ها هو الشيخ الموسوعي المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة يرحل بعد أسبوعين تقريبا من  مرضه المزمن العابر العاجل، رحل عنا مساء يوم الجمعة الموافق ٤ رجب سنة ١٤٤١ من الهجرة النبوية الشريفة حيث توفي  المفكر الإسلامي  المعروف و عضو هيئة كبار العلماء د. محمد عماره، تاركا وراءه ثروة علمية كبيرة متنوعة، أغنى بها المكتبة العربية الإسلامية، مقدما لنفسه زادا يدر عليه الحسنات والبركات.

وبذلك يأفل نجم من نجوم الأصالة من سماء ليس العالم الإسلامي فحسب، بل العالم برمته ..

سيرة و مسيرة:

ولد عمارة في 8 من ديسمبر/كانون الأول 1931م في قرية فلاحية بمحافظة كفر الشيخ، لأسرة بسيطة.

بدأ حفظ القرآن في كُتاب القرية وهو في السادسة من عمره وكان يلقي خطب صلاة الجمعة في مسجد قريته الصغيرة.

التحق عام 1945 بالمعهد الأزهري حيث أتم تعليمه الابتدائي والثانوي ليدخل بعدها المعهد الأحمدي الثانوي الأزهري فنال الشهادة التي أدخلته كلية دار العلوم جامعة القاهرة، حيث تخصص في الفلسفة الإسلامية واللغة العربية.

مر محمد عمارة بتحولات فكرية عديدة، فرغم نشأته الدينية والأزهرية، إلا أنه كان في بداياته يساريا عروبيا منظرا للفكر الماركسي.

في ثلاثينات القرن الماضي انضم عمارة إلى حزب “مصر الفتاة” وكرس نشاطه دفاعا عن العروبة ومحاربة الاستعمار. ثم انضوى عام 1949 تحت “الحزب الاشتراكي”.

وبعد ثورة 23 يوليو التي أطاحت بالملكية في مصر، انخرط في التيار اليساري الذي ناضل فيه نحو عقد من الزمن.

تسببت أفكاره ومواقفه السياسية في فصله عن الجامعة، لتقوده في عام 1959 إلى السجن.

واستغل عمارة فترة سجنه، التي ناهزت ست سنوات، في الكتابة فألف أربعة كتب كانت بمثابة إرهاصات لتحوّل فكري جديد. وانتهى به المطاف إلى مغادرة الجبهة اليسارية والانضمام إلى التيار الإسلامي.

رفض المفكر  عمارة الوظيفة العمومية واعتبرها نوعا من أنواع العبودية. رغم أنه تقلد أكثر من منصب رسمي فقد كان عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ورئيس التحرير السابق لمجلتها.

ألف محمد عمارة نحو 240 كتابا من بينها “الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين” و”الإسلام والمستقبل” و”التفسير الماركسي للإسلام” الذي رد فيها على كتابات الباحث نصر حامد أبو زيد

كما نشر دراسات عن أعلام التجديد الإسلامي أمثال محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين باشا التونسي.

إلى ذلك انتقد محمد عمارة تركيز التيارات الإسلامية على السياسة، وإهمالها المشروع الإصلاحي، و تجاهلها مسألة العدالة الاجتماعية.

كما خاض سجالات مع البابا شنودة والكنيسة القبطية، ودعا المسيحيين إلى الخروج عن “وصاية الكنيسة والانخراط في نشاط المجتمع المدني” على حد قوله.

كان عمارة من أشد المؤيدين لثورة 25 يناير التي أطاحت بحكم الرئيس الراحل حسني مبارك، إذ وصفها بـ ” الملحمة الشعبية”.

في حين اعتبر ما حدث في 3 من يوليو 2013 “جنوحا عن مدنية الدولة وانقلابا على مطالب الجماهير”.

نشر آنذاك بيانا طالب فيه الجيش بالعودة إلى ثكناته واحترام المسار الديمقراطي. وهو موقف جر العديد الانتقادات على عمارة وعده كثيرون موقفا إيديولوجيا كشف عن ميوله السياسية.

 سطر للأجيال قاموسا خصبا ثريا، حافلا بالمجاهدات والمغالبات  والعطاءات

فلا يملك المرء إبتداء مع رحيل هذه القامة الفكرية، إلا أن يعزي نفسه والأمة الإسلامية و الإنسانية قاطبة في فقيدها الكبير الذي سطر لأجيال الحركة الإسلامية وصحواتها من بعده قاموسا خصبا ثريا، حافلا بالمجاهدات والمغالبات والمقاومات والعطاءات والتضحيات، وبمثل ذلك يموت العظماء فلا تموت آثارهم من بعدهم مصداقا لقوله سبحانه :” إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ” ( يس : 12).

فعلا برحيل وفراق الدكتور عمارة تكون المكتبة الاسلامية حقا قد فقدت رفوفا كبيرة من كتبها، من جهتي معلوم أنه لم تشرفني أقدار الله سبحانه بلقائه إلا أياما معدودات في نهاية ثمانينات القرن الماضي أثناء ملتقيات الفكر الإسلامي، وأخرها لقاء في جامعة قسنطينة في ندوة المنهجية أو إسلامية المعرفة  التي نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالاشتراك مع جامعة قسنطينة..

و اذكر هذه الندوة تحديدا  لأن العلامة محمد عمارة خصص لي وللفريق الإعلامي معي من العاصمة حصة الأسد، حيث تفرغ  لنا كل صباح قبل إنعقاد اشغال الندوة ليسجل معنا سلسلة دروس غاية في الأهمية، والملاحظ أني أعجبت ليس بأسلوبه المقنع فقط بل، بسيولة وغزارة أفكاره لم أكتشفها عند جل علماء عصره بما فيهم الشيخ الغزالي و الشيخ ترابي و الدكتور جمال الدين عطية والدكتور محمد أمزيان .. فقد أمتعنا فعلا بتلك التسجيلات، وقبل أن يغادر رجى زميلي المصور أن يرسل له نسخة لمصر ليفيد بها غيرنا في دول المشرق.


مساره الرسالي العام ظل عميق الصلة بدينه وبالقضايا الجوهرية:

صحيح قد يقول قائل أن الدكتور عمارة متميز ونابغة، وأنه لكل رجل تخصصه ولكل عالم فنه ولكل منهم محطة ومرتع، ولكل  عصر رجاله ..و لكل عصر أفعاله .. والعصر بالتالي ليس هو الزمن .. إنه الرجال، وانه  الأفعال.. فالعصر – كما يقول أحد مفكرينا – عبارة عن مضغة في فم، فكه الأعلى من الرجال، وفكه الأسفل من الأفعال ..!

أو كما علق عن وفاته أستاذنا الشيخ الطيب برغوث الذي تعرف عليه عن قرب بقوله:

“بالرغم من تنقل الدكتور عمارة عبر محطات وساحات فكرية عدة، إلا أن مساره الرسالي العام ظل عميق الصلة بدينه وبالقضايا الجوهرية لأمته، وقد ظهر ذلك جليا في العقود الخمسة الأخيرة من حياته خاصة، حيث انحاز بشكل حاسم وواضح وعميق إلى جوهر الهوية الحضارية للأمة، وكرس كل وقته وجهده وطاقته وملكاته، لبناء الوعي بعالمية وإنسانية وكونية وعظمة الرسالية الإسلامية في الحياة، وبحاجة الأمة والإنسانية إليها، وكانت له مواقف وصولات وجولات مشهودة محمودة، ستظل الأجيال ترتوي منها إلى ما شاء الله تعالى. 
وقد تميز على كثير من العلماء والمفكرين بهذه الموسوعية المتوازنة والمتكاملة، التي أنقذته من الازدواجية الفكرية والسلوكية المتنافرة، فهو عقلاني عميق، ولكنه ليس علمانيا حدِّيا متكلسا. كما أنه أصولي أو أصالي عميق، ولكنه ليس حرفيا منعزلا عن عصره، بل يعيش في عمق عصره بذاتيته وهويته الإسلامية المستنيرة الفاعلة في حياته.
لقد كان شعلة متقدة، واستفدنا منه نحن الجزائريين مباشرة، من خلال مشاركته المستمرة في ملتقيات الفكر الإسلامي العتيدة، التي كانت تعقد سنويا في الجزائر لمدة أسبوع تقريبا، ويحضرها فطاحل العلماء والمفكرين حتى من غير المسلمين، من مختلف أنحاء العالم.
وكان الدكتور عمارة فارسا من فرسانها الكبار، متميزا بطرحه وحرارته وحيويته ورساليته، وكنا ننجذب إليه ونستمتع بأطروحاته ونستفيد منها كثيرا، خاصة فيما يتعلق برد الشبهات وإبراز قوة وعظمة الإسلام، وقوة وتميز الحضارة الإسلامية”..

يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي

مع هذه الخسارة الفادحة بفقدان الدكتور عمارة،  عزاؤنا فيما قاله شيخنا العلامة البشير الإبراهيمي – رحمه الله – ، حيث كتب يقول في ذكرى وفاة الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية ، الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-:” يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، و تبقى معانيهم الحية في الأرض، قوة تحرك، و رابطة تجمع، و نورا يهدي، وعطرا ينعش، وهذا هو معنى العظمة، وهذا هو معنى كون العظمة خلودا.{عيون البصائر، ص: 673 ، دار الغرب الاسلامي، بيروت}.

لا لشيء، إلا لأن موت العظماء – أمثال الدكتور عمارة – حياة أممهم، فإن في الغربة زادت جلالا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالا وجمالا، فإن صحبها سلب العز والملك حلية وكمالا. عزاء للوطن الاسلامي المفجوع فيك يا علامة العرب والغرب، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيب ذكر، وعند ربنا ثمين ذخر.

في انتظار ذلك نقول لفقيدنا الغالي، نم هادئا، قرير العين .. بل حسبك قول الشاعر الجزائر الفحل محمد العيد آل خليفة، الذي أنشد يقول يوم رحيل إمامنا، العلامة عبد الحميد بن باديس

نم هـادئا فالشعب بعـدك راشــــد *** يختـط نهجـك في الهـدى ويسير

لا تخش ضيعة ما تركت لنا سـدى *** فالـوارثـون لمــا تركـــت كثير

وسلام عليك في الشهداء والصدقين وحسن أولئك رفيقا… وسلام عليك في الأولين والآخرين، وسلام عليك في المؤمنين العاملين، وسلام عليك في الدعاة الربانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.. هنيئا لك ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تعلمهم و تواسيهم وإلى لقاء في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، و”إنا لله و إنا إليه راجعون”. وصدق محيي الموتى القائل: ” الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون” ( النحل :32 ). مع خالص عزائي ومودتي لطلابه و عائلته الكبيرة..

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version