محمد مصطفى حابس: جينيف/ سويسرا   –

بعد الأحداث المؤلمة التي وقعت في المدة الاخيرة في منطقة القبائل، من قتل عمدي من طرف عصابة مجرمة لرجل بريء، وبعد صيحات بعض أهلنا في منطقة “الزواوة” ان ما وقع لا يمثلهم ولا يمثل أي جزء من الجزائر، ضف لذلك لهيب وباء كورونا ولهيب غلاء المعيشة وأخيرا لهيب انتشار الحرائق الذي يلتهم جبالنا وخيراتنا في عدد من ولايات الوطن، فأين هي شهادات المنصفين لقضايانا العادلة رصًا للصفوف وحماية للحمتها، ولعل هذا المثل من شهادة الغربيين المنصفة للجزائر وشعب الجزائر، يبعث فينا روح الاخوة والتآزر…

قد يقول قائل عن عنواننا هذا أي “الجزائر هي الإسلام”، أنه تهور زيادة عن المألوف من طرف كاتب هاو متدرب يرغب في إشهار مجان لقلمه، متعصب لوطنيته، وقد يقول آخر أن عروبة وأمازيغية الجزائر طغت على وجدان الكاتب فلم يجد إلا ربط الإسلام بالجزائر للخروج من شرنقة العصبية التي يدعو اليها ويرتكز عليها بعض الدارسين للحالة الجزائرية منذ عقود !!…

  إلا أن صاحب مقولة ” الجزائر هي الإسلام “، لا علاقة له لا بعير العرب ولا بنفير الأمازيغ، بل هو رجل من الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، من المنصفين الغربيين للإسلام والمسلمين، وهو صاحب مقولة “محمَّد المفتَرَى عليه”، الذي عنوّنا به مقالنا الأسبوع الماضي، والذي عرّفنا بجزء من فكره وعقيدته الفولاذية.  إنه المفكر والمؤرخ الإسلامي السويسري روجي دوباسكيي المدعو “سيدي عبد الكريم “(1917-1999)، أحد زملاء شيخنا العلامة محمود بوزوزو رحمه الله، أول أئمة الديار السويسرية، وأحد تلاميذ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمهم الله جميعا.  ألف دوباسكيي وترجم العديد من أمهات الكتب، مثل: الطريق الى مكة، ما هي الصوفية، العالم العربي، النهضة الإسلامية، اكتشاف الإسلام، لإسلام بين التقليد والثورة، وغيرها.

الإسلام بين التقليد والثورة

و”الجزائر هي الإسلام “، هو عنوان الفصل الثالث من تسعة فصول من كتابه “الإسلام بين التقليد والثورة” طبع دار توقي للنشر الباريسية، سنة 1987، 

L’Islam entre tradition et révolution. Editions TOUGUI, Paris

وقد استهل كتابه هذا المتكون من قرابة 300 صفحة بالآية الكريمة، بعد باسم الله الرحمن الرحيم: { وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64 }.

ثم بمقدمة طويلة في 50 صفحة ناقش فيها المحاور الرئيسة التالية:

– النظرة المشوهة للغرب. 

– هموم الرجل العلماني 

– روح الفهم والحس المقدس 

– الإسلام والحداثة : التقارب المستحيل  

– الخوف من اللحاق بالركب. 

– الإسلام في الداخل والخارج.

وعنوان باقي فصول الكتاب كالتالي:

 الفصل الأول: بريق أضواء الغروب (المخادعة) / ثورة حول المركز.

الفصل الثاني: في قلب الإسلام الأفريقي / الفتوحات السلمية في اتجاه الجنوب.

الفصل الثالث:” الجزائر هي الإسلام” أو ما يمكن ترجمته أيضابـ :” اسلام الجزائر”.

الفصل الرابع: تركيا: العلمانية الإلزامية وعودة المقدسات / السؤال الأساسي.

الفصل الخامس: الثورة الإيرانية أم الدين المنحرف / طعم الدم.

الفصل السادس: باكستان أو الأسلمة الحذرة / سياسة الإصلاح التدريجي.

الفصل السابع: جهاد الأفغان أو شرف الإسلام / القضية الحقيقية.

الفصل الثامن: مائة مليون مسلم هندي / المسجد الذي يواجه المعبد.

الفصل التاسع: القاهرة وعلامات العصر / الإسلام الجماهيري.

الجزائر هي الإسلام !” بدل ” الجزائر هي فرنسا

لو عدنا للفصل الثالث، تحت عنوان:” الجزائر هي الإسلام!” أو ما يمكن ترجمته أيضا بـ:” اسلام الجزائر!”، ولماذا هذا العنوان تحديدا؟

 جاء هذا العنوان بعد حوار ومجالسة مع كوكبة معتبرة  من علماء الإسلام و مفكريه في الجزائر، طبعا كما ذكرنا في مقال سابق، أن الشيخ محمود بوزوزو رحمه الله، هو الذي أشار على زميله المفكر والصحافي السويسري روجي دوباسكيي، بالتواصل معهم، لأخذ صورة حقيقية عن الجزائر والجزائريين مباشرة من المصدر أي من أفواه أصحابها، لأن أهل مكة أدرى بشعابها، وقد حل ضيفا على العديد منهم، في بداية ثمانينات القرن الماضي، بحيث التقى بكل من: الشيخ عبد الرحمان شيبان، وزير الشؤون الدينية يومها، و الأستاذ عبد الوهاب حمودة، الأمين العام لوزارة الشؤون الدينية، وكل من السادة : الشيخ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، و الدكتور الشيخ بوعمران و الدكتور عمار طالبي، والدكتور أحمد عروة، وغيرهم، في جلسات عديدة و متعددة.. قد نعود بالتفصيل لتصريحات كل واحد منهم، في مقال مستقل، بحول الله، الأمر الذي جعل المؤلف، يعطي هذا العنوان للفصل الخاص بالجزائر، إذ كتب يقول تحت عنوان فرعي لـ” الجزائر هي الإسلام”،

 قضية قلب:

“كم سمعنا في غرة اندلاع ثورة نوفمبر1954 مقولة ” الجزائر فرنسية ! ” أو ” الجزائر هي فرنسا ! “، وقد دندن بها وزير الداخلية يومها فرانسوا ميتران يوم 5 نوفمبر أمام لجنة الداخلية في الجمعية الوطنية الفرنسية، مضيفًا: ” أن التفاوض الوحيد الممكن مع الجزائريين هو الحرب”.

 “La seule négociation possible avec les algériens, c’est la guerre” 

 لقد شهدنا للتو بالفعل اندلاع حرب الاستقلال التي استمرت قرابة ثماني سنوات.. مضيفا بقوله:

في 12 نوفمبر الموالي، فيما يتعلق بنفس الأحداث، أعلن رئيس الحكومة الفرنسية، السيد بيير مينديس-فرانس، في جلسة للجمعية الوطنية “إن عمالات الجزائر (الثلاث: قسنطينة-وهران-الجزائر) جزء من فرنسا، والجزائريين فرنسيين منذ فترة طويلة ولا رجعة فيها” 

“Les départements d’Algérie constituent une partie de le République française. Ils sont français depuis longtemps et d’une manière irrévocable “

 لتهتز القاعة في تصفيق شبه إجماعي للجمعية الوطنية.”

” وهناك اقتباسات مماثلة، تافهة صُنعت على مر السنين، سيكون من السهل إنتاجها بوفرة”. ذلك ما ذهب اليه، جاك سوستيل الحاكم العام للجزائر منذ بداية عام 1955، مؤكدًا بشكل خاص قوله: “لن تترك فرنسا الجزائر، فتركها بمثابة ترك عمالات بروفانس أو بروطاني ، 

“La France ne quittera pas plus l’Algérie que la Provence ou la Bretagne” 

كما أعلن أمام “الجمعية الجزائرية” بعد فترة وجيزة من تعيينه. في أبريل من نفس العام، حيث جاء للمشاركة كضيف شرف في اليوم الرسمي لمعرض مدينة ليون بفرنسا، إذ كنت حاضرا يومها كصحفي، وألقى علينا خطابًا اختزل الانتفاضة الجزائرية إلى “أعمال إجرامية لحفنة من الفلاقة، وما وجود فرنسا هناك الا تعبيرا عن العمل الحضاري لفرنسا على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط”، ليختتم خطابه بتأكيد إرادة فرنسا الحازمة لعرقلة كل من يحاول تقويضها بالقول أو الفعل. فبدلاً من التصفيق، والذي ربما كنت الوحيد الذي لم أفعله، تساءلت حول هذا الانحراف في مصير فرنسا. لأنه من بين القادة السياسيين في هذا البلد (فرنسا)، مهما اشتهروا بذكائهم، فقد تم تجاهلهم وعدم الاخذ بنصائحهم أمثال بعض المستشرقين وعلماء الأعراق البارزين والمطلعين أمثال لويس ماسينيون أو إميل درمنغهم، الذين يعرفون قطعا، أن أرضا مسلمة مثل الجزائر لا يمكن أبدًا ادماجها مع فرنسا … ما لم يتم التعامل معها مثل الأندلس في بداية العصر الحديث. علما أن السيد سوستيل نفسه كان عالم إثنولوجي …!”، على حد تعبير المؤلف روجيه دوباسكيي، فمن هو هذا المفكر السويسري المنصف المستنير؟

رحلة “روجيه دوباسكيي”، من الظلمات الى النور:

   نشأ ” روجيه دوباسكيي ” في بيئة مسيحية بروتستانتية، وتأثر بالفلسفة الوجودية، حيث كان يرى أن الأديان معتقدات خرافية، وكان منغمساً في عالم المتعة واللهو واللعب، وعندما اشتغل بالصحافة بدأ يسافر إلى أكثر من بلد، فسافر إلى السويد، وعمل بها مراسلاً صحفياً في نهاية الحرب العالمية الثانية لأكثر من خمس سنوات، وفي السويد اكتشف أن الناس تعساء، برغم التقدم والرخاء الذي يعيشون فيه، واكتشف عكس ذلك عندما سافر إلى بعض الدول الإسلامية في الشرق، فقد وجد المسلمين برغم فقرهم الشديد يشعرون بسعادة أكثر، وأن حياتهم لها معنى، وهذه الملاحظة جعلته يفكر ملياً في معنى الحياة ويتأملها من خلال هذين النموذجين النقيضين. وكان دوباسكيي يسأل نفسه: ” لماذا يشعر المسلمون بسعادة تغمر حياتهم برغم فقرهم وتخلفهم؟! ولماذا يشعر السويديون بالتعاسة والضيق حتى الانتحار برغم سعة العيش والرفاهية والتقدم الذي يعيشون فيه؟!”، حتى بلده سويسرا كان يشعر فيها بنفس ما شعر به في السويد، برغم أنه بلد ذو رخاء، ومستوى المعيشة فيه مرتفع، وأمام هذا كله وجد نفسه في حاجة لدراسة ديانات الشرق، وبدأ بدراسة الديانة الهندوسية فلم يقتنع بها، بعدها درس الدين الإسلامي الذي شده إليه بعدما وجده لا يتعارض مع الديانات الأخرى، بل إنه يتسع لها جميعاً، وكانت هذه الحقيقة تزداد يقيناً عنده باتساع قراءاته، حتى رسخت في ذهنه تماماً بعد ما اطلع على مؤلفات الفيلسوف الفرنسي “رينيه قينو” الذي اعتنق الإسلام، فاكتشف أن الإسلام يعطي معنى للحياة، على عكس الحضارة الغربية التي تسيطر عليها المادية، ولا تؤمن بالآخرة، وإنما تؤمن بهذه الدنيا لا غير.

 زياراته إلى الدول التي شاهد فيها معالم الإسلام:

 أما فيما يخص تعاليم الدين فقد بدأ دوباسكيي يتعمق في قراءة تعاليم الدين الإسلامي، وكان يزداد قرباً والتصاقاً به يوماً بعد يوم من خلال زياراته إلى الدول الإسلامية التي شاهد فيها معالم الإسلام، واكتشف خلال تلك الزيارات خلو هذه المجتمعات المسلمة من الأزمات الأخلاقية التي تغزو الغرب، حيث الانحلال والفساد والخمر ولحم الخنزير، تلك الحياة التي تدفع بالكثيرين إلى الانتحار والهروب من مآسيها بعد تعاطيهم المخدرات وشعورهم اليقيني بعدم قيمة الحياة، وبعد رحلات متواصلة للدول الإسلامية أيقن بأن الإسلام يبسط السكينة في النفس، وأن الحضارة الغربية بماديتها تقود أصحابها إلى اليأس كونهم لا يؤمنون بأي شيء. وفي تلك الأثناء أعلن إسلامه بعد فترة طويلة من التمعن والتمحيص في هذا الدين الذي أدركه وأدرك سنوات حياته الطويلة التي عاشها في الظلمات، ووجد بالتالي إجابات شافية لأسئلته التي طرق معها أبواب الديانات المختلفة قبل أن يجد لها الدين الإسلامي الإجابات الشافية والكافية. 

 الخروج من مرحلة الدعوة السرية الى العلنية:

 عن تلك الفترة يقول دوباسكيي:” لقد أحسست منذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها الإسلام ونطقت فيها بالشهادتين بأن داخلي قد شع بالنور الأبيض الفاتن بعد أن استوقفني الظلام لسنوات عديدة، أحسست بأن الفراغ الكبير الذي سكنني قد امتلأ للتو، وأخذت أشعر بأن من واجبي أن أخرج هذا النور إلى العلن والى الآخرين الذين سكنوا ويسكنون غياهب الظلمات، وعدت سريعاً إلى موطني سويسرا وأخذت بإعلان إسلامي للجميع لأنه لم يكن هناك مبرر لإخفائه وبدأت بنشر العديد من المقالات عن الإسلام وسماحته وعدله وحريته بغية تغيير الصورة التي رسمها الغرب حول هذا الدين وغرسها في عقول الشباب، وكانت أولى لقاءاتي مع صحيفة «جورنال دي جنيف» وصحيفة «قازيت دي لوزان» السويسرية التي عمدت إلى نشر حوارات طويلة ونشر بعض المختصرات من الكتب التي تتناول موضوعات إسلامية أو شخصيات مهمة أعلنت إسلامها، بل إنني أخذت بجل كتاباتي أدافع عن قضايا الإسلام والمسلمين لأمهد الطريق للآخرين للاتجاه إلى هذا الإسلام والدخول فيه أفواجا، ولا سيما أن الإسلام يقدم حلولا لمشاكل كثيرة وصل الناس معها إلى طريق مسدود، في حين فتح الإسلام لها أبوابا كثيرة. ويقول: لقد تأثرت بالقرآن الكريم كثيرا عندما بدأت أدرسه، وتعلمت وحفظت بعض آياته، وقد استوقفني كثيراً الآية الكريمة: « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ »   أل عمران (85)، وقوله تعالى: « لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » البقرة (256)، حينها لم أجد غضاضة في إعلان إسلامي على الملأ، وقد قرأت أيضاً السنة النبوية الشريفة، وتأثرت بما فيها من حكم وبيان دقيقن و بمساهمات علماء أمثال جارنا العلامة محمود بوزوزو إمام المسجد الكبير بجنيف.

 السر الكبير عندما سُئل دوباسكيي عن السر الذي جذبه نحو الإسلام؟ قال:” الذي جذبني إلى الإسلام هو شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، فقد اكتشفت أن الإسلام دين متكامل، وكل شيء فيه مرتبط بالقرآن والسنة، وفي اعتقادي أن الإنسان يمكن أن يتأمل هذه الشهادة طيلة الحياة. الشهادة تقول لا إله إلا الله، وهذا يعني أنه ليس هناك حقيقة نهائية ودائمة سوى الله. أما الفلسفة الحديثة، فتقول إنه ليس هناك حقيقة سوى هذه الدنيا، وقد دهشت لأن الإسلام يعبر عن الحقيقة التي تناساها العلم والفلسفة الحديثة.”

Exit mobile version