كانت لي مساهمة متواضعة  في الحراك الشعبي المتحضر الراقي  منذ انطلاقه والذي نأمل أن يحدث نقلة بعيدة في الحياة السياسية الجزائرية ترفع المجتمع إلى مصاف الأمم الديمقراطية المستمتعة بالاستقرار والازدهار.

كنت طيلة شهور أجتهد في الابتعاد عن الغوغائية والشعبوية والنخبوية في آن واحد، لم يكن همي توزيع صكوك الغفران ولا إصدار مراسيم الحرمان لأية جهة، ألزمت نفسي تجنب لغة التصعيد فضلا عن التخوين والشيطنة رغم أن كل هذا كان البضاعة الأكثر رواجا في المسيرات والتعليقات والكتابات مع الأسف، لم أقدس هيئة من الهيئات ولم أعطها صكا على بياض رغم الدعوات الملحّة والحملات الكثيفة، في نفس الوقت ابتعدت كل البعد عن محاكمة النيات، ثمّنت بوضوح ما كنت أراه صائبا في قرارات قيادة الجيش وأثنيت عليه باعتدال، وأبديت ملاحظاتي وتحفظت على خطوات كنت أراها غير موفقة.

في مسايرتي للحراك تمنيتُ أن يعمل على إنشاء مرجعيات سياسية وفكرية جديدة يقتضيها الوضع المستجد وذلك في شكل أحزاب وجمعيات يتولى الشباب تأسيسها وتسييرها بعقلية جديدة ملؤها التفاؤل والأمل والرغبة الجدية في الإصلاح والتغيير وفق أدبيات وآليات مبتكرة تهيل التراب على الأجهزة القديمة والعقليات المتحجرة والأساليب العقيمة، إلى جانب هذا داومت على التحذير من شيطنة الأحزاب والشخصيات المعارضة بل كان ينبغي الالتفاف حول رموزها ومكوناتها النزيهة لأنها تملك رصيدا كبيرا من التجربة يحتاج إليه الحراك وشبابه، والحماسة لا تغني عن الحكمة والحنكة والتجربة، لكن صراخ الشارع كان أقوى من الحجة والنظر العقلي فحدث ما حذرت منه في معظم كتاباتي وتدخلاتي المباشرة وغير المباشرة مع الشباب ألا وهو الفراغ، وكم أكدت أن الحراك أحسن الهدم لكن يجب أن يعمد إلى البناء غير أنه استمرّ في عملية الهدم إلى درجة انقسام صفّه ومسارعته إلى إلصاق أبشع التهم بأي شخصية تبرز أو هيئة تنصح، فلم ينج من ذلك لا السياسيون النزهاء ولا الشخصيات الوطنية المشهود لها بالمصداقية ولا علماء الدين ولا مناضلو حقوق الإنسان ولا المعارضون للنظام السابق منذ عشرين سنة ولا حتى الشباب الذين أفرزهم الحراك على مستوى من المستويات، والنتيجة أن كل ما هو قديم تمّ رفضه واستبعاده لأنه قديم، وكل جديد تمّ استبعاده  كذلك حفاظا على التلقائية والعفوية والجماهيرية التي تحمل في طياتها بذور فنائها، وكم كررتُ على المسامع أن نقطة قوة الحراك هي بالضبط نقطة ضعفه ألا وهي العفوية لأن تغيير نظام حكم وإصلاح شؤون دولة يستحيل أن يتمّ بغير برامج وآليات وأدوات مناسبة للتحدي والمرحلة والمستجدات العميقة المتشعبة.

ولعلّ أخطر ما وقع فيه الحراك- كنتيجة حتمية للسلبيات التي أشرت إليها – هو الرفض المطلق لكل المبادرات والخطوات التي قامت بها السلطة استجابة لمطالبه، وتلك التي ساهمت بها جهات وطنية متعددة، فقد ساد منطق المثالية الحالمة والمغالبة المتصلبة إلى حدّ إنكار جدية تنحية الرئيس السابق واعتقال رموز نظامه ومحاكمتهم، وانتشر الحديث عن مجرد مسرحيات هنا وهناك !!! ولنا أن نتصور كيف يكون الحال حين تجتمع العفوية وسوء الظن ورفع سقف المطالب بعيدا عن كل واقعية مع تجاهل صارخ للتوازنات الداخلية والضغوط الخارجية.

بقيت الإشارة إلى أني تغاضيت طول هذه الفترة عن قناعاتي الفكرية وانتمائي الإيديولوجي خدمة لوحدة صفّ الحراك، وتغافلت قدر المستطاع عن استفزازات هذه الطائفة الأيديولوجية أو تلك، وناديت بالتعاون في المتفق عليه مع أي طرف وطني وجعل الحراك يستقطب جميع مكونات المجتمع دون إقصاء لأن هدف الجميع هو تغيير النظام القديم وإقامة نظام يتعاون كلّ الجزائريين على إرساء قواعده، ولا أخفي أن موقفي هذا كان يتطلب كثيرا من الصبر والتحمل والتجاوز لأن أصواتا بدأت بعد أسابيع من انطلاق الحراك تبالغ في التميّز الإيديولوجي بل تفرق الإجماع لنعود إلى وضعية الأقلية الساحقة التي تتحكم في الأغلبية لمسحوقة.

هل نجح الحراك أم فشل؟ هل آتى ثماره؟ هل يمكن أن نقدم حصيلة علمية لإنجازاته؟ هل يمكن تقييمه الآن تقييما موضوعيا؟ هذه أسئلة مهمة لكن الإجابة عنها مؤجلة إلى ما شاء  الله، وحسبُ الحراك أنه أزاح العصابة المتحكمة وأعطى درسا في السلمية ساهمت في تسطيره المؤسسة العسكرية بانحيازها إليه، وعسى الانتخابات الرئاسية أن تفسح المجال لتتويج الحراك بالنصر المبين ليس بحلّ المشكلات الوطنية العويصة المطروحة بحدة ولكن بتفادي الأسوأ وبوضع قطار البلاد على سكة أقرب إلى الصواب.

تعليق واحد

  1. بادئ ذي بدء، وجب الابتعاد قدر الإمكان عن شخصنة قضية الجزائريين جميعا ، ألا وهي الثورة على الاستبداد و الفساد ، فكما كانت ثورة نوفمبر المباركة ١٩٥٤ فوق كل الاعتبارات ، من جهة و عرق و لسان ، و زيد و زيدان ، كذلك يجب التعاطي مع ثورة اليوم ، و هي مباركة إن شاء الله .
    هذا هو السياق تقريبا، أما من الناحية المنهجية فيجب أن نستحضر مطالب الشعب بداية الحراك ، و مطالبه اليوم من بعد تسعة أشهر، و موقف هذا الطرف أو ذاك منها .
    و من المفيد لنا جميعا التوقف مليا عند طبيعة الهبة الشعبية التي هي صحوة اجتماعية بامتياز ، و هي من دون ريب تستند إلى مقدمة أو مقدمات تاريخية ، مثل تلك المقدمات التي استندت إليها ثورة نوفمبر المباركة ، مع وجوب الأخذ في الاعتبار المنحى السلمي لثورة اليوم . و كم هم الذين حكموا على ثورة نوفمبر بالفشل المبكر و راهنوا على قوة فرنسا ! ؟
    إن المقدمات التاريخية تتجاوز الجهة و العرق و اللسان و الأشخاص و حتى المعتقد أحيانا ، خصوصا إذا كان الخصم هو الاستعمار أو الاستبداد . وهي مفيدة في تحديد مدخلات و مخرجات الحراك السلمي المتفرد .
    لاحظ كم هو مفيد الابتعاد في مقاربة عالم الأفكار عن مثل الاستخدام :
    _ كانت لي
    _ كنت طيلة
    _ لم يكن همي
    _ ألزمت نفسي
    _ لم أقدس
    – لم أعط
    _ ثمنت
    _ تحفظت
    _ داومت
    _ تغاضيت
    _ ناديت
    إن مثل هذا المنحى يبعدنا كثيرا عن تناول و مقاربة العوائق التي باتت تثقل كاهل المتطلعين إلى الحرية و الكرامة الإنسانية ، و تساعد المستبد على استرجاع أنفاسه من ناحية ثانية .
    و على هذا الأساس يمكننا تناول أهم ما جاء في مداخلة الكاتب المحترم ، حيث قال : ” و لعل أخطر ما وقع فيه الحراك _ كنتيجة حتمية للسلبيات التي أشرت إليها _ هو الرفض المطلق لكل المبادرات و الخطوات التي قامت بها السلطة استجابة لمطالبهم، و تلك التي ساهمت بها جهات وطنية متعددة …” .
    نناقش الفقرة ، و هذا هو الأهم .
    كلام الكاتب شهادة ، فمن يكون الحكم ! ؟ هل هو سلطة الأمر الواقع ؟ هل هو الشعب ؟ أم هو القضاء المستقل ! ؟ أم هي أحزابنا السياسية التي اختفت عن الأنظار ؟
    الكاتب المحترم ، هلا تكرمت و ذكرت لنا مبادرات و خطوات السلطة التي رفضها الحراك رفضا مطلقا ؟ ثم ما هي الخطوات أو المبادرات التي رفضها الحراك أو الثوار ، و كانت من جهات وطنية ، لم تذكرها.
    هذا الذي ننتظره من الكاتب المحترم من أجل التحقق من السلبيات ، و لما تفاديها من أجل مصلحة الشعب المتطلع إلى طي صفحة الاستبداد و الفساد .
    أما عمر الحراك ، و تمثيله أو قيادته ، و أهدافه و نتائجه ، فلا يمكن ربطها بتاريخ انتخابات ١٢ديسمبر ، و لا برزنامة سلطة الأمر الواقع التي يراهن عليها الأدعياء و الأوصياء .

Exit mobile version