أول ما يتبادر إلى الذهن عند المرور بكلمة القراصنة في سياقها التاريخي هو لصوص البحر. لكن في ذات السياق، يعني التاريخي، أجمع المؤرخون أنّ هذا الوصف ينطبق على مغامرين، من أجل أعمال نهبهم وسلبهم، فضّلوا امتطاء صهوة البحر الهائج على نصب الكمائن في البريّة فوق سطح يابسةٍ مستوٍ. فلا أُطر تحدد فعل اللُّصوصية هذا ولا قوانين تحكمه.

أما الصنف الثاني فمُنتسبوه لصوص بأوراق رسمية، تُسلّمها لهم الحكومات وتعتبرهم جنودًا أحرارا، وظيفتهم تندرج ضمن الحروب البحرية، الهدف منها ضرب اقتصاد العدو أساسا، وذلك بالاستيلاء على صادراته ووارداته. بذلك يُصبح النشاط هنا مُؤطّرا وتحكمه قوانين وأعراف دولية. من بين الأعراف مثلا نجد أن أسرى المعارك يتم سبيهم كعبيد، لتُكّبل أرجلهم ويقتصر عملهم غالبا على التّجديف في سُفن العدو في حال لم يتمّ بيعهم في سوق النّخاسة.

مع نهاية القرن الخامس عشر، الموافق لسقوط الأندلس، وبداية القرن السادس عشر كان حوض البحر المتوسط إحدى أهم مدراس القرصنة وبالأخص النظامية منها، إذ اعتمدتها دول عديدة في إطار حروبها البحرية. أبرز هذه الدول إسبانيا التي كانت حينها أكبر الإمبراطوريات لتُرسل سُفنها غربا نحو العالم الجديد تُبيد أهله وتجلب ذهبه، وشرقا إلى وسط شمال أفريقيا تحتل مدنها الساحلية وتطارد الأندلسيين الفارين بحياتهم ومعتقداتهم في إطار حملات صليبية في المقام الأول. ليُقابلها بذلك ما سُمّي بالقرصنة الإسلامية تحت إمرة الإمبراطورية العثمانية، أشهر قباطنتها الأخوين بربروس، وهُما أندلسيي الأخوال تُركيّي الأعمام غالبا، يونانيي المولد قطعا. اللذان ركّزا معظم جهودهما على إغاثة الأندلسيين وتحرير أهم المدن الساحلية في وسط الشمال الأفريقي. بالإضافة إلى ذلك لمّ شتات الإمارات المتفرقة، ليكون لهما بذلك شرف وضع اللبنات الأولى لتأسيس الدولة الجزائرية الحديثة.

أمّا فرنسا فقد جهّزت نفسها كما ينبغي في هذا المضمار، وصرّحت علنا أنّ حُب المغامرة الذي هو من طباعها ينطبق تماما مع غزوات القرصنة (*). ومن المُؤكد أنّ ما لم تُصرّح به للعلن، وإنّما استخلصناه ضمنيا من تاريخها الملطّخ بدماء الشعوب، هو حُبّها حدّ الهوس للأصفر اللامع من الذهب وجميع ثمين المعادن. فلم تكفها كنوز البحر وغزواته، لترسو على شواطئه والنهب بداية من قصبة الجزائر، لتمرّ بكل التضاريس جنوبها، حتى بلوغ كثبان الرمل، لتصل إلى أواسط القارة الأفريقية. واليوم، بعد الاستقلال العسكري لمعظم الشعوب، وإن بقيت دائما تحت تصرفها السياسي، ففرنسا لا طاقة لها بتاتا على التخلص من هَواها القديم. لتحطّ رحال عسكرها مجدّدا على الساحل الأفريقي. وإن كانت هذه المرة تحت غطاء أُمميّ، عنوانه محاربة الإرهاب، الذي أصبح، على ما يبدو، المرادف لغزوات القرصنة في عصرنا هذا!

بما أن الفعل نفسه والفاعل كذلك، وإن تغيّر الزمن، يتوقف الإنسان هنيهة ليتساءل عمّن سيحِل محلّ من كانوا مُجدّفين في السفن بالأمس؟ وماذا ستكون وظيفتهم الفعلية اليوم؟! لتكون الإجابة على هذا السؤال مربط الفرس.. فأمثال أولئك اللصوص الغُزاة يحبون دائما بذل أقل التكاليف، للحصول على أكبر قدر من الغنائم. وبالنسبة لهم أمر كهذا جدّ بسيط!! فمن روّضتهم وعيّنتهم من حُكام وقادة جيوش على رأس مستعمراتها القديمة تعلم يقينا أنّهم لن يرفضوا لها طلبا، وسيبذلون قُصارى جهدهم من أجل إرضائها، وإن خالف ذلك رغبة شعوبهم.

للأسف الشديد وقع الاختيار مُسبقا على بُسطاء الشعوب ممّن ظنّوا أنّهم جَنّدوا أنفسهم لحماية حدود أوطانهم من كلّ غازٍ.. ليُراد وضعهم تحت إمرة الغازي نفسه(!) وذلك بإرسالهم إلى أراضٍ مُجاورة قاتلين أهلها جُورا، وهم إخوانهم، بأوامر من الغازي؛ أو مقتولين من طرف أصحاب الأرض هوانا. في نهاية المطاف لا موت هؤلاء الجنود من أجل العدو القديم شرف لهم ولا انتصارهم له بطولة!! إنْ تمّ هذا الأمر فعلا، لا قدّر الله، ونفّذ الغزاة مُخطّطاتهم، فبدل المصيبة الواحدة على الجزائر خصوصا سيكون هنالك اثنتين. أولاهما خطورة الأمر على كيان الدولة التي تعيش مخاضا، يُحاول شعبها من خلاله طرد المُستبدّين وإصلاح ما أمكن من عبثهم؛ وذلك بتثبيت قواعد وأسس دولة تضمن العيش الكريم لمواطنيها. أمّا ثانيهما، هو حكم التاريخ على هذه الأمة التي طالما عانى شعبها الأبيّ من ثغرات أزمة القادة العملاء. فإن كانت مجالس سمر المؤرّخين في رحاب كتب التاريخ لم ترحم من كانوا بالأمس شُجعانا مُغامرين، أُسروا في المعارك بعد صراع مُستميت لِيسمّوا بعد ذلك عبيدا وينتهي بهم المطاف مُجدّفين في سفن العدو؛ فأيّ وصف سيُجمع عليه المؤرّخون في مجالسهم القادمة لهؤلاء الجنود، الذين لن يرقوا بالتّأكيد لمصاف العبيد، وهم الذين يودّ قادتهم تسليمهم للعدو بأيديهم، وفوق ذلك يوصونهم كالأطفال بطاعته والامتثال لجميع أوامره!

لذلك، تجنّبا لكل مآل غير محمود، نستخلص أنّ الحلّ يبقى في يد من سيكونون أول الضحايا وهم بسطاء الجنود. لعل بساطة رتبهم لن تحجب عنهم سلامة عقولهم، على عكس المُتعنّتين من قادتهم الذين حجب هيلمان رُتبهم التي تُثقل أكتافهم ونياشينهم المتدلية على صدورهم عنهم كل فكر سليم ورأي سديد.

27 جوان 2021

(*) أحمد توفيق المدني: حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا 1492–1792

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version