الدكتور الطيب برغوث

” إذا كانت الحرية مهددة فلا قيمة للحياة “!

كلمة من ذهب: هذه كلمة قالها الشيخ راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي اليوم 26 جويلية 2021، وهو يعلق على منعه من دخول مقر البرلمان! ينبغي أن تكتب بمداد من نور، وتدرج في طليعة القيم العليا التي يجب أن تتعلمها الأجيال في البيوت والمدارس والجامعات والجمعيات والأحزاب، وكل مؤسسات الدولة والمجتمع، وأن تتحوّل إلى ثقافة اجتماعية عامة سارية في كل شرايين المجتمع، لتمده بأكسجين الحياة، وتنقي أجواءه من غازات ثاني أكسيد الاستبداد والدونية والحقارة، الملوِّث للحياة، والمهدد لها، والسالب للكرامة الإنسانية، والمعطِّل لحيوية المجتمعات والمميت لها.

الحرية والحياة:

فالحرية بما هي تخلص من الخوف والمذلة والكبت والنفاق الاجتماعي، وشعور عميق بالكرامة الآدمية، واستعداد لتحمل المسئولية تجاه الله تعالى، والنفس والمجتمع والطبيعة والكون عامة، والتضحية حتى بالنفس من أجل ذلك، إذا دعت الضرورة إلى ذلك، هي الأصل الأول الذي تقوم عليه الحياة الإنسانية، فإذا تعطل هذا الأصل تعطلت حياة الإنسان، حتى وإن استمرت في شكلها البيولوجي الحيواني، لأن الإنسان يفارق الحيوان بقدر ما تترقى إنسانيته، وهي لا تترقى إلا بمقدار ما يتاح له من حرية واحترام لكرامته الإنسانية أولا، وما يتاح له من معرفة وثقافة سننية شاملة تحقق له هذا الترقي في مدارج الإنسانية بشكل متوازن ثانيا.

الحرية أم الأولويات:

ولهذا فإن أعظم قضية وأولوية في حياة الفرد والمجتمع في كل زمان ومكان، هي قضية الحرية وما يرتبط بها من معرفة وثقافة سننية شاملة تشترط تحقيقها وتأمينها فعليا. ولذلك يعتبر المساس بحرية الأفراد والمجتمع وبمعرفتها وثقافتها وشروطها، مساس مباشر بإنسانية الإنسان وكرامته ووجوده الإنساني، وتهديد مباشر لحرية المجتمع وانسجامه وقوته وشروط نهضته الحضارية، يجب على الجميع التصدي له وحماية المجتمع من مخاطره المهلكة قبل فوات الأوان، وتمكن جراثيم الاستبداد والدونية والحقارة من الاستفحال في نفسية الإنسان وثقافة الدولة والمجتمع.

اسمعوا ماذا قال الإمام عبد الحميد بن باديس

وما أروع وأبلغ ما قاله الإمام عبد الحميد بن باديس وهو يتحدث عن قيمة الحرية ومكانتها في حياة الأفراد والدول والمجتمعات ويقول: ” فحق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية. والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله الرسل، وما شرع لهم الشرع إلا ليحيوا أحرارا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية “.

هل انقلبت تونس على نفسها:

تداعت إلى ذهني هذه الخواطر وأنا أتلقى أخبار الانقلاب الذي حدث في تونس الشقيقة، لإطفاء ما بقي من نور ثورتها الخافت، وإسدال ستائر الظلام مرة أخرى على المنطقة، من قبل القوى الظلامية التي استمرأت العيش في دهاليز الفساد المظلمة، حتى أصبح ذلك جزءا من نفسيتها وطبيعتها وسلوكها، وترى في نور الحرية والشفافية والمراقبة والمحاسبة، وتكافئ الفرص بين المواطنين، وتساوي الناس أمام القانون والعدالة.. خطرا عليها وعلى مصالحها المكتسبة في ظلمات الاستبداد والفساد والمظالم الاجتماعية التي لا حدود لها!

خطورة نفسية العبيد:

وقد ذكرتني هذه النفسية، وهذه العقلية، وهذه الطبيعة، وهذه السلوكية المنتكسة، ببعض المجموعات البشرية التي عاشت دهورا في ظل الاستبداد والقهر والحقرة والمهانة.. كيف رفضت الخروج من حالة الاستعباد والاستذلال والاستخفاف.. لما حاول بعض الساسة أو المحسنين تحريرها من نير العبودية المهينة، وفضلت العودة إلى أحضان الاستعباد والاستذلال والمهانة!

الأسئلة الكبرى التي تواجهنا:

والسؤال الكبير هنا هو: هل قدر لبعض الناس في هذه المنطقة من العالم أن يعشقوا الظلام والظلاميين، ويستمرئوا العيش في العفن السياسي بهذا الشكل الغريب؟ ما سر هذه الانتكاسة لقيم الحرية والكرامة في حياة بعض الناس، واستمرائهم للعيش في بيئات العفن والمهانة؟ لماذا يقاوم بعض الناس في منطقتنا العربية نسمات الحرية والكرامة الإنسانية؟ ويصطفون مع جلاديهم وممتهنيهم ومذليهم ومسببي تعاستهم، ومجهضي أحلامهم وأحلام مجتمعاتهم؟ ما سر هذه المازوشية التي يتميز بها بعض الناس الذين يستعذبون المهانة ويستمتعون بها؟ لماذا يرفض بعض الناس الحرية والكرامة لهم ولمجتمعاتهم؟ كيف يمكن معالجة هذه المازوشية المهينة، وتمكين الإنسان من استعادة حريته وكرامته وعزته وإنسانيته؟..

أسئلة كثيرة خطيرة في حاجة إلى طرح ومواجهة حقيقية، بعد هذا التيه المزمن الذي غير كثيرا في التفكير والطبائع والنفسيات والأخلاق والسلوك.. ودفع بنا في دوامات التيه والتفاهة والمهانة، بالرغم من شعارات الحداثة والعصرنة والأصالة والتنمية والنهضة.. التي ترفع منذ عقود طويلة في العالم العربي، ولكنها كانت كلها سرابا وخداعا للنفس قبل خداع الآخرين، كما تؤكد ذلك هذه المازوشية المزمنة التي تقف في وجه كل نقطة ضوء، وتجهز عليها وتطفؤها لتحافظ على استمرارية الظلام والظلامية مع الأسف الشديد!

مسئولية المنظورات السننية الجزئية المتنافرة:

أترك الإجابة لكل من يعنيه وأمر واقعه ومستقبله ومصيره، وواقع ومستقبل ومصير أبنائه وأجيال المجتمع والأمة عامة. وأكتفي بالقول بأن الأمر له علاقة جذرية بطبيعة المنظورات السننية الجزئية التي تحكم تفكير كل واحد منا وتصوره وحياته وعلاقاته، وما تنتجه لنا هذه التصورات من معرفة وثقافة سننية جزئية متنافرة، تخرج لنا إنسانا مزدوج الشخصية، متنافر الملكات، مهتلك الفعالية الذاتية والاجتماعية، لديه القابلية للمزوشية المذلة والمهينة، أو السادية المهلكة للحرث والنسل.

سفينة منظور السننية الشاملة:

كما أكتفي بالقول كذلك بأن منظور السننية الشاملة، الذي يتيح لنا شروط وإمكانات البناء المتكامل والمتوازن للشخصية الإنسانية، وللعلاقات الاجتماعية المنسجمة، وللدولة والمجتمع.. هو وحده القادر على تمكيننا من الإجابات الصحيحة الموضوعية الشاملة عن كل هذه الأسئلة الكبرى، والأخذ بأيدينا نحو طريق الخروج من دوامات التفاهة والمازوشية والمذلة والمهانة التي تدفعنا إليها المنظورات السننية الجزئية المتنافرة، وتطبع تفكيرنا وشخصيتنا وحياتنا وعلاقاتنا بها.

الاستبداد والسادية لا اصدقاء لهما:

ولعل من الوعي السنني الذي يجب التسلح به هنا، هو ان الاستبداد كائن سادي لا مشاعر ولا أخلاق ولا اصدقاء له، فهو يطبق نظرية او قاعدة ” استعمل وارم “. ولذلك على الجميع تذكر قاعدة ” أكلت يوم اكل الثور الأبيض” في كل علاقة بالاستبداد او قرب منه، والحرص على البعد عنه وعدم التوريد في التمكين له باي حال من الأحوال.

” وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”[الأنعام : 153]

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version