دراسة يدعو فيها مؤلفها، لخوض: ” المعركة الحقيقية الاستراتيجية” التي يجب أن تتركز عليها جهود  الجميع، النخبة الوطنية والإسلامية والإنسانية عامة.

محمد مصطفى حابس: جينيف/ سويسرا

أثريت المكتبة العربية هذه الأيام بإصدارات جديدة نفيسة للشيخ الدكتور الطيب برغوث، المفكر الجزائري المعروف والأستاذ الأسبق في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، الذي ألف أكثر من 50 كتابًا، صدر بعضها في إطار “سلسلة مفاتيح الدعوة” التي رأت النور في أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وتتلمذت عليها أجيال واسعة من نخبة الصحوة في المجتمع الجزائري خصوصًا والمغاربي عمومًا. 

وضمن سلسلة ” آفاق في الوعي السنني”، التي كتبت عنها دراسة مطولة منذ 4 سنوات خلت، في جويلية 2017، تحت عنوان “قراءة عابر في أفكار واعدة”، صدر للمفكر الجزائري حديثا عن دار النعمان الجزائرية كتابه الجديد (رقم 11)، فيما يقرب من 235 صفحة من الحجم المتوسط، بعنوان “حركة المدافعة الاجتماعية والاحتياطي الاستراتيجي للتغيير“. موضوع الدراسة غاية في الأهمية ومواكب للوضع العام الجزائري والعربي في العقود الاخيرة، وفي مستهل مقدمة الكتاب يقول المؤلف، أن هذه الرسالة كان قد أعدها للطباعة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، ولكن ظروفا خاصة تتعلق بضيق سقف الحرية الفكرية من ناحية، وبالجهل بالقيمة الخاصة للثروة الفكرية في مجتمعنا من ناحية أخرى، حرمتها من التمتع بحقها في الميلاد الطبيعي في وقتها، فتأخر ميلادها فترة طويلة كادت تحرمها من هذا الحق نهائيا، ولكن الله تعالى شاءت إراداته الحكيمة أن تولد في ظرف تاريخي خاص، يشهد فيه المجتمع كله ميلادا جديدا، تُفسح فيه للحريات والحقوق والمسئوليات والمبادرات.. مساحات أوسع، تستوعب كل مظاهر وأشكال التنوع والحيوية والمبادرة الإيجابية الخصبة، التي تتفتق عنها عبقرية المجتمع وطموحاته في النهضة والمكانة الحضارية اللائقة به.

مبينا أن “الحراك” أو ما اصطلح عليه الكاتب بـ”الهبة الوطنية العظيمة ” التي انطلقت في 22 أبريل 2019، شكلت مرحلة تاريخية جديدة في حركة المجتمع الجزائري نحو نهضته الحضارية، مفارقة تماما لمرحلة التيه والغيبوبة الفكرية والنفسية التي كان يعيش فيها قبل ذلك، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة من مسيرته، التي أهدر فيها الكثير من إمكانات وفرص وشروط نهضته الحضارية.

مبينا أن “هذه الهبة الوطنية العظيمة، إذا لم تتم خيانتها، ولم يتم اغتيالها، ولم يتم الاعتداء على قدسيتها، ولم يتم حقنها بفيروسات التخلف ومبيدات النهضة، من قبل أصحاب المصالح الخاصة، وذوي الآفاق الضيقة، والأولويات المغلوطة، فإنها ستدخِل المجتمع الجزائري مرحلةً جديدة من مسيرة نهضته الحضارية المأمولة”. راجيا من هذه الهبة الوطنية العظيمة، أن تحررنا من الخوف والتخويف والعنف والحقرة والعصبية والجهوية والأنانية والاتكالية، والتمييز والدونية والتملق والانتهازية والاستغوال، وتكرِّس- هذه الهبة- في نفوسنا قدسية أداء الواجبات، وقيمة الفروض الكفائية، وضرورة إتقان الأعمال، واحترام الآخرين، وتقدير الخبرة والكفاءة والأمانة والرسالية، وتقديمها على ما عداها من مقاييس إسناد المسئوليات المهمة في الدولة والمجتمع.

ولعل موضوع هذه الرسالة المتواضعة – كما يصفها الكاتب- ينسجم تماما مع هذه الهبة الوطنية العظيمة، ويندرج في عمق الوعي السنني الذي ينبغي أن يتسلح به كل فرد في المجتمع، حتى يحمي هذه الهبة العظيمة من أية استغلالات سيئة، أو انقلابات على روحيتها وأخلاقيتها وقدسيتها ومكاسبها الاجتماعية، التي يجب على كل فرد في المجتمع أن يحميها، وأن يقدمها على ما عداها من المصالح الخاصة أو الجهوية أو الفئوية أو الظرفية المناقضة لها.

والكتاب من خلال هذه الدراسة، يهدف خصوصا إلى تسليط الضوء على معضلتين إنسانيتين كبيرتين وخطيرتين – وفق ما ورد في المقدمة- هما:

معضلة المواجهة أو المدافعة الثقافية والاجتماعية السلبية، التي تنهك المجتمعات وتعرِّض وجودها للخطر، وتحرمها من كثير من شروط نهضتها الحضارية المطلوبة.

ومعضلة استهلاك واستنزاف احتياطيها الاستراتيجي البشري النوعي الذي تتطلبه عملية مواجهة مضاعفات هذه المدافعة أو المواجهة الثقافية والاجتماعية السلبية المنهكو. 

فبالنسبة للمفكر الجزائري الدكتور برغوث، فإن المجتمعات التي لا تتمكن من تأسيس الوعي السنني المتكامل بهاتين المعضلتين، ولا تستطيع بناء ومراكمة خبرة معرفية وثقافية، وقدرات إنجازية عالية ومتجددة لإدارة هاذين المجالين بالكفاءة والفعالية والتكاملية المطلوبة، لا يمكنها أن تعبئ طاقاتها وتشحذ خبراتها، ولا تستطيع استجماع شروط نهضتها الحضارية، بل تكون عرضة لنزيف مستمر في طاقاتها وقدراتها من ناحية، وهدر وتضييعٍ للفرص التي تتاح لها من ناحية أخرى، ومضاعفةٍ لوتائر المديونية الحضارية التي تعمق ضعفها وغثائيتها وتبعيتها الحضارية من ناحية ثالثة، وتباعد بينها وبين أمل نهضتها الحضارية من ناحية رابعة. 

كما أوضح ذلك في مقدمة كتاب سابق له، بعنوان ” النهضة الحضارية ومعادلة الصحوة والنخبة والمنهج “، فإن الهبتين الاجتماعيتين الرئيستين في مسيرة المجتمع الجزائري المعاصر، وهما الثورة التحريرية الكبرى ( 1954 – 1962 )، والصحوة الروحية والأخلاقية والاجتماعية بعد الاستقلال ( 1962 – 1992 )، تسبب في التقليل من فعاليتهما الاجتماعية المرجوة، وحرَم المجتمع الجزائري من ثمراتهما وبركاتهما العظيمة، اضطرابُ وضعف الوعي بفقه المواجهة والمدافعة الحضارية لدى النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية من ناحية، والعجزُ عن بناء وتعظيم حجم الاحتياطي الاستراتيجي الفكري والبشري النوعي، وحمايته والمحافظة عليه، وحسن استثماره  من ناحية أخرى.

لقد أنهكت المواجهات والمدافعات الفكرية والنفسية والسياسية والاجتماعية السلبية المغلوطة، الكثير من مقدرات المجتمع، وأوهنت شبكة علاقاته الاجتماعية، وأضعفت إرادته الاجتماعية، وزيفت أولوياته الاجتماعية، وأضعفت طموحه الحضاري، وعرَّضت احتياطه الاستراتيجي الفكري والبشري النوعي للهدر والتبوير – من بار يبور بورا – ، وحرمته من استجماع شروط نهضته الحضارية، وضاعفت همومه ومشكلاته وتحدياته. وإذا لم نتغلب على هاتين المعضلتين، فإن ضعفنا سيتسمر ويتجذر، وتتضاعف أخطاره على حاضرنا ومستقبلنا، وسيطال ذلك هبَّتَنا الوطنية العظيمة، التي أكرمنا الله تعالى بها، لتصحح أوضاعنا، وتنقلنا من التنافرية  والإهتلاكية الثقافية والاجتماعية والحضارية المزمنة، إلى التكاملية الثقافية والاجتماعية والحضارية المطلوبة. 

ومن أجل المساهمة في مواجهة هاتين المعضلتين الخطيرتين، جاء هذا الكتاب الجديد ” حركة المدافعة الاجتماعية والاحتياطي الاستراتيجي للتغيير ” الذي تأخر صدوره حتى الآن، وقد كتب من وحي الإجهاض الذي تعرضت له مكاسب الهبَّتين الوطنيتين الكبيرتين المشار إليهما آنفا، منبها فيه إلى التحديات التي تواجهها حركات التغيير والإصلاح والتجديد الثقافي والاجتماعي والحضاري بصفة عامة، والشروط التي ينبغي توفيرها لإنجاز التغيير وحماية منجزاته، وضمان استمراريته التاريخية الطويلة المدى.

إن هذا الكتاب وإن تأخر صدوره كل هذه الفترة الطويلة – حسب رأي الكاتب- يأتي في وقته، لأن موضوعه أو فكرته الجوهرية تقع في عمق الوعي السنني الذي يجب أن يسود في أي مجتمع، لكي يدير حياته بطريقة صحيحة وفعالة ومتوازنة، ويواجه التحديات المحيطة به بشكل فعال ومجدي كذلك.

ولهذا فإن المطلوب منا جميعا كأفراد وكمجتمع وكأمة- حسب رأي الكاتب- ، هو العمل الجدي الدؤوب، على تأسيس الوعي بهذا المنظور، وعلى توسيع دائرة الوعي به، والحركة في الحياة على ضوء مقتضياته، من خلال إنتاج ونشر وتعميم المعرفة والثقافة السننية المرتكزة على هذا المنظور.

بحيث يرى الكاتب أن هذه هي” المعركة الحقيقية الاستراتيجية” التي يجب أن تتركز عليها جهود النخبة الوطنية والإسلامية والإنسانية عامة، وأن تكون في صدارة أولوياتها الدائمة، وأن تمنحها كل ما تستحقه من جهد وإمكانات، إذا أرادت فعلا أن تواجه تحديات وسلبيات معضلة المدافعة الاجتماعية، وتحافظ على نماء احتياطيها الاستراتيجي البشري النوعي. 

هذا ما ينبغي أن تنتبه إليه النخبة الفكرية والسياسية والاجتماعية الوطنية، وتمنحه ما يستحقه من الاهتمام، إذا أرادت للمجتمع أن يحقق نهضته الحضارية فعلا، وينتشل نفسه ومصيره من مستنقع الضعف والتخلف والتبعية الحضارية المذلة.

وفي الأخير ينبه المؤلف إلى أنه حرص على ترك الكتاب على ما هو عليه، ولم يغير فيه كثيرا، لاعتبارات عديدة منها أنه لا يملك الوقت الكافي لذلك من ناحية، وحفاظا على الهوية التاريخية للكتاب، المرتبطة بزمان ومكان وأوضاع خاصة بالكاتب وظروفه وأوضاعه ونظرته إلى الأمور في تلك الفترة…

والكتاب مقسم إلى أربعة فصول:

 تناول الفصل الأول منها تمهيدا في أهمية الوعي بخريطة المنظور السنني الكوني الشامل، الذي حرص الكاتب على وضعه في مقدمة كل كتاب من كتبه، لأهميته البالغة بالنسبة له، فهو يمثل خلاصة فكرية لما انتهت إليه تجربته وخبرته الفكرية، لذلك حرص أن يطلع عليه أكبر عدد ممكن من الناس.

وتناول الفصل الثاني ” الصحوة الحضارية ومعضلة المواجـهة الاهتلاكية المزمنة ” . ويتمحور حول بيان أهمية الصحوة الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية، باعتبارها شرطا أساسيا من شروط النهضة الحضارية لأي مجتمع من المجتمعات، وكيف يمكن لهذه الصحوة أن تتجاوز معضلة المواجهة الاجتماعية الذاتية أو الخارجة المنهكة، التي كثيرا ما تجهض هذه الصحوات وتحرم المجتمع من ثمراتها وبركاتها، بسبب عجزه عن الإدارة الجيدة لحركة تدافعه الذاتي أو الخارجي..

وتناول الفصل الثالث ” حركة التغيير وإشكالية الاحتياطي الاستراتيجي للتغيير “. وقد تمحور موضوع هذا الفصل حول فحص

إشكالية كبيرة في فقه التغيير، وهي كيفية المحافظة على الاحتياطي الاستراتيجي لحركة التغيير والاصلاح الاجتماعي، وفي مقدمته الاحتياطي البشري عامة والنوعي منه خاصة، باعتباره الشرط  الأساس في أية عملية تغييرية أو إصلاحية أو تجديدية ناجحة. 

وتناول الفصل الرابع ” ملاحق في الوعي بسنن المدافعة الاجتماعية “. وهي ثلاثة ملاحق مهمة، تدخل في صميم موضوع هذه الدراسة. وقد أخذ الكاتب الملحقين الأولين من مقدمة ابن خلدون الأول منهما يتحدث عن كون ” الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم”، لأن الدين وحده كمنظور كوني وإستراتيجية للحياة، لا يؤثر في الحياة وحده، بل لا بد له من قوى اجتماعية تؤمن به وتجسده في واقع الحياة، وتحميه وتحافظ على منجزاته. 

والثاني عن كون ” الظلم مؤذن بخراب العمران “، حيث حلل فيه ابن خلدون معضلة الظلم الاجتماعي وبين تأثيراته السلبية الخطيرة على حركة المجتمعات.

والملحق الثالث، بعنوان ” أصول الولاية في الإسلام ” وقد أخذه المؤلف من تراث الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي استطاع أن يستخرج ثلاثة عشرة أصلا دستوريا أساسيا من خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تحتاج إليها كل سياسة راشدة لإدارة الدولة والمجتمع بالكفاءة والعدالة والرشادة المطلوبة. 

وقد أضاف المفكر الجزائري إلى هذه الأصول سبعة أصول أخرى، كما اجتهد في وضع عناوين فرعية على شكل قواعد عامة، استخرجها من النصوص الثلاثة، ترغيبا في قراءتها، وتثبيتا لزبدة ما ورد فيها. وختم الكتاب بمستخلصات في شكل قواعد عامة تلخص الكثير من شروط بناء وعي متكامل بمعضلة المدافعة الاجتماعية والاحتياطي الاستراتيجي البشري النوعي الذي تحتاج إليه عملية التغيير والإصلاح بشكل مستمر.

الكتاب متوفر لدى الناشر، دار النعمان/ برج الكيفان (العاصمة)، وموزعيه عبر التراب الوطني، وكذا مكاتب “أكاديمية المعرفة والثقافة السننية” بالعاصمة.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version