إذا أردنا أن نعرف بإجمال من هم الاستئصاليون، يمكننا القول إنهم كل من حرم الشعب، منذ استقلال البلاد، من سيادته وأقصاه من المشاركة في تسيير شؤون بلده، واستأصله، سواء بالمعنى المادي، تقتيلا ونفيا وسجنا وتعذيبا، أو معنويا، من خلال كتم صوته أو تضليله أو ترهيبه، وهذا الوصف ينطبق، وإن كان بدرجات متفاوتة، على كل النخب، العسكرية والأمنية والسياسية، الحكومية والرسمية وحتى بعض من تدّعي المعارضة، المتعاقبة، بصرف النظر عن الواجهة التي ظهرت بها. ولمناقشة الموضوع بتفصيل أكبر، لا بد من تقديم التوضيحات الآتية:

أودّ، قبل الدخول في الموضوع، أن أشير إلى أن التطرق إلى هذا الملف، يعود لسببين، أولهما، أن فئة عريضة منالشباب، خاصة دون 25 سنة من العمر، كثيرا ما يسمعون أو يقرؤون عن الاستئصاليين دون أن يفهموا المقصود منهم، ويتساءلونلماذا يشار إليهم كلما تعلق الأمر بانقلاب 92 وجماعة اليناريين (التسعينيات)، والسبب الثاني، هو تبرير بعض المواطنين عدم تحمسهم بل ومناهضة بعضهم للحراك وانسحاب البعض الآخر منه، كونه أصبح مرتعا للاستئصاليين، يسيرونه ويوظفونه (بحسبهم) لأغراضهم على حساب السواد الأعظم من المشاركين فيه، عن “جهل منهم أو غفلة أوحسن نية مفرطة”.

أريد أيضا قبل التفصيل في الموضوع، التنبيه إلى أن مصطلح الاستئصاليين مثلما هو الحال بالنسبة لمصطلح “الحرْكة”و”الحقرة” هي بضاعة جزائرية بامتياز، تكتسي معنى دقيق وفريد عندنا في الجزائر تحديدا ويكاد لا يوجد لهامرادفا في غيرها من الدول، من جهة ثانية، الاستئصال كمصطلحلا يعني بالضرورةصفة سلبية، بل يمكنهأن يحيل إلى شيء إيجابي وبناء، كاستئصال الشر واستئصال ورممن جسم مريض وما إلى ذلك، لكن الاستئصال في سياق موضوعنا هذا ارتبط ارتباطا وثيقا بفئة من السياسيين والإعلاميين ورجال القضاء والإدارة والمثقفين ورجال المال وغيرهم، دأبوا على التموْقع دائما في صف النظام المستبد، ودعمه في قمع الشعب وسرقة طموحاته وإرادته، وقد بلغت ذروة نزعتهم الاستئصالية، إبان انقلاب يناير 92 ودعمهم التام للحرب القذرة التي تعرض لها الشعب الجزائري، وتبريرهم لضرورتها، عن طريق نشر الأباطيل لتبرئة الجلاد واتهام الضحية.

الاستئصال عند هذه الفئة معناه استئصال “السواد الأعظم من الشعب” الذي خيّب ظنهم وكشف سوءتهم، وجعلهم يدركون أنهم لن يستطيعوا بسط هيمتنهم على مفاصل الحكم (مثلما فعلوا منذ عقود من الزمن) دون إرادة الشعب ودون المرور بالصناديق الشفافة، وذلك طالما بقي الشعب قائما يقظا، فعمدوا على التحريض عليهمن خلال نشر الأكاذيب في مختلف الوسائل، بل ودعوا للقضاء عليه ماديا مثلما تبينه تصريحاتهم الحاقدة في مقالتهم في صحفهم أو خطبهم (يمكن مراجعة بعضها في أرشيفهم)، مثلما كشفه أحدهم (سيد احمد سميان) عندما كان يعمل كاتب عمود (صحيفة لومتانLe Matinالاستئصالية)، واستقال بعد أن هاله ما شهده من تضليل وتزييف للحقائق، وألف كتابا يصف فيه تضليل هذه الأقلام بتنسيق وثيق مع جهاز توفيق DRS،تحت عنوان “في حمى الرصاصات الطائشة” (Au refuge des balles perdues)، أو كما يبينه تصريح رضا مالك، أحد رؤساء حكومة العهدة الانقلابية وعضو المجلس الأعلى للدولةHCEالذي نُصِّب عقب الانقلاب على الدستور والرئيس الشاذلي وخيار الشعب في يناير 92، عندما صرّح مالك مهددا “على الخوف أن يغير معسكره” (La peur doit changer de camp)، لتنطلق مباشرة فيالق الموت والمجازر وآلاف حالات الاختطاف، أو تصريح أحد الجنرالات (سماعين العماري) الذي اعتبر القضاء على ثلث الشعب الجزائري ثمن ضروري للحفاظ على الباقي؛ هذه عيّنة فحسب.

إجمالا يمكن تصنيف الاستئصاليين إلى فئتين، استئصاليين أيديولوجيين، يكنّون عداء دفينا لقيم الشعب وانتمائه الحضاري، وفئة نفعية، ارتبطت مصالحها بالنظام المستبد، وتدرك نهاية هذه المصالح اللامشروعة في ظل سيادة الشعب، وكلا الفئتين تشترك في ضرورة “استئصال” الشعب الذي يجهض أهدافهما ويهدد مصالحها، والقضاء عليه ماديا ومعنويا، مثلما يفسر تحالفهما ودعمهما انقلاب يناير 92، رغم تباين مشاربها الظاهري، وإلى جانب هذه الأطراف المحلية، هناك استئصال “خارجي”، دعم النظام الجزائري في كل حقبه لأنه سمح لهم بتحقيق مصالح لن يستطيعوا تحقيقها في ظل دولة ديمقراطية قوية وسيدة بخيار الشعب، وهو ما يفسر أيضا تواطؤها في انقلاب 92 وسكوتها المريب اليوم (والداعم عمليا سرا وعلنا) لإجهاض حراك الشعب المستمر ببسالة في أسبوعه الـ40.

الديمقراطية الحقيقية والانتخاباتالحرة عند هذه الجهات، المحلي منها والخارجي، لا مكان لها ما لم تتخلص البلاد من الشعب (ماديا أو معنويا)، بما يؤكد أنهم لن يرضوا أبدا بالدولةالمدنية ودولة القانون، التي تحرّرالعملاق المقيد الذي يقض مضجعهم ويرعبهم.

ومن الوسائل المستخدمة للقضاء على الشعب، إلى جانب القتل المادي، قتلهم معنويا من خلال تكميم صوتهم ومنعهم من كل حقوقهم كمواطنين، اعتماد السلطة، فقط الأحزابالتي تدور في فلكهاليكون لها دور الواجهة المدنيةالسياسية لبيع البضاعة، أي الأحزاب التي أنشئت في دهاليز المخابرات أو بدعم منها أو إيعاز، وتفجير كل الأحزاب القائمة التي لا تلتزم هذا الخط، والشيء مثله بالنسبة للترخيص للصحف والمحطات الفضائية التي تخضع لنفس القواعد، النسخة الجزائرية لـ”إذاعة الألف هضبة”الرواندية المحرضة على التطهير العرقي (Radio des Mille collines).

مايميّز الصنف المتطرف من الاستئصاليين (الأيديولوجي) احتقاره التام للشعب، بسبب ما يعتبرونه “تفكيرهالظلامي” وارتباطه الحضاري العربي الإسلامي، مع سعيهم الحثيث إلى بتره من هذا المحيط وربطه بالضفة الشمالية من البحر المتوسط، فرنسا بالتحديد، التي يعتبرونها محيطهم الطبيعي “لنقل الجزائر من تخلفها إلى أنوار فرنسا”، وما دعمهم للهجة الدارجة إلا حيلة وخطة مرحلية لمحاربة العربية بشكل خبيث واستبدالها لاحقا بالفرنسية التي يعتزون بنشرها والعمل بها، خاصة في أماكن تواجدهم بقوة، كالإعلام والإدارة وقطاع الأعمال.

ارتبط اسمهم بشكل أساسي بانقلاب يناير 92، سواء كانوا في أحزب السلطة (جبهة التحرير قبل التعددية، ثم RND) أوبعض أحزاب المعارضة (الرسمية)، داخل الإدارة أو وسائل الإعلام أو جهاز القضاء أو أجهزة الأمن، سواء كانوا عسكريين، مثل الجنرالات محمد تواتي، محمد العماري، سماعين العماري،عبد المالك قنايزية، عباس غزيل، خالد نزار، محمد مدين المدعو توفيق،أحمد قايد صالح…)، أو المدنيين، هاشمي شريف PAGSثمMDS، أبو بكر بلقايد (وزير الاتصال سابقا)، رضا مالك (عضو المجلس الأعلى للدولة HCEورئيس حكومة في العشرية الدامية)، علي هارون (عضو المجلس الأعلى للدولة) سعيد سعدي، خليدةتومي،آيت مقران(RCD)، زبيدة عسول، عبد القادر بن قرينة، ضمن قائمة المجلس الوطني الانتقاليCNT، عبد الحق بن حمودة ثم سيدي سعيد في المركزية النقابيةUGTA، أو الصحف المستقلة زعما والتي كشف سيد أحمد سميان، تنسيقها الوثيق مع جهاز توفيق:ElWatan؛Libeté؛l’Expression؛le Soir d’Algérie؛Le Matin ؛الخبر…فضلا عن الدعم المطلق الذي وجدوه من بعض الأوساط الفرنسية، خاصة الإعلامية والثقافية والسياسية، وعلى رأسهم: ( (DST Yves Bonnet

Charles Pasqua؛J.PChevènement (وزرا الداخلية)أو الثقافة B.H.Levy ; André Glucksmann, Alain Finkielkraut، إلخ.

في الواقع، لم يظهر هؤلاء فقط مع انقلاب يناير 92، لأن وجودهم سابق لذلك، لقد تعايشوا مع كافة الأنظمة والحكومات المتتالية على مر نصف قرن من الزمن، وإن تظاهروا أنهم معارضين لبعض توجهاتها، فالثابت عندهم أنهم في لحظة الحسم يصطفون دائما في صف السلطة ويعارضون الشعب بل ويتآمرون عليه، والسببيكمن في طبيعة نشأتهم التي تجعل موقعهم “الفيزيولوجي” في صف السلطة التي نشأوا بفضلها أو في مخابرها أو بدعمها وحمايتها، نظرا ليقينهم باستحالة وجودهم الفعلي على أرض الواقع، لانتفاء مقومات البقاءعنهم، لكن زادت حدة كراهيتهم للشعب، في أعقاب انتخابات التعددية المنبثقة عن دستور 89، المحلية جوان 90 والتشريعية 91، بعد أن قدموا مرشحيهم في قوائمأحزاب ورقية، تلقوا فيها هزيمة نكراء، خرجوا منها صفر اليدين، وأدركوا حينها أنهم لن يحصلوا على صوت الشعب وثقته عن طريق صناديق شفافة، مما دفعهم إلى الكفر بالديمقراطية والانتقام من الشعب، والتواطؤ عليه ودعم كل من يهشم تلك الصناديق التي أقصتهم شر إقصاء، والتحريض على من زكتهم تلك الصناديق. وكانوا منذ انقلاب 92 من أشد الداعمين للانقلاب والمروجين له بحجة حمايةوإنقاذ الجمهورية وتحالفوا مع كل من خاض حربا ضد الشعب سواء في وسائل الإعلام أو في الأحزاب أو في التمثيليات خارج البلاد، وكانت جائزتهم أن عددا كبيراممن أقصتهم تلك الصناديق، تبوأ على ظهر الدبابة، مقاعد داخل المجلس الموطن الانتقاليCNTالذي عينته السلطةالانقلابية بينما زُجّ بالمنتحبين الشرعيين في معتقلات الصحراء.

حتى وإن شكل الإعلاميون والعسكريون والمثقفون العلمانيون المتطرفون قطب الرحى ومحرك منظومة الاستصئاليين، فهناك فئات أخرى لا تقل حقدا على الشعب، وإن لم تكشف علنية عداءها له ولخياره كما فعل العلمانيون المتطرفون من قبيل الذي اعتبر أنه اخطأ في المجتمع الذي ينتمي إليه”je mesuis trompé de peuple”، لكن يبقى القاسم المشترك بينهم جميعا، اختيارهم معسكر السلطة الدافئ الحاضن، لسبب “موضوعي”، كونهم يدركون قيمتهم في أعين المواطنين لاعتبارهم أن الشعب غير ناضج لممارسة الديمقراطية وغير مؤهل ليرتقي إلى عبقريتهم الفذة، فاختاروا صف السلطة منذ ذلك الحين، في تصادم دائم مع الشعب ومطالبه وطموحاته.

أما تموْقع بعضهم اليوم (منذ 22 فبراير) داخل الحراك، فلا يناقض هذا الطرح بل يؤكده، لأن تسجيل وجودهم، فضلا عن كونه يعود لتصفية حسابات وصراع بين العصب في السلطة، وهم كانوا حلفاء عصابة توفيق المعتقلة اليوم، لا يشكل حضورهم اليوم، سوى محاولة يائسة ومفضوحةلتبييض صفحتهم أمام الشعب الذي فضح الجميع ولم يعد ينخدع للشعارات، أكانت إسلامية أو وطنية أو علمانية، بل أصبح يدرك طبيعة وحقيقة كل الأطراف بناء على وقائع ملموسة وأحداث موثقة لا يمكن لأحد إخفائها أو تبريرها أو تحويرها، بما أكسب الشعب حصانة حمته من الوقوع في كل محاولات تشتيت صفوفه، من طرف ناشري الفتن العرقية أو اللغوية والأيديولوجية، محافظا على وحدته الجوهرية في إطار تنوعه الطبيعي، ولن تتأخر هذه الفئات الاستئصالية، استجابة لنزعتها (الطبع يغلب التطبع)، ومتى سنحت لهم الفرصة،لتعود إلى معسكرها الطبيعي، لأنها ببساطة لا تؤمن بالشعب ولا بإرادته، وتعلم يقينا أن في استعادة سيادته وتحقيق إرادته، تتلاشى أحلامهم وزيف وجودهم المضخّم.

ختامًا، قد يختلف الاستئصاليونفي منابعهم وتوجهاتهم الإيديولوجية لكنهم يلتقون حول الهدف الأساسي وهو رفضهم عودة الكلمة للشعب لما يترتب عن ذلك من سقوطهم المروع، بما يفسر استماتتهم في دعم حكمالانقلاب ورفض أي تحقيق في الجرائم المرتكبة سواء الاعتقالات أو المجازر وعمليات الاختطاف وتحميل ذلك للضحايا، وتبرئة مختلف أجهزة الأمن رغم الشهادات التي تثبت تورّطهم، لأنهم يدركون أنه بافتضاح حقيقة جرائم جنرالات الانقلاب، تتكشف تلقائيا مساهمتهم الكبيرة فيها، الأمر الذي يكشف زيف مزاعمهم اليوم بالدولة المدنية، لأنهم كانوا من أكبر داعمي ومؤيدي الدولة العسكرية المخابرتية، هؤلاء هم الاستئصاليون.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version