اطمئنوا،  لا تتعجلوا بالحكم حتى تقرؤوا و تتأكدوا،  لأننا لسنا بصدد الحديث عن معركة من المعارك البطولية التي وقعت، أو عن معركة  ستدور رحاها في المستقبل القريب. و لن نزيد من همكم و غمكم بالتذكير بما جرى ويجري بين اليمنيين الأشقاء، و لا السوريين الذين اكتووا بنار المحرقة، و لا حتى السودانيين الذين أعيتهم سياسة الإقصاء. ولا ما يدور داخل حدود العراق، أو أفغانستان، أو طهران، أو لبنان، من تخبط واستقواء ! 

و لن نجركم من أجل المزايدة في حق الروس، أو الفرنسيس، أو الأمريكان ! 

هذا أكثر ما يدور في خلد الكثيرين، سواء الذين اعتادوا على تكرار المكرر، أو مدح المدلل، أو البكاء على الأطلال ! جمع خلد أخلاد، و الأخلاد فيها ما هو من النفس، أو القلب، وفق ما نعبر عنه بالأفكار. 

حبذا لو نتأمل في هذا السؤال و نتحرر مما علق بأخلادنا من أوهام، فنتحرى ما طاب من بيان في سبيل التحرر من دائرة الأوثان . 

*  طبيعة المعركة 

أم المعارك _ محور حديثنا _ من خلال هذه المقاربة المتواضعة، هي معركة سلمية بامتياز، لأنها معركة بناء، لا يكون الهدم ضمنها سوى استثناء، أو ضرورة من ضرورات البناء، خصوصا إذا كان مؤشر عمليات الهدم هو الإقصاء ! 

الجزائر قارة في حدود التاريخ والجغرافيا، كما حررها الجميع، يجب أن يبنيها الجميع، و عبارة “جميع” هي من صميم أجندة الثورة ورحيقها، وإلا ما معنى أن يقول الرجل الحر العربي بن مهيدي : “القوا بالثورة إلى الشارع يلتقطها الشعب” ؟ هل كان الشهيد ينتظر استجابة كلية؟ أو كان يريد تحميل الشعب غير ما يطيق؟ صورة الشعب في خلد بن مهيدي، ليست هي ذات الصورة في خلد الكثيرين، حتى بالنسبة لبعض رفقاء السلاح، وكثير من منتسبي الحركة الوطنية ! الشهيد الفذ، كان يدرك مخاطر الإقصاء، وآثاره الوخيمة، و إلا ما كان يستجيب لحضور مؤتمر الصومام من أجل توضيح وتأسيس معالم البناء، و هو النفس والروح التي كان يتقاسمها معه سعد  دحلب، بن يوسف بن خدة، عبان رمضان، كريم بلقاسم، أعمر أوعمران،  لخضر بن طوبال، و زيغود يوسف،  بالرغم من تفاوت في الرؤى والقناعات، حيث كان همهم الأكبر هو تفادي مخاطر الإقصاء التي راح ضحيتها خيرة من أبطالنا الذين فجروا الثورة ! ولعل التستر على محتوى بيان أول نوفمبر بعد الاستقلال كان نتيجة من نتائج سياسة الإقصاء التي راح ضحيتها مزيد من أبطال و مفجري الثورة، في عز أيام الاستقلال ! 

والحقيقة أن واجب التقيد بمبادئ أول نوفمبر، وتمليك مشروعه للشعب من أجل البناء، كان من دون ريب أمنية الشهداء التي لم يلتزم به رفقاء السلاح الذين انفردوا بقيادة الأركان بعد ١٩٦٢، و لم يعبئوا بأم المعارك جوهر و روح مبادئ الثورة ! 

*  أعطيكم مثالا : من باب وشهد شاهد من أهلها.

وجب التأكيد على أن أم المعارك هي معركة الداخل، و هي المحك، أو الامتحان الذي يتوقف عليه فوز أو خسران الحكام، مهما كانوا، كيفما كانوا، و أينما كانوا.

 و اعلموا أن مصير كل معركة في السياسة، أو الاقتصاد، أو الدبلوماسية، أو حقوق الإنسان، بما فيها قضية فلسطين، لن يكتب لها التوفيق بعيدا عن ربح معركة الداخل! وهذه قاعدة، أو هو  القانون الذي لا يحابي،  و لا يجاري، أمة من الأمم، أو مجتمعا من المجتمعات، أو دولة من الدول . 

ماذا عن المثال ؟ 

حينما يتناول الأكاديميون،  والمحللون،  والباحثون، سؤال الحكم في الجزائر منذ ١٩٦٢ إلى غاية ٢٠١٩ ، يتعاملون بنوع من الخصوصية مع فترة الرئيس هواري بومدين (محمد بوخروبة)، فيعتبرونها مرحلة ذهبية، لم تكتمل ملامحها ومعالمها بسبب وفاة بومدين في ١٩٧٨. و المؤشرات ذات الصلة التي يذكرونها بهذا الخصوص، علاقة الرجل بالمال العام، حتى مع رفقاء السلاح، حيث خيرهم وقتها بين السياسة والتجارة. فإذا سايرنا وسلمنا بهذا المنحى، سنكون جزءا لا يتجزأ من دائرة ضحايا الصراع، لأن القوم المتمسكين بهذا المنحى  قاربوا المسألة من زاوية شخصية بحتة (تمجيد شخص الحاكم) إلى أبعد الحدود، و تفادي مناقشة أرائه و مواقفه،  بعد وفاته، ناهيك في حضوره و بين يديه ! و هذه هي المصيبة، لأن القوم لم يستوعبوا زوال آثار الزعيم الملهم الذي مجدوه كثيرا، وصفقوا له طويلا، بمجرد وفاته، حتى على مستوى أقرب الناس منه منصبا و مسئولية، وأولهم و زير خارجية ورئيس الدبلوماسية الجزائرية عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم عشرين سنة، وطمع في عهدة خامسة، من دون أن يذكر شيئا عن مسار ودور الرئيس هواري بومدين، حتى بخصوص وفاته! 

نعود لصميم الموضوع، ألا وهو أم المعارك أو معركة الداخل. 

كثيرا ما يستشهد القوم بخطابات الرئيس بومدين، لكنهم يمرون عليها مرور الكرام، وخصوصا فحوى خطابه في المؤتمر أو الاجتماع الذي ضم وزراء و ولاة في ١٩٧٦، الذي كان بمثابة اللقاء التقويمي، و قد كان لقاء مغلقا، المتكلم واحد، والمستمعون كثر ! 

ماذا قال الرئيس؟ يمكنكم مراجعة الخطاب بالصورة والصوت. 

 ” هذه المعركة هي الخط النضالي في ميدان البترول الذي قلب الموازين، وبالنسبة للآخرين مثل الكويت و الإمارات، وكذا، فقد راحوا يطلبون من الشركات البقاء، لكنهم عندما يجدون أنفسهم محكومين من الناحية السياسية، يقولون: نؤمم. والتأميم على الورق لا يعكس الواقع، لأن الشركات أو الشريك الأجنبي يبقى هو المستفيد الأكبر”. النقل بتصرف من دون أي إخلال بالمعنى و المضمون. 

يريد أن يقول الرئيس بومدين، أن مسألة التأميم بالنسبة للخليجيين، كانت ذرا للرماد في العيون. و هي حقيقة، فقد كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون.  

يقول الرئيس بومدين أيضا : “لقد مرت الجزائر سنوات ١٩٦٥ ، ١٩٦٦، ١٩٦٧، ١٩٦٨ ، بحالة صعبة، لكننا بصمت و مثابرة استطعنا جمع الشروط للقيام بدور هام على المستوى الدولي  ” . 

و يذكر بالقول:” أن حكام الخليج قدموا لمصر التي تضررت كثيرا بسبب الحرب، المال من أجل إسكاتها ” و أن : “حكام الخليج كانوا باحتساء الخمور، و جمع المال في البنوك، و شراء الكازينوهات ” . 

يواصل الرئيس قوله: ” قضية البترول هي معركة العالم الثالث، ولأول مرة صار للعرب قيمة. وكانت قضية المواد الأولية مصدر قلق وضربة موجعة للرأسماليين في الغرب، مما دفع بهم لقبول الحوار بين الدول المصنعة ودول العالم الثالث. وكان هذا رد فعلنا، فقد لعبت الجزائر دورا طلائعيا بالرغم من مشاكلها الداخلية، و تضميد جراحها بسبب الحرب و غيرها “. 

ومن دون شك فقد كان بومدين، عكس كثير من المصفقين،  واعيا بأدوات الصراع، والدليل هو قوله : ” أصدقاؤنا في المعسكر الاشتراكي راهنوا على إستراتيجية ديغول،  واعتبروها ضد الولايات المتحدة، ومسعى للخروج من النيتو. وهذا حساب خاطئ (غلط)، لأن أصدقاءنا يعتبرون أنفسهم علماء كبار، و في بعض الأحيان، مسائل تافهة، لا يفهمونها ” . 

المقصود بالأصدقاء هم الروس أو السوفيات ، و من كان تحت عباءتهم. 

و يقر بومدين بالقول: “بقيت الجزائر وحدها، في معركة البترول، في مواجهة الغرب الرأسمالي، وحرصت على بقاء منطقة المغرب بعيدا عن صراع الكبار ، لقد تحركنا واشتغلنا. أما على المستوى الداخلي، نترك المسائل للتاريخ، للناس الذين يعرفون تقدير الأمور، كيف كنا، وكيف أصبحت بلادنا اليوم ”

لقد تجنب الرئيس مناقشة أو مقاربة الشأن الداخلي، وهذا الذي أغفله المحللون، و بعض المؤرخين. 

لقد تجاوز الرئيس الجميع بخصوص سؤال الداخل، أو معركة الداخل، وبرر موقفه بوجوب إحالة الملف على محكمة التاريخ! و قد جعل من معركة الخارج ما يشبه المتنفس بالنسبة للمحارب الذي تفرغ للتو من إلحاق الأذى بمعارضيه. الرئيس بومدين بالغ كثيرا في حضر ومنع مناقشة والتحاور بخصوص معركة الداخل، أو أم المعارك، بالرغم من أهميتها بالنسبة لكل المعارك. إنها معركة الشرعية التي سوف تتوقف عليها نتائج ما دونها من معار. 

نعم هي كذلك، فقد تجاهل بومدين، ورفاقه، هذه المشكلة الأم، وتجاوزها، بداية بتجاوز استحقاق مؤتمر طرابلس الذي أوصدوا أبوابه، وراهنوا على عامل الزمن من أجل النسيان، متابعين أسلوب النعامة تارة، وأسلوب الذئاب المفترسة تارة أخرى! ولم يتوقف الأمر على الانقلاب على الحكومة المؤقتة وتجاوزها، بل استطاعوا تحت غطاء التصحيح الثوري، والاحتكام للدستور، تصفية كل المعارضين في عز أيام الاستقلال، إعدام شعباني، وخنق كريم بلقاسم  وإقالة الشادلي،  و قتل بوضياف. ناهيك عما فعلوه بالمعارضين زمن تسعينات القرن الماضي، من بعد الانقلاب على اختيار الشعب في انتخابات حرة و نزيهة، بدعوى الحفاظ الدستور و إنقاذ الجمهورية! 

*  لا بأس من الرجوع لشهادة الدكتور محي الدين عميمور.  

سأل أحد الصحفيين السيد عميمور مستشار الرئيس بومدين بالقول: 

لماذا لم يطلق بومدين سراح بن بيلا، بعدما نسيه الشعب؟ 

يجيب عميمور: بصراحة، لقد سألته مرة، وهو الأخ الكبير البسيط، وليس الرئيس المتجبر: لماذا لم تقدموا بن بيلا للمحاكمة؟ 

ضحك بومدين و قال: يا محي الدين، لا تنس أن بن بيلا حوكم بالخيانة العظمى، فكيف يكون موقف الشعب إذا أطلقنا سراحه؟ 

يقول محي الدين عميمور، و يقر بأن جواب بومدين كان (فلتة لسان).  

كما يقر أكثر من ذلك بالقول: الذين كتبوا الخطاب كانوا مبالغين نوعا ما. و يقصد نص خطاب الرئيس في ١٩ جوان ١٩٦٥ الذي اتهم فيه بن بيلا بالخيانة العظمى! مما يجعل التهمة ملفقة. و هذه شهادة حية من مستشار الرئيس، واعتراف من بومدين ذاته! 

و هل يستطيع أكاديميونا،  و مؤرخونا، إثبات غير ذلك، حتى بالنسبة لباقي المعارضين الذين تمت تصفيتهم، أو نفيهم للخارج؟ 

و للأسف، فقد واصلت قيادة الأركان على نفس الخط تقريبا، من بعد استقالة بوتفليقة الذي سقط مغشيا عليه أمام قوة الحراك الشعبي الذي أبهر العالم كله. وبعد أن يئست الجماعة، لجأت من جديد إلى أسلوب النعامة من أجل ربح الوقت تحت غطاء الاحتكام للدستور، متجاوزين معارضة الشعب الحقيقية، ومستخدمة أرشيفها في عالم الشعارات التي تغنت بها طويلا، وتسترت وراءها من أجل إلحاق الأذى بذاكرة الجزائريين الجمعية والتاريخية، خصوصا ما تعلق بكسر القطاع العام، ونهب أموال الشعب، وتمييع وتسييس الشأن العام، ورهن مقدرات الأمة! 

عند هذا الحد ، و جب التأكيد على أننا رسبنا في اجتياز امتحان معركة الداخل، وخسرنا رهان كل معركة أخرى . 

وهذا هو بيت القصيد، فمطالب  الحراك الشعبي أو الثورة السلمية، تتمحور كلها حول كسب أم المعارك، أو معركة الداخل، أو معركة الشرعية التي ناورت ضدها، ووقفت في طريقها طويلا قيادة الأركان، متسترة بغطاء الدستور، والوحدة الوطنية، والوقوف في وجه الأطماع الخارجية. و كله افتراء . 

وجب أن تقر سلطة الأمر الواقع، ولا بأس من خلال واجهتها المدنية التي أفرزتها انتخابات، شهد على تزويرها غالبية الجزائريات و الجزائريين، بالخطأ جهارا نهارا، و تثمن ثورة الشعب السلمية من أجل التصحيح الثوري الحقيقي الذي يجب أن يحسم معركة الداخل، ولن يكون ذلك من دون : 

١ _ إطلاق سراح كل مساجين الرأي. 

٢ _ حل البرلمان بغرفتيه. 

٣ _ الإقرار بحرية التعبير و حق التظاهر السلمي، وفك الحصار والتضييق على وسائل الأعلام بداية بفك الارتباط بتلك القنوات الخاصة التي تأكل من المال العام دون وجه حق. 

٤ _ فتح المجال أمام تنظيم الشعب لنفسه سياسيا و حزبيا و نقابيا. 

٥ _ إقرار مرحلة انتقالية من أجل انتقال ديمقراطي حقيقي في سبيل اختيار الشعب لممثليه في برلمان منتخب بغرفة واحدة، بعيدا عن التعيينات الفوقية مهما كان مصدرها  . 

٦ – البرلمان وحده هو من يبت في سؤال الدستور والمصادقة عليه بأغلبية الثلثين. 

حينها فقط يمكننا الحديث عن باقي المعارك، و عمليات البناء . 

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version