاسل كاحل. من له أن يُطرب أُذني أبٍ بأولى نغمات أبي على وتر ضحكات بُنيّته. من له أن يجبِر كرامةَ عزيز نفسٍ داسها سوء أدب سجّانه. من له أن يُداوي جراح روح تسكن جسدًا مُتجلّدًا، أوهنه تعذيب جلاده الذي هو إلى كلّ إنسانية مُفتقر. ومن له أن يُقنع هذا السجين أنّ حساب الدقائق والساعات والأيّام والأشهر والسنوات هو حقّا مثلما تعدّه أنت أيها القاضي وليس بمقدار آلاف السنين.

16 أكتوبر 2021

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version