يعيب علينا بعض الأفاضل، “سذاجتنا”، فيما يعتبرونه تزلفا وانبطاحا أمام “أشخاص” لا يرضون بأقل من القضاء علينا، ومحقنا من شدة كرههم لنا ولكل ما ندعو إليه من قيم ومبادئ وتوّجه، ويقصدون بذلك، كراهية وعذاء متطرفي العلمانيين والبربريست لرشاد.

يؤاخذنا هؤلاء الإخوة، على ما يرونه تمادينا على هذا الطريق، رغم ما يبوح به المتطرفون العلمانيون من عداء واستعداء شرس اتجاهنا، وعدم اتعاظنا بمرار التجربة، ويعاتبوننا على “عدم اغتنام الفرصة”، بعد الاطاحة ببوتفليقة وشقيقه وتوفيق وكل الشلة، واعتلاء قايد صالح الحكم، للقضاء على الأعداء في الدولة العميقة التوفيقية، باعتبار أن سُلم الأولويات، كان يقتضي “تأجيل” مناكفة دولة قايد صالح العسكرية إلى حين، بل ويُحمّلوننا المسؤولية الكاملة على…عودة دولة توفيق، ويعتبرون أن موقفنا كان مجانبا للصواب حتى وإن كان بنية حسنة… ويؤاخذوننا على اشياء اخرى متعددة. بناء على يقيني من صدق وحرص المعاتب (مُعظم من أعرف) على سلامة الجزائر اولا وقبل كل شيء، أرى من واجبي الرد وتوضيح ما التبس على المعاتب، واختلط على المؤاخذ.

أولا لم نكن نجهل أو نغفل، أننا سنُستهدف من كل جانب، وحتى من أطراف تبدو متناحرة، عندما اخترنا هذا الطريق المحفوف بالمخاطر ومصدر للتهم، والدليل اننا اتُهمنا في نفس الوقت، من طراف السلطة والمعارضة، من جهة بأننا نوالي العلمانيين وأننا ضد ثوابت الأمة، ومن جهة أخرى، أننا متطرفين إرهابيين دواعش. ولم نسلم لا من مناصري دولة قايد صالح، ولا من أتباع دولة توفيق، بما يؤشر، أن مركز التهم واحد، يوعز للطرفين لائحة التهم، وقد انضم إليهم حتى الذين زعموا النضال من أجل دولة مدنية، وتبين مع الأيام أنهم عارضوا العسكر فقط في عهد قايد صالح (لأسباب أيديولوجية عرقية نتنة)، وباركوه في عهد شنقريحة كما باركوه في عهد العماريين وتواتي وتوفيق وغزيل وقنايزية. في الواقع لم نتفاجأ بمختلف هذه الهجمات، كنا نعلمها ونتوقعها، بل أكدت لنا هذه التهم “المتضاربة” أننا نسير على الطريق السوي الذي سطرناه في تناولنا مشكلة البلاد، وأننا لم تخطئ في تحديد مكمن الداء الحقيقي، ورفض السير على الطريق الذي يراد دفعنا إليه.

وكنا ندرك أن شراسة التهجم علينا، لا علاقة له بظاهر التهم الملفقة ضدنا، فهذه تهم لا يؤمن بها حتى أصحابها، بل يعود التهجم لإدراك أصحابه، أننا لم نقع في شراكهم والفخ الذي نصبوه للأمة، من أجل حرف مسار الصراع، وتغليفه برداء عرقي أيديولوجي، للنفخ في حرب قذرة تهدد بتمزيق المجتمع وخلق استقطاب مدمر، ينقل المعركة من ساحة الشرعية السياسة لبناء دولة مدنية، إلى حرب عرقية أيديولوجية، الرابح الوحيد فيها هو من يدفع باتجاهها، تماما كما عسكروا الصراع السياسي في التسعينات، وزجوا بالبلاد في حرب قذرة، راح ضحيتها ربع مليون جزائري وجزائرية.

عدم وقوع رشاد وغيرها في هذا الفخ الإجرامي أفقد الساسة صوابهم وكشف حيلهم، وعرى سوأتهم، لأنه أبقى المعركة في إطارها الأصلي، الذي أخرج الشعب ذات 22 فبراير 2019. كان الغرض من المناورين تكريس استقطابين أساسيين، لإظهار من جهة أن المنتفضين هم من المقابل فحسب، وعزلهم عن باقي إخوانهم، ومن جهة ثانية التسويق، من خلال استغلال عناصر لا تزال رهينة عقلية استئصالية عقيمة، أن الصراع والشرخ أيديولوجي في الأساس، لاستدامة معارك التسعينات، خاصة وأن منظومة الحكم تدرك أن هذه الحروب، تشكل اسمنت شرعية بقائها الوحيد، بحيث تجعل “الوطنيين” يعتقدون أن “الدولة النوفمبرية” تحميهم من الغول العلماني والبربريست، بينما يرتمي الاستئصاليون من علمانيين وبربريست في أحضان دولة توفيق حتى وإن اضطروا إخراج العماريين من قبريهما، لحمايتهم من بعبع “ّالخلافة الإسلامية”، وقد خابت أحلام كل هذه الأطراف بعد أن أفشل الأحرار مكائدهم، وبيّنوا لهم بوعي راقي، أن لا القبائل أعداء للعرب ولا هم مواليين بالضرورة للاستئصال، وأن هذه الأقلية المنسلخة عن قيم بلدها، والمنفوخ فيها عن قصد، لا تمثل اغلبية القبال الأشاوس، بل هي منبوذة أصلا داخل معاقلها، كما أن “الإسلاميين” لا يشكلون كتلة واحدة متجانسة، نجد منهم من يقدس الحاكم ويحرم الخروج عليه ومنهم من يسترزق في حانوت النظام منذ 30 سنة، ومن يشد العصا من الوسط في انتظار ميل الكفة، ليحدد موقفه، ونجد أيضا أغلبية، تؤمن بأن المواطنة في إطار دولة العدل والقانون تكفل حقوق الجميع، دون إقصاء أو تفاضل.

كان واضحا أن غرض مختلف المتربصين بالحراك، هو زرع الشكوك ونشر تهمة التخوين، لتنفير الجميع من هبة الشعب، للدفع بطرف إلى ترك الحراك، بدعوى أنه مخترق من البربريست والعلمانيين، وتهجير آخر، بزعم أنه موظف من طرف الإسلاميين الدواعش، والنتيجة، إفراغه كليا، بما يخدم مخطط من يريد استدامة الوضع الراهن وبقاء المنظومة برمتها. لكن، هذه الخديعة لم تنطل على الأحرار، فأفشلوا المسعى، ورفضوا جريمة التعميم، التي توهم أن كل قبائلي يساوي بربريست علماني متطرف حاقد على باقي جهات الوطن الأخرى، ويوحي على الجانب الآخر، بأن كل عربي، يساوي إسلامي داعشي كاره للقبائل، ومن هنا جاءت قضية رفع الراية الأمازيغية، بمثابة قميص عثمان، تم توظيفها من الطرفين، كلٌ لتحقيق هدفه الخاص، فريق قايد صالح لاستمالة العرب والنفخ في المشاعر الوطنية الإسلامية، ومن جانب البربيريست للعب على الوتر الثقافي العرقي، لتمرير رسالة العداء للعرب والمسلمين. وتفطنت الأغلبية من المواطنين، من كل الجهات، وأدركوا جيدا الفرق بين من يرفع هذه الراية بصفتها رمزا لبعد ثقافي، دون أن يتنكر أصحابها للراية الوطنية الجامعة بين كافة الجزائريين، وبين الانفصاليين الذين يعتبرون أنفسهم خارج الحيز الوطني، والمطالبين باستقلال منطقة القبائل عن الجزائر.

وكان لافتا ذلك التذمر الكبير والحنق، وسط أبواق السلطة واستئصاليي البربريست، من تواجد رشاد وغيرها من أحرار الجزائر، في منطقة القبائل الصغرى والكبرى، بما أفشل مساعي المناورين الرامية إلى عزل منطقة بكاملها من الوطن، كوسيلة لتقسيم الشعب، وترويج الانطباع بأن هذه المنطقة خارج التراب الوطني الجزائري، وإظهار وجود رشاد كأنه “غير شرعي” وخارج حيزها الإقليمي “الطبيعي”.

أطمئِن إخواننا، لم نكن سذج ولم ننبطح، ولم نتزلف للمتربصين، ولم نكن نجهل هذا العداء المستشري من بعض البربريست المتطرفين، لم نكن نجهل كل ذلك، لسبب بسيط، وهو أن معظم قيادات رشاد والمسؤولين فيها، يعلمون بحكم الممارسة والاحتكاك والمعارك الفكرية الثقافية التي خاضوها مع عتاة البربريسيت المتطرفين، منذ عشرات السنين، طرق تفكيرهم ووسائلهم، ولا يجهلون دوفع كرههم للإسلام بالأساس، وهذه المعرفة الميدانية، هي التي جعلتنا نمتلك أدوات وسلاح المعركة، ونعلم حقيقتها، بما جنبنا الوقوع في شراكهم، الذي أرادوا من خلاله تحميل غالبية إخواننا القبائل، وزر صنيع هذه الأقلية والجهات التي تعمل لحسابها، وهذه التجربة الميدانية هي التي مكنتنا من تفكيك آلياتهم، وكشف زيف وخطورة التعميم الذي أرادوا نشره لتعميق الاستقطاب والعداء المتبادل.

معظم من يتهم رشاد ويتهم معارضي دولة قايد صالح، لم يحصلوا في نهاية المطاف سوى على تغيير في الشكل لم يدم طويلا، “دولة” بنكهة وطنية نوفمبرية، ترفع لواء محاربة منظومة توفيق، ما لبث أن تبيّن أنها لا تختلف عن سابقتها في شيء، بل تشكل امتدادا لها وعمقها الأصلي، وإلا كيف نسمي فرض قايد صالح انتخاب تبون (أحد أتباع بوتفليقة طيلة 20 سنة) رئيسا في ظل برلمان ومجلس أمة ومجلس دستوري (صنيعة نظام بوتفليقة) وقوانين دولة توفيق، بإدارتها ومؤسساتها وقضائها وكل أجهزتها. “التغيير” الذي حصل في عهد قايد صالح كان داخل المنظومة وليس تغيرا للمنظومة. لم يخرج المواطنون يوم 22 فبراير لمثل هذا المسخ، ولهذا استمروا في نضالهم أشهر بكاملها، وفضلوا مواصلة المعركة، على مرارتها ومشقتها، بدلا من الركون إلى مخادعة تبيّن زيفها. وهل يعتقد عاقلٌ أن قيادة “وطنية” تنتقي مرشحين، أمثال تبون وبن قرينة وميهوبي وغيرهم من النطحة وما أكل السبع من مفسدي منظومة بوتفليقة، لرئاسة دولة الجزائر الجديدة، هل هذا بديلُ يستحق التضحية من أجله، ويستجيب لمطالب الحراك بالتغيير الجدري؟ بالنسبة لنا، لم نكن لنرضى استبدال واجهة يناريية بأخرى نوفمبرية، ولم يكن الرفض من منطلق غياب الواقعية ورفض التدرج في التغيير، بل كان نابعا من قناعتنا أن المسار لا بد أولا أن يكون على الطريق الصحيح، حتى ولو تطلب وقتا وتضحيات، وليس جريا وراء السراب، فلا مناص من مواصلة النضال لاقتلاع جذور المرض حتى وإن استمرت المعركة سنين، بدلا من أن نستفيق بعد حين، على كابوس نسخة مستنسخة من المنظومة التي يُفترض أننا خرجنا لاقتلاعها.

تعليق واحد

  1. al Moghraby بتاريخ

    على بركة الله تعالى و توفيقه , إعادة إنطلاق الحراك الشعبي الجزائري هذه المرة سيكون بإذن الله تعالى ناجحاً و سيقتلع بقايا “دولة كابرانات العسكر القديمة” من جذورها.
    -الصبر و المواظبة و الإيمان بالله تعالى و أنه سينصر المظلومين في آخر المطاف.
    تحياتي للكاتب رشيد زياني شريف.

Exit mobile version